رأي

البشر العريفي يكتب: البدو وغياب الدولة 

ظل البدو في السودان، يعانون أشد أنواع المعاناة منذ تأسيس هذه الدولة المختلة في ميزان العدالة والمساواة في السلطة والثروة والخدمات. ولم تحظى هذه الشريحة، التي تعادل نسبتها أكثر من ثلث سكان السودان أي أكثر من (35%)، سوى بالتهميش واستغلال مواردها المادية والبشرية من قبل أنظمة الدولة السودانية.

تعد شريحة البدو الأولى في إسهامات نسبة الدخل القومي، حيث تمتلك أكثر من (107) مليون رأس من الماشية، وتمتلك الموارد الرئيسية للنقد الأجنبي، ولكن ما مقابل الأهمية الاقتصادية التي تحظى بها هذه الشريحة؟ المقابل هو انعدام الخدمات الصحية والتعليم والحقوق السياسية وغياب جميع مظاهر الدولة مثل الشرطة والمستشفيات والمدارس. 

يمكن أن تموت المرأة البدوية بسبب حالة ولادة وهي محمولة في عربة حصان (كارو) في طريقها لأقرب منطقة يتواجد بها مستشفى والتي يمكن أن تبعد (20) كيلومترًا على الأقل، أو يمكن أن يموت رجل بلدغة ثعبان أو يفارق الحياة بسبب طعنة شوكة في لحظة الترحال. إن الذي يجعل مجموعات البدو أكثر شراسة من غيرها، هو الصدامات المستمرة مع البيئة ومخاطرها التي تحيط بهم، من انعدام للأمن وكثرة الهمباتة المختصين في سرقة المواشي، إضافة إلى معاناتهم في الحصول على منطقة صالحة للرعي وتقل فيها نسبة إصابة الماشية بالأمراض القاتلة، لانعدام الطب البيطري.

ظلت الدولة السودانية أكبر عامل في إفقار الرعاة وزيادة معاناتهم، يحكي أحد أبناء عمومتي عن صعوبة الحصول على المياه لسقي أبقاره في شمال دارفور، حيث قال إنه ذهب (للدونكي) -مورد الماء- للسقي، ووجد لدى أهل المنطقة قانونًا تم التواضع عليه من قبل الإدارة الأهلية، ينص على عدم السماح بسقي المواشي! والعجيب أن الدونكي يتبع للحكومة، أي هيئة مياه الشرب. ومع ذلك، أصرّ على أن يسقي أبقاره، طالما أن مورد الماء ملك للحكومة وتأخذ منه الضرائب والجبايات، لحظتها، تدخل أحد رجال الشرطة وتحدث مع رجالات الإدارة الأهلية لتفادي حدوث أي مشكلة، فسمحوا له بسقي أبقاره، ولكن لمرة واحدة فحسب!.

إذا نظرنا للقصة، نجد أن الدولة غير أنها فاشلة في توفير الأمن والخدمات لقطاع الرحل والرعاة، كذلك ساهمت في خلق صراعات بين المكونات الاجتماعية، وتحديدًا خلقت صراعات شكلية بين العرب والزرقة، والمزارع والراعي، مع أن هذه المجموعات كانت تعيش في أمن وسلام وبينها تصاهر وتزاوج وإرث ثقافي مشترك وضارب الجذور.

إن مساهمة قطاع الرعاة والرحل لصالح الدولة ماديًا وبشريًا لا يمكن وصفه بالأرقام أو الأحداث، ولكن يمكننا بالمقابل، أن نرى بوضوح، كيف فشلت الدولة السودانية في القيام بواجبها تجاه هذه الفئة، إذ خلقت الصراعات بين الرعاة وبقية المجموعات خصوصًا في دارفور، وحرمتها من الحقوق السياسية والاقتصادية مع أن الرعاة يمتلكون موارد الدخل الرئيسية في الدولة السودانية. 

كل هذه الأسباب المتعلقة بتهميش البدو، كافية لتراكم الغبن تجاه الدولة ونظامها السياسي، وهي أسباب تجعلها تثور ضد الظلم، ويموت أبنائها من أجل تحقيق حياة أفضل، بل إنها، ولشدة إحساسها بغياب الدولة، لجأت للاعتماد على أنظمة بديلة لتوفير الحماية وتفادي المخاطر، مثل الإدارة الأهلية. وإن كان هناك دورًا للدولة، فهو لا يتجاوز فرض الضرائب وأخذ الأتاوات، وهذا ما يزيد البدو ألمًا فوق آلامهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى