أخبارتقارير

الحرفيون في السودان.. آمال معلقة على وعود حكومية

الخرطوم : الجماهير

بلا مأوى يتخذ الحرفيون في السودان الطرقات والأرصفة أماكن تشهد تجمعاتهم الكبيرة، يفترشون الأرض هم وأدواتهم التي يستمدون منها أسباب رزقهم، ويقبعون في تلك الأماكن بالساعات الطوال يقضونها في الحديث عن أوجاعهم في انتظار أن يأتي الزبون الذي يقصدهم من أجل إصلاح ما تلف في بيته أو دابته.

ويعمل المئات من أرباب هذه المهنة في ظروف قاسية فهم عرضة لأشعة الشمس الحارقة صيفا، وتحت رحمة السماء خريفاً، وبلا مأوى يقيهم زمهرير الشتاء، تفعل فيهم تقلبات الفصول أفاعيلها لينعكس ذلك على سحناتهم ووجوههم، ناهيك عن فقر عض بنابه على تلك الأجساد الهزيلة، غير أن ذلك الفقر لم يفقدهم قيم التعاون فيما بينهم، فيؤثر بعضهم على أنفسهم في سبيل أن ذهب بعض أخر بالزبون في ساعة شدة، أو جائرة زمان، أو محنة تعرض لها أحدهم، وهذه من الفضائل والقيم التي أنتجها مجتمعهم ويحرصون عليها كحرصهم على بعضهم البعض.

وتتجمع في تلك الأماكن في مدن العاصمة المثلثة الخرطوم، الخرطوم بحري وأمدرمان تلك المجاميع من الحرفيين في مجالات مختلفة مثل: البناء، وطلاء الحوائط، والكهرباء، والسباكة وغيرها من المهن التي يطلقون عليها اسم “الأعمال الحرة”، والمأساة التي يعيشها هؤلاء الحرفيين أن لا أماكن معتمدة تستوعب أعدادهم، ولا هم معترف بهم من قبل السلطات المحلية التي كثيراً ما تصطدم بهم، في كر وفر لا ينتهي من الصباح وحتى المساء، بصورة يومية، فلا الشرطة تمل من مطاردتهم، ولا هم لديهم وسيلة أخرى لاكتساب الرزق، فإن قدرت على بعضهم سيارة الشرطة في ساعة مطاردة، تكون النتيجة مصادرة الأدوات والغرامة التي يجمعونها من بعضهم لفك أسر من يقع في تلك المحنة، التي يكون ضحيتها الأسر التي يعولونها و تنتظر عودتهم بفارغ الصبر عند كل مساء جديد، بل وأحيانا يكون السجن الذي تتفاوت مواقيته هو العقوبة المنتظرة.

رحلة إنتظار تحت هجير الشمس

في أكبر تجمع لهم بمنطقة الخرطوم بحري قرب السوق الكبير، كانت الحكايات تتطاير من أفواههم، تحمل الوجع والألم لما يلاقونه من عنت يومي، وكل الذي يأملونه من السلطات أن تخلي بينهم وعملهم، فهم ليسوا في حاجة لمساعدة السلطات، ويطالبونها في ذات الوقت برفع يدها عنهم.

العم عباس رجل سبعيني لوحت الشمس وجهه وتركت فيه أثارا، يعمل في مهنة السباكة، ويعول أسرة كبيرة، لا يجيد سوى هذا العمل لمقابلة متطلبات الدراسة للأبناء.

يحكي عباس عن مهنته ومتى بدأها، ويقول إنهم في الماضي كانوا يعملون بلا رقابة وأن السلطات كانت تتدخل لتحميهم وتحترم نقاباتهم التي ينشئونها، بينما صاروا الان  تحت رحمة مطاردة يومية من سيارات الشرطة ضمن أعمال “كشة” يومية تخرج من مخابيء “المحليات” لتطارد الحرفيين في كل أسواق العاصمة، ولم تشفع للعم عباس تلك السنوات الطويلة التي قضاها في المهنة والتي بلغت الـ 40 عاماً، فالعسس لا يفرقون بين كبير وصغير، وفي سيارات الشرطة تتساوى كل الأعمار أمام معاملة واحدة لا تحترم لا سن ولا فقر ولا حاجة للعمل.

ويقول عباس، إن نقابة  الحرفيين تم حلها منذ فترة طويلة، وهم الان لا يملكون بطاقات تثبت انتمائهم لها، وإن الحكومة تبذل لهم الكثير من الوعود بتقنين وضعهم، وحتى خدمة التأمين الصحي التي ذكرت الحكومة بأنها وفرتها لهم مازالت تقبع تحت رحمة “التفاهمات” بينما لا توجد  خدمة على أرض الواقع.

الحكايا هي ذاتها، تحمل نفس الألم والوجع وانتظار ما لا يأتي، غير أن هذا الإنتظار، يسلي النفس ويوفر أملا يذهب بعض من سقم الأجساد والأرواح، وحسين الميكانيكي يتمسك بالأمل فلا سبيل غيره يعين على أوجاع الزمن أو كما قال وهو يسرد حكايته، يقول الرجل وهو يمسح عرقا تجمع على جبهته العريضة، إنه ظل بشكل يومي عرضة لمطاردة الشرطة، وإنه ظل يتفادى أن يقع في قبضتهم، إذ أن أسرته تنتظره كل مساء، فلا مال مدخر لديه، وأن اليوم الذي يأتي فيه بلا عائد مالي يعني أن لا يأكل صغاره ولا يذهبون إلى المدرسة، غير أن هذا الحرص الذي يتبعه حسين لم ينجه من قدر الوقوع في قبضة “الكشة” وهي الإسم المحلي لمطاردات الشرطة ومصادراتها لمعدات الحرفيين”، ليتعرض لمحكومية قضت بأن يدفع  غرامة مالية قدرها 500 جنيه، أو أن يبقى في السجن شهراً كاملاً، إن لم يدفع الغرامة، لكن ما أنجى الرجل من غيابة السجن تلك العلاقة التكافلية التي تجمع بين زملاء الشقاء.

ترقب حذر مخافة المطاردات الشرطية

وتمضي بنا الحكاية الحزينة لحسين الميكانيكي، ليقطع الحديث العم سليمان الذي تهدج صوته وهو يروي واقع الحرفيين المرير الذين لا يجدون أحيانا قوت يوم أطفالهم الزغب، ويقص علينا أسواء القصص وأكثرها حزناً وألماً عن يوميات هؤلاء الحرفيين وكيف أن بعضهم يمكث في السجن شهراً كاملا دون عمل، ولا يدرون وهم وراء القضبان كيف تتدبر أسرهم كفاف يومهم، وكيف أن أبناء الحرفيين مصيرهم في حالات كثيرة هي وراثة عمل الأباء حيث لا مال يمكنهم من تنشئتهم في مدارس غير الحكومية، وحتى هذه الأخيرة أثقلت كاهلهم بالرسوم الدراسية.

ويلتقط زمام عبد الله بخيت، والذي يعمل منذ “38” عاما في مهنة الميكانيكا قائلاً إن الحرفي في حالة بحث دائم عن مكان ثابت في ظل ملاحقة المحلية لهم، ويضيف أن النقابة  الحالية “الإتحاد المهني”، قدمت لهم مقترح تمليك وسائل نقل بالاقساط ولكن كل تلك وعود تبذل، مشيرآ إلي أن “النقابة” تتطالبهم بدفع مبلغ “550” جنيه لتسجيل الأسم وتمليكهم بطاقة حرفي، وهو مبلغ كبير مقارنة بدخلهم الضعيف،  وينضم للحديث الحاج عمر عثمان الذي أقبل وهو يلوح بوصفة دوائية “روشتة”، مشيراً إلى عجزه الأيفاء بحق العلاج، ويذكر أنه ظل يحمل تلك “الروشتة” أياماً بلا جدوى، فلا مال غير الذي يفي بالكاد متطلبات أطعام البطون، ويطالب عثمان بالنظر إلى قضايا الحرفيين بعدالة ومحاولة حل مشاكلهم بالجلوس إليهم.

وعلى الضفة الأخرى كنا على موعد مع صابر مصطفي محمد، الأمين العام لقطاع الحرفيين في محلية الخرطوم بحري، والذي ذكر بأن الحرفيين لا يعترفون بالنقابة، وقال إنهم قاموا بتنظيم  القطاع الحرفي ووضعوا خطة وعقدوا العديد من الشراكات لتطوير القطاع المهني في مجال التأمين الصحي أضافة لشراكة مع هيئة تنمية الصناعات لتمليك الحرفي وسائل لتقديم خدمة منزلية آنية عاجلة “وسائل نقل صغيرة”، وهو المشروع الذي أطلق عليه اسم “صمام” مشيراً إلى وصولهم مرحلة وضع السمات الأولى للمشاريع التي تشمل التدريب الحرفي، حيث تم فتح مراكز للتدريب المهني مجانآ.

 

ويقول محمود إن  تجربة مشروع “صمام” تعد من أكبر مشاريع التشغيل التى تتبناها حكومة ولاية الخرطوم، وتستهدف في الأساس قطاع الحرفيين عبر عدة محاور، أهمها توفير صيانة منزلية مستدامة فورية عبر “سنتر كول” بغرض حل كافة المشاكل التي يعاني منها المواطن في الوصول الي حرفي ماهر ومؤتمن في أعمال الصيانة.

وفيما يخص اشكاليه الحرفيين مع المحلية قال محمود إنهم قد وضعوا خطة أستراتيجية كاملة مع محلية  الخرطوم بحري لمعالجة كافة الاشكاليات، مشيرا الي أن المحلية تسعي الي تنظيم الحرفيين بدل عن جلوسهم على قارعة الطريق، موضحآ أن  القطاع  يضم سبعة وحدات  موزعة على كل محلية، ووعد صابر تمليك الحرفيين معدات ورش بتقنيات عالية خلال الفترة القادمة لافتآ إلى أن مشروع “صمام” تكلفته عالية جدا مقارنة مع دخل الحرفي لذلك عقدوا أتفاق مع هيئة تنمية الصناعات الصغيرة لعقد تفاهمات معها، ويضيف أنهم يسعون لإنشاء سوق خاص بالحرفي صاحب الدخل المحدود معتبرا أن الدولة لا يمكنها النهوض دون الاهتمام بهذا القطاع  مبشراً بأن هذا العام 2017 سيكون عاما للحرفيين.

الوعود التي تحدث عنها الحرفيون كانت حاضرة في اجابات الأمين العام لقطاع الحرفيين، فلا شيء الان على أرض الواقع، وكل ما تحدث عنه مازال رهن الورق لم يتنزل منه شيء، ليصبح مصير الحرفيين معلق بتلك الوعود المبذولة من قبل الحكومة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ