تقارير وتحقيقات

الآثار المتسارعة لحرب السودان أصبحت ملموسة في ثلاث قارات

ترجمة: الطيب علي حسن

إن من الصعوبة أن نرى ما هو أبعد من المأساة الإنسانية للحرب في السودان، فربما أن أكثر من 150 ألف شخص قد ماتوا منذ بدء القتال في العام الماضي، كما أن أكثر من 10 ملايين قد فروا من ديارهم، هذا والملايين مهددون بالموت بسبب أسوأ مجاعة في  العالم، وذلك منذ 40 عامًا على الأقل. ولعل هذه الأسباب وحدها كافية للاهتمام بالصراع الحالي، لكن انهيار السودان، الذي يقع بين أفريقيا والشرق الأوسط، ويتقاطع مع سبع دول جارة تعاني هشاشة مثله، والذي يملك نحو 800 كيلومتر من الساحل على البحر الأحمر المضطرب؛ له عواقب جيوسياسية مثيرة للقلق أيضًا.

إن السودان آلة فوضى، حيث تجتذب الحرب فيه، قوى خبيثة الأطماع من المنطقة المحيطة به، الأمر الذي يفرز حالة من عدم الاستقرار، وما لم يتوقف الصراع فإن الوضع لن يزداد إلا سوءًا؛ ذلك أنه ومع تفكك السودان، يحتمل أن تقلب الأنظمة في منطقة الساحل والقرن الأفريقي، أو أن تصبح المنطقة ملاذًا للإرهابيين، كما أن انهياره يمكن أن يساهم في تزايد هجرة اللاجئين إلى أوروبا،  وأيضًا يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الأزمة في البحر الأحمر؛ حيث أدت هجمات الحوثيين المدعومين من إيران،  إلى تعطل حركة الشحن العالمي، وهذه الحرب، كما قال إندري ستيانسن، سفير النرويج في السودان: “تؤثر بشدة على ثلاث قارات”.

إن حرب السودان حرب فوضوية، في أوقات فوضوية؛ حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية، المشغولة بكل من الصين وغزة وأوكرانيا، ونفوذها المتراجع بسبب صعود القوى المتوسطة، أصبحت غير ذات أثر في الصراع الحالي، تقريبًا. كما أن انتهاك المعايير والقوانين الدولية، وقرارات حظر الأسلحة على نطاق واسع في السودان، يتم في ظل الفشل الذريع لمؤسسات مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، وكلها مؤشرات تنذر بأن السودان قد يكون بؤرة صراعات مستقبلية في عالم فوضوي متعدد الأقطاب.

تنبع أهمية السودان من موقعه، ذلك أنه يقع في الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا، وبالتالي يشكل بوابة إلى مناطق الصحراء الكبرى، والساحل والقرن الأفريقي. كما أنه جزء من مجال نفوذ دول الخليج التي تضم البحر الأحمر، الذي يفصل شبه الجزيرة العربية عن أفريقيا في أضيق نقطة له بمسافة 30 كيلومترًا فقط. هذا، وتقع مدينة بورتسودان الساحلية، والتي تتمركز فيها القوات المسلحة السودانية، على مقربة من أبو ظبي وطهران منها إلى إنجامينا، عاصمة تشاد، الجارة الغربية للسودان.

ومن بين جميع دول الخليج، تتمتع الإمارات العربية المتحدة بأكبر قدر من النفوذ في الحرب. وتشير الأمم المتحدة إلى وجود أدلة “موثوقة” على أن الإمارات سلحت قوات الدعم السريع، العدو الرئيسي للقوات المسلحة السودانية، مما أدى إلى “تأثير هائل على توازن القوى”.  (تنفي الإمارات العربية المتحدة هذا). لكن دعم الإمارات العربية المتحدة لقوات الدعم السريع هو أيضًا جزء من استراتيجية أوسع، يريد الإماراتيون عبرها بناء شبكة من العملاء في جميع أنحاء إفريقيا بهدف هزيمة الإسلام السياسي، وتوسيع نفوذ الإمارات العربية المتحدة على البحر الأحمر، وأيضا ملاحقة المشاريع التجارية في كل شيء من المعادن إلى الخدمات اللوجستية إلى الزراعة. هذا، وقد اشترت الشركات الإماراتية عشرات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية السودانية، وفي عام 2022 وقعت اتفاقية لبناء ميناء لتصدير المنتجات. يقول مستشار في الحكومة الإماراتية: “إذا حصلوا على موطئ قدم في الخرطوم، فإنهم يعتقدون أنهم يستطيعون تأمين وصولهم إلى الغذاء والأراضي الزراعية إلى الأبد”.

أطماع دول الجوار:

في ذات الوقت، سلمت جمهورية مصر، القوات المسلحة السودانية شحنة طائرات “درون” تركية بدون طيار، وفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال، وذلك على الرغم من أن وعد الإمارات العربية المتحدة في فبراير/شباط باستثمار 35 مليار دولار في مصر،  قد يحد من هذه المساعدة العسكرية المصرية للجيش السوداني. ويبدو أن تركيا، التي استثمرت مئات الملايين من الدولارات في الصومال، تسعى للمزيد من النفوذ في السودان، حيث تزود شركة سارسيلماز، وهي شركة تركية لتصنيع الأسلحة؛ القوات المسلحة السودانية بالأسلحة الصغيرة. هذا، وتتداول أنباء عن أن قطر قد أودعت مليار دولار في البنك المركزي السوداني لدعم احتياطي النقد الأجنبي، وأنها قد وقعت مؤخرًا على صفقة لتعزيز التعاون التجاري في “الذهب” بين البلدين وذلك على حساب دبي. وفي سياق ذلك، تشعر المملكة العربية السعودية، التي لا تريد دولة فاشلة على البحر الأحمر، أنها استضافت محادثات سلام بلا جدوى.

إن الإحباط الذي تحسه القوات المسلحة السودانية، التي ترى نفسها الحكومة الشرعية للسودان -على الرغم من أنها أتت بانقلاب عسكري عام 2021-، بسبب أنها تجد دعمًا فاترًا من حلفاء نظريين مثل المملكة العربية السعودية، دفعها إلى التحالف مع إيران؛ ففي يوليو/تموز، تم استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتي كانت قد قطعت في عام 2016، حيث يقول جاستن لينش من مرصد الصراعات، وهي منظمة غير حكومية أمريكية: “تحاول كل من الإمارات العربية المتحدة وإيران التعتيم على شحنات الأسلحة التي تشحنانها إلى السودان، لكنها لا يخدعان أحدا”.

في بداية الحرب، زودت مجموعة فاغنر -شركة من المرتزقة الروس- قوات الدعم السريع بصواريخ أرض-جو، وبحسب أخبار متداولة، فإن دور فاغنر في السودان، قد دفع القوات الخاصة الأوكرانية إلى إجراء عمليات سرية ضد قوات الدعم السريع، لكن من الواضح أن فاغنر كانت أقل مشاركة في السودان منذ وفاة يفغيني بريجوزين، مؤسسها، قبل عام. هذا، وقد غيرت روسيا نهجها تجاه السودان: وذلك بعد أن أعلنت القوات المسلحة السودانية في مايو/أيار، “إنها ستسمح لها بإنشاء موقع في بورتسودان، رغم أنها “ليست قاعدة عسكرية بالضبط”، وذلك مقابل تزويد روسيا للجيش السوداني بالوقود والأسلحة.

 كلما طال أمد الحرب، كلما زاد خطر انهيار الدولة السودانية بالكامل، أو انقسام البلاد إلى منطقتين/دولتين تجد كل منهما دعما  من قبل تحالف دولي مختلف، كما حدث في ليبيا في السنوات الأخيرة، ويقول كاميرون هدسون في ذلك، وهو مسؤول أمريكي سابق: “للحصول على فكرة عن شكل انهيار الدولة في السودان، انظر إلى ليبيا” ويضيف، “اضرب ذلك في عشرة”. وما يلمح له كاميرون هو أن انهيار السودان سيكون أسوأ من انهيار ليبيا الذي أدى إلى انتشار الأسلحة والجهاديين والمتاجرين والعصابات، والذي كانت محصلته زعزعة استقرار الأنظمة في منطقة الساحل. وقد أدى هذا الاضطراب بدوره إلى انقلابات عسكرية، وظهور المجالس العسكرية بدول الساحل، وهي المجالس التي احتضنت روسيا.

جدير بالذكر أيضا، أن تعرض تدفق النفط عبر خط الأنابيب من جنوب السودان إلى البحر الأحمر للخطر بسبب الحرب، يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار دولة نفطية مزقتها الحرب أيضا. كما أن إثيوبيا قد تحاول الاستفادة من الحرب للتعدي على الأراضي الزراعية المتنازع عليها منذ فترة طويلة على طول حدودها مع السودان، كما أن عدم الاستقرار في السودان، قد يؤدي إلى إشعال فتيل الحرب الأهلية في منطقة تيغراي بأثيوبيا، أو تجدد الصراع طويل الأمد مع إريتريا، وكلاهما يحد السودان، هذا خاصة وأن إريتريا تدرب ميليشيات سودانية متحالفة مع القوات المسلحة السودانية، وقد شوهد جنود من التغراي يقاتلون إلى جانب القوات المسلحة السودانية في منطقة سنار.

في فبراير/شباط، حذرت وكالات استخبارات الأميركية من تحول السودان، الذي استضاف أسامة بن لادن في تسعينيات القرن العشرين، إلى”أن يصبح مرة أخرى بيئة خصبة للشبكات الإرهاب والإجرام العابر للحدود”. وفي سياق ذلك، يخشى مسؤولون غربيون أن تكتسب فروع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في مختلف أنحاء أفريقيا؛ مصادرا جديدة أو طرق تهريب للأسلحة والأموال والمقاتلين عبر السودان، كما أن إسرائيل تخشى أيضا، من أن تحاول إيران إيجاد طرق جديدة لتزويد حماس بالأسلحة عبر السودان.

وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال، فإن إيران قد طلب من السودان إنشاء قاعدة بحرية على ساحل السودان، ورغم أن القوات المسلحة السودانية تقول إنها رفضت، إلا أنها يمكن أن توافق على الطلب الإيراني إذا شعرت باليأس. والواقع يثبت أن تهريب الأسلحة منتشر بالفعل بين اليمن والصومال والسودان، وأن السودان قد يصبح وكيلا جديدا لإيران وعقدة أخرى في شبكتها من الوكلاء. وفي إطار ذلك، يشعر مسؤولون أميركيون بالقلق من أن الحوثيين وحركة الشباب، وهي جماعة جهادية في الصومال، كانوا يناقشون التعاون فيما بينهم، الأمر الذي يقلق هؤلاء المسؤولين، إذا ما شاركت الجماعات الإسلامية السودانية في التعاون هذا أيضا.

أيضا، قد يتغير توازن القوى في البحر الأحمر بطرق أخرى، ذلك أن القاعدة الروسية من شأنها أن تهدد المصالح الغربية، وتسهل على روسيا وإيران التعاون فيما بينهما. ولكن، إذا هزمت قوات الدعم السريع القوات المسلحة السودانية واستولت على بورتسودان، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم التوترات بين الإمارات العربية المتحدة وغريمتها المملكة العربية السعودية.

سيظل الانهيار الفوضوي للسودان، يشكل خطرا كبيرا على البحر الأحمر حتى وإن لم يحدث هذا السيناريو الأخير. يقول السيد هدسون: “إذا أصبح السودان دولة فاشلة، فلن يتوقف عدم استقراره عند البحر الأحمر”. ويحذر مالك عقار، الرجل الثاني في المجلس العسكري للقوات المسلحة السودانية: “إذا انهار السودان، فسوف ينهار القرن الأفريقي. وسوف يكون ذلك عائقا اقتصاديا كبيرا لأوروبا وأميركا.. وسوف تصبح الملاحة مستحيلة”.

إضافة إلى كل ذلك، هناك مشكلة اللاجئين، فبالرغم من أن الغالبية العظمى من 2.2 مليون شخص فروا من السودان، هم موجودون الآن في البلدان المجاورة، إلا أن الهجرة إلى أوروبا “ستكتسب سرعة متزايدة”، كما يقول دبلوماسي أوروبي. وفي فبراير/شباط، غرق العشرات من السودانيين عندما انقلب قارب يحمل مهاجرين من تونس إلى إيطاليا، كما أن منظمة أطباء بلا حدود الخيرية تقول “إن ما لا يقل عن 60% من الأشخاص في المخيمات في كاليه ومن يأملون في طلب اللجوء في بريطانيا، هم من السودانيين”.

أوضاع فاقت المتردية:

إن مصيبة السودان الأخرى، هي أن يتفكك في ظل انشغال العالم بأوكرانيا وغزة، كما ينصب اهتمام أميركا الآن، على تلك الصراعات وعلى الصين؛ أما أفريقيا، التي لم تكن تشكل أولوية حتى في أقل الأوقات انشغالاً، فقد تم تهميشها بشكل أكبر على مدى السنوات القليلة الماضية من قبل المجتمع الدولي. في سياق ذلك، تم تعيين توم بيرييلو، المبعوث الخاص لأميركا إلى السودان، في فبراير/شباط فقط، لكنه لم يزر السودان بعد منذ تقلده منصبه الحالي. وكان البيت الأبيض قد حذر من مضايقة الإمارات العربية المتحدة، ذلك أنه يحتاج إلى دعمها في غزة، هذا وقد تجاهلت كل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي الحرب في السودان إلى حد كبير.

أيضا، نلاحظ أنه وفي ظل انتهاك القانون الدولي بشتى الفظائع، وفي ظل تهريب الأسلحة وأيضا منع وصول المساعدات الإنسانية مراراً وتكراراً، إلا أن الأمين العام للأمم المتحدة لم يستخدم سوى القليل من سلطته في الدعوة إلى عقد اجتماعات؛  والواقع أن مجلس الأمن، الذي كان يرسل -في الماضي- قوات حفظ سلام لوقف القتل، أصبح مشلولا بسبب العداء بين روسيا والغرب، كما أنه استعان بجهات خارجية دبلوماسية مثل الهيئة الحكومية للتنمية (IGAD) (تكتل تجاري يضم ثماني دول في القرن الأفريقي) والاتحاد الأفريقي، وهما منظمات تمزقهما الخصومات الداخلية. ويقول كين أوبالو في ذلك، وهو باحث كيني: “إن فشل هذه المؤسسات، يقع على عاتق الزعماء السياسيين والدبلوماسيين الأفارقة، الذين يمكن القول: إنهم النخب الأكثر تهاونا في العالم”.

وباختصار، يشكل السودان تذكيرا مريرا، أن النظام الدولي يقف على أرض مهتزة، ذلك أنه وكثيرا ما يبدو تدهور القواعد التي تحكم العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية متواضعًا -إذا ما غضضنا الطرف عن العقوبات هنا، وتقويض اتفاقية تجارية هناك- بالمقارنة مع انهيار دولة ضخمة عند مفترق طرق بين أفريقيا وآسيا؛ ويعود هذا جزئيا إلى عدم الاهتمام الغربي، وإفلات القوى المتوسطة الصاعدة من العقاب، وإذا ما كان موضوع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين هو الشعور المتزايد بالاضطراب الدولي، فإن السودان هو المثال الأكثر وضوحا على ذلك حتى الآن.

المصدر: The Economist

https://www.economist.com/briefing/2024/08/29/the-ripple-effects-of-sudans-war-are-being-felt-across-three-continents 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى