رأي

الطيب علي حسن: دولة 56: أزمة اقتصادية أم إرهاصات انهيار متسارع للدولة ككل؟

بعد إعلان حكومة الجيش في الأسبوع المنصرم عدم قدرتها على تصدير البترول إلى الخارج، فإنها تعلن بذلك خروج أحد أهم مصادر العملة الصعبة التي كانت تسخرها لخدمة وتمويل الحرب. وهذا الإعلان يأتي في ظل خروج اقتصاد كل من إقليمي كردفان ودارفور من العمليات الإنتاجية والتجارية المرتبطة باقتصاد الدولة الرسمي بشكل تمام، نتيجة العمليات العسكرية التي دارت في هذين الإقليميين طوال العام الماضي. والتي كانت نتائجها أن هزم الجيش في معظم الولايات وأصبح الإقليمين -ليس كليا- تحت سيطرة قوات الدعم السريع. وخروج أهم إقليميين اقتصاديين للدولة يأتي والولايات التي لا زالت داخل عجلة اقتصاد الدولة، ويتحرك اقتصادها موفرا موردا جبائيا لحكومة الجيش؛ تعاني من تناقص حاد في الإنتاجية الاقتصادية، لأسباب تتعلق بالحرب أيضا. وكل هذا يعني تناقص قدرة حكومة الجيش على تمويل الحرب، أما معاش المواطن فأولوية ثانوية.
أيضًا، صرح وزير المالية “جبريل إبراهيم” في وقت سابق: إن الدولة لم تعد قادرة على تمويل الحرب نتيجة الانهيار الاقتصادي المتسارع، وأضاف أنهم سيلجئون إلى بيع أصول الدولة لتمويل الحرب. وما يمكن أن يستنتج من هذه التصريحات والتصريح الذي أوردته في المقدمة، أن الحكومة عاجزة اقتصاديا. وهنا يحق لنا أن نفترض أن بنية الدولة التاريخية والتي عمدت مؤخرا باسم دولة [56]  وهو مصطلح يشير إلى -دولة امتيازات الفئات الاجتماعية التي تعاونت سابقا مع المستعمر وورثت جهاز سلطته، وواصلت نفس سياساته التنموية التي تكرس للظلم الاجتماعي والتهميش- قد بدأت تنهار اقتصاديا؛ نتيجة للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تطرحها الحرب. وقبل أن نوضح هذه القضية، أجد أنه من المهم أن أوضح ما هي أهم ركائز دولة 56 التي انهارت سابقا بسبب هذه الحرب ومن ثم علاقتها بالانهيار الاقتصادي.
إن من المعلوم أن الجيش السوداني أنشئ بواسطة المستعمر تحت اسم قوة دفاع السودان، ولأسباب تتعلق بالخوف من المهدية ومجتمعاتها. كان دخوله والترقي فيه -على مستوى القيادة- يستند إلى الولاء والتعاون مع المستعمر. وليست من المفاجئ إذا ما عرفنا ذلك، أن تكون قيادته طوال فترة الاستعمار من القبائل التي أبدت استعدادًا للتعاون معه. وفيما بعد خروج الاستعمار أي المرحلة الوطنية واصلت قادة الجيش -وقتها- نفس سياسة المستعمر في القبول والترقي وتواصل تركز القيادة العليا في هذه القبائل وإلى الآن. ولكن، وبعد الاستقلال طرأ متغير مهم جدا في تاريخ السودان وهو أن قوة دفاع السودان تحولت إلى الجيش الرسمي وكان ذلك بالتزامن مع تحوله للسلطة الفعلية في البلاد عبر إنقلابات مسنود حزبيًّا. وكون الجيش هز السلطة الفعلية في البلاد لعقود طويلة جعله وامتدادته الاجتماعية الفئة ذات الامتيازات في البلاد. وهي امتيازات سياسية واقتصادية واجتماعية تتنامى بواسطة جهاز الدولة. ولا يجب أن نقفل هنا أن التزامن مع تراكم هذه الامتيازات تاريخيا في الوسط والشمال، كانت المظالم التاريخية تنمو وتتصاعد خارج مجتمعات الامتيازات، أي شرقًا وغربًا وجنوبًا. وتراكم هذه المظالم كان السبب الرئيس في نشوء الكثير الثورات المسلحة ضد الدولة وجيشها في الأقاليم المهمشة، وهي ثورات مسلحة كانت تجد سندا اجتماعيا كبيرا عن طريق التعبئة والتجيش بواسطة مقولات التهميش والعدالة والظلم الاجتماعي.

هذا السرد بغرض توضيح أن الجيش كان هو النواة الصلبة لدولة 56، وعبره وعلاقات سلطته كانت تتراكم الامتيازات في يد قيادته وامتداداتها الاحتماعية، في حين كانت المظالم الاجتماعية مصحوبة بثورات مسلحة تتراكم أيضا في هوامش السودان. وهنا لا بد من إيراد ملاحظة مهمة، وهي أن الجيش تاريخيا لم يكن ينظر إلى مظالم الهامش بجدية، وذلك ما يفسر توجهه الدائم للحسم العسكري كخيار وأولوية وكذلك انهيار معظم اتفاقيات السلام بينه وبين المتمردين. ذلك أن جذور الأزمة المسببة لحالة عدم استقرار الدولة والثورات المسلحة منذ الاستقلال لم تكن تُخاطب وتُحل لأن الجيش ونخبه ليسوا مستعدين للتنازل على امتيازاتهم. وقد كان حل الجيش دائما في مواجهة التمرد، هو تجنيد القبائل والمواطنين، وتحويل الصراع إلى صراع ديني أو عرقي أو قبلي، يبقى الصراع في الهامش ويبعده عن المركز وامتيازاتهم. وفي إطار ذلك أنشئت قوات كثيرة مساندة للجيش ليس آخرها قوات الدعم السريع.
إنه من المهم أن نقرر هنا، إنه ومنذ الاستغلال فشلت كل التمردات المسلحة في تغيير نظام الحكم في السودان ومركزه، ولكننا الآن وبعد سنة من الحرب نلاحظ تغييرات مهولة تحدث الآن في تاريخ السودان. ففي الخامس عشر من أبريل أنقسمت المؤسسة العسكرية السودانية الرسمية، وبغض النظر عن لماذا انقسمت، إلا أن ذلك يعني أن الجيش الذي يمثل النواة الصلبة لدولة 56 والحامي لاقتصادها ونظامها السياسي وعلاقات سلطتها، دخل في تناقض مع الدعم السريع الذي يمثل مصالح مجتمعات مهمشة، هي مجتمعات رعاة غرب السودان- وهناك مجتمعات أخرى فيه- بعد أن أسس لمساندته في حربه ضد التمرد في دارفور. واستنادا إلى ذلك، فإني لا أعرف الحرب الحالية كتمرد للدعم السريع، ولكن كانقسام داخل الجيش الرسمي، الذي لم يكن جيشا قوميا، فقوة دفاع السودان التي تطورت إلى الجيش السودان تمثل مصالح النخب الشمالية العسكرية والاقتصادية المسيطرة على جهاز السلطة تاريخيا. أما الدعم السريع فيمثل مجتمعات الرعاة والرحل بغرب السودان والتي همشت وعسكرت وزج بها في مرات كثير في حروب الدولة. ويجب أن يكون واضحا هنا أن استقلالية الدعم السريع قبل الحرب لها صلة بكون قيادته وجنوده من خارج دائرة الجيش ونخبه، وهنا كانت توجد بذور الصراع، فالقوتان تمثلان مصالح مجتمعات مختلفة وأي تناقض في هذه المصالح بين المجتمعات يعني المواجهة بينهما وهذا ما حدث.

على هذا فإن هذه ليست حربا بين جيش ودعم سريع فقط، وإنما حرب بينهما لكنها ذات بعد اجتماعي، والذي يفسر ذلك أنه ما إن بدأت حتى بدأ بعدها الاجتماعي يتكشف. ولعل أوضح تمظهرا لذلك هو حملات التخوين ونزع المواطنة التي شنت على جنود قوات الدعم السريع، وكذلك الاستهداف على أساس الجهة والقبيلة . وليس هذا فحسب بل إن بعدها الاجتماعي تكشف بشكل أوضح في خطابات قيادات وجنود كلا الطرفين. وبشكل أكثر وضوحا في عمليات الاستنفار، فالجيش ونتيجة لوجود امتداداته الاجتماعية شمالًا يجند ويستفر شمالا، ولم يستطع أن يستنفر ويجند غربا، ذلك أن المجتمعات في غرب السودان-العرب بشكل أكبر- تتجند لصالح الدعم السريع. وكل هذه المعطيات تدفعنا إلى أن نقرر هنا، أن تحول الدعم السريع والجيش إلى قطبي استقطاب اجتماعي، يشير إلى أنه هنالك انقسام اجتماعي حاد جدا داخل المجتمع السوداني، وهذا الانقسام الاجتماعي يعني انهيار العقد الاجتماعي المؤسس للصيغة القديمة للدولة المسماة بدولة 56. وهذه أول الركائز التي انهارت.
أيضا، إن كل هذه المعطيات وهزائم الجيش المتسارعة في ولايات ومواقع كثيرة من السودان خاصة الإقليم الغربي، حتى وإن أحتفظ بجهاز السلطة المركزي في بورتسودان؛ كلها تشير إلى أن جهاز السلطة المركزي أصبح بلا سيادة كاملة على البلاد. وبالعودة إلى نقطة الانهيار الاقتصادي المتسارع، فإنه يمكن القول إنه، عندما انهزم الجيش في هذه الأقاليم فإنه بذلك فقد سيادته الأمينة والعسكرية، التي ترتبط بالسيادة السياسية والاقتصادية، والتي يعني انهيارها انهيارهما بالتبع. وعلى هذا فإن السيادة العسكرية والسياسية والاقتصادية للجيش ودولة 56 قد انهارت في بعض الأقاليم التي تمثل مساحة شاسعة من الدولة وهي أهم ركائز دولة 56. وليست التصريحات الأخيرة الصادرة عن حكومة الجيش بصدد الانهيار الاقتصادي وعدم القدرة على تصدير البترول إلا إعلان لانهيار السيادة العسكرية الاقتصادية والسياسية للدولة على بعض الأقاليم، وهذا ما لم تشهده البلاد من قبل، وينبئ بتغييرات مهولة في تاريخ الدولة السودانية، أهما أن انهيار الصيغة القديمة للدولة يمضي بتسارع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى