رأي

الطيب علي حسن يكتب: حرب 15 أبريل كلحظة انهيار الوضعية التاريخية للجيش ونهاية دولة (56)

إن الذي ينظر للمتغيرات التاريخية الكبرى التي تطرحها حرب 15 أبريل، لا يحتاج إلى كثير من الذكاء ليدرك أن دولة (56) ممثلة في جيشها الذي كان بمثابة بندقيتها التي تحمي الحكم الإحتكاري لنخبها تاريخيا، قد انهارت تماما؛ كما أن عجز الدولة عن ضبط فضاءها الأمني والاقتصادي، رفقة متغيرات كثير أخرى، كلها تشير إلى أننا قد دخلنا حقبة جديدة من تاريخ السودان، ذلك أنه لم يعد بإمكان الجيش المحافظة أو إستعادة وضعيته التاريخية كحاكم شرعي دائما للسودان، بإمكانه أن يحافظ على سير الدولة في حال إنسداد الأفق السياسي. ولعل أهم مؤشرات انهيار دولة (56) نتيجة دك وخلخة قوات الدعم السريع للوضعية التاريخية للجيش، هو سيولة الفضاء الأمني الحالية التي تشارك في تعزيزها القيادة العليا للجيش، وذلك عبر تسليح القبائل في مليشيات وكتائب جهادية؛ وهي سيولة أمنية تشير بشكل جلي إلى استحالة العودة إلى الوضعية القديمة التي تحتكر فيها القوى الاجتماعية النهرية الهيمنة على الحكم بواسطة الجيش. وباختصار هنا، إن السيولة الأمنية التي تسود جغرافيا السودان حاليا، تهدد ما تبقى من سلطة الجيش، حيث أن الدعم السريع لم يعد هو المهدد الوحيد بعد أن أكتسب أدوارا تاريخية جديدة، وأنما كل المليشيات التي تقاتل إلى جانب الجيش، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن الحركات المسلحة، قد أصبحت تحوز عقب حرب 15 أبريل نفس وضعية الدعم السريع سابقا، ومثلما تمردوا سابقا تظل قابلية تمردهم موجودة، بل وكبيرة.

إنني أحاجج في هذا المقال، على أن حرب 15 أبريل لم تفرض متغيراتها الكبرى إلا عبر تغيرات مهولة في بنية جيش دولة (56)، حيث نلاحظ أيضا، أن وضعيته التاريخية كجيش الدولة الشرعي قد انتفت، ذلك أنه وعقب سيطرة الدعم السريع على أكثر من نصف مساحة البلاد، تكشفت الطبيعة الجهوية للجيش، بحيث أصبح ممثلا مباشرا لمصالح القوى الاجتماعية النهرية المستفيدة من الدولة التاريخية، لا كل المجتمعات السودانية كما كان يدعي، ذلك أن هذه الحرب وضعت الدولة وجيشها في تناقض مع القوى الاجتماعية الرعوية التي كانت تشكل الجيش الفعلي، وهو ما يؤكده أيضا، فقدان الجيش ودولته للشرعية الاجتماعية في نظر هذه القوى الاجتماعية، بعد أن فقدتها سابقا في نظر القوى الاجتماعية الأفريقية التي تمردت في عدة أقاليم وفترات تاريخية مختلفة، وبهذا المعنى فإن حرب 15 أبريل هي لحظة انهيار الشرعية التاريخية للجيش، ليس في نظر القوى الاجتماعية التي يمثلها الدعم السريع فقط، وإنما أيضا في مقابل مجتمعات أخرى كثيرة، كانت قد انتظمت وتنتظم حتى الآن في حراك مسلح؛ وهو ما يطرح فرضية تحول مجتمعات جديدة إلى الوضعية التاريخية التي كانت لمجتمعات عرب غرب السودان عقب حرب دارفور 2003؛ وأقصد الوضعية التي جعلتهم قابلين للعسكرة في جماعات مسلحة منظمة، مما سيؤدي إلى مزيد من المليشيات ومزيد من السيولة الأمنية. وباختصار هنا، إن هنالك مجتمعات كثيرة عقب حرب 15 أبريل، ونتيجة فقدانها الثقة بالجيش بعد عجزه عن حمايتها واتضاح الطبيعة الجهوية لهذه المؤسسة، خاصة مجتمعات وسط السودان، قد بدأت في الإنتظام في مليشيات مسلحة لتحمي نفسها، وذلك ما حدث تاريخيا مع القوى الاجتماعية الرعوية في دارفور وكردفان، وبشكل أدق، أؤكد أن المتغيرات الكبرى التي تطرحها حرب 15 أبريل ونهاية دولة (56)، ستدفع بكل من أبناء الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، وأبناء أقاليم أخرى إلى الإنتظام في مليشيات تخصهم لسد الفراغ الأمني الذي يحسونه، مثلهم مثل عرب دارفور عقب 2003. أيضا، أنوه إلى أنه ونظرا لانهيار الوضعية التاريخية للجيش، فإنه لا بد أن تكون لهذه المليشيات استقلالية عن الجيش حتى وإن ادعت أنها تتبع له، وهو ما سيجعلها ممثلا مباشرا لمصالح هذه المجتمعات وذات مطامع سلطوية مستقبلا، وبالتالي في تناقض مع الحكم الاحتكاري للجيش.

أحاجج هنا أيضا، على أن سيولة الفضاء الأمني التي تفرضها حرب 15 أبريل، تهدد بانهيار ما تبقى من السلطة التاريخية للجيش وحتى شرعيته الاجتماعية في أقاليم أخرى مثل إقليم شرق السودان، ويتأتى ذلك بالنظر إلى أن القوى الاجتماعية البجاوية كانت قد بدأت تنتظم في حراك مسلح يخصها منذ وقت باكر، وبالنظر أيضا إلى التهميش التاريخي الذي تعرضت له؛ وهو ما يطرح أيضا فرضية أن مجتمعات شرق السودان في تناقض رئيسي مع الدولة، تناقض كامن مثل الذي كان بين القوى الاجتماعية النهرية والقوى الاجتماعية الرعوية بغرب السودان، والتي كانت مجتمعات مهمشة دفعها الصراع الاجتماعي في دارفور وكردفان إلى التحالف مع الدولة. إن ما أشير إليه هنا هو، إنه مثلما كان التناقض الرئيسي بين القوى الاجتماعية النهرية والقوى الاجتماعية الرعوية كامنا ومسكنا بواسطة التحالف السياسي التاريخي بين الإدارات الأهلية والنخب المتعلمة للقوى الاجتماعية الرعوية بغرب السودان والدولة، مثلما أيضا هو كامن وساكن التناقض الرئيسي بين القوى الاجتماعية النهرية التي تهيمن على الجيش والدولة والقوى الاجتماعية البجاوية المهمشة، وأيضا بواسطة التحالف السياسي التاريخي بين الإدارات الأهلية لهذه المجتمعات مع الدولة. وحتى نفهم هذا الوضع التاريخي الجديد في السودان، وحتى نفهم المسوغات التي تبرر انهيار دولة (56) بانهيار الوضعية التاريخية لجيشها.

إن السبب الرئيسي الذي أدى ويؤدي إلى نهاية دولة (56) وجيشها، هو تحول هذه الجماعات العسكرية التي ينشئها الجيش، إلى ممثل مباشر لمصالح هذه المجتمعات، وبشكل حتى أكبر من التمثيل الذي تحظى به الإدارات الأهلية، ذلك أن تسليح الدولة لجماعات مهمشة وبالتالي في تناقض رئيسي معاها، يطلق صيرورة تشكل قيادات سياسية حديثة لهذه المجتمعات، تسحب تدريجيا التمثيل السياسي من الإدارات الأهلية، ومعها الشباب والقوى الحية الأخرى؛ وهو ما يهدد بالنهاية ذلك التحالف السياسي الذي يخفي التناقض الرئيس بين هذه القوى الاجتماعية والدولة، والذي كان يبقيه ساكنا. بإختصار، إن ما أشير إليه هنا، هو أن ما تبقى من الوضعية التاريخية للجيش ليس مهددا من قبل الدعم السريع فقط، وإنما حتى من قبل الجماعات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش في وسط وشرق وغرب السودان، ذلك أن الوضع المتردي الذي يعيشه الجيش حاليا والذي يجعله في حاجة ماسة إلى خلق مزيد من المليشيات، كان أصلا قد نشأ نتيجة ما نسميه بسياسة المليشيات، وهي السياسة التي نعرفها بأنها لجوء الجيش إلى تنظيم وتدريب وتسيلح مجتمعات مهمشة من أجل مساندته في قتال مجتمعات بدأت تنتظم وتتسلح في حراك سياسي مطلبي، وإذا ما جاز لنا استعارة عبارة لفيلسوف التاريخ والاقتصادي الألماني، كارل ماركس، وإن بتحريف، فيمكن أن نقول، إنه وفي اللحظة التي بدأت فيها دولة (56) بتسليح القوى الاجتماعية الرعوية بغرب السودان، كانت بذلك تخلق حفاري قبرها، وتسلمهم المعاول”، ذلك أن هذه المجتمعات لم لا تحمل السلاح من أجل حماية الدولة التي لا تستفيد منها، وإنما من أجل حماية نفسها بشكل رئيسي؛ وهو ما يعني أن الجيش وبتسليحه للمليشيات التي تقاتل إلى جانبه حاليا، يخلق حفاري قبره الأخرين، والذين هم قوات دعم سريع أخرى قادمة، تهدد ما تبقى من وضعيته التاريخية.

حتى أكون مفهوما بشكل أفضل، أشير هنا إلى أن تمرد المجتمعات الأفريقية وانتظامها في حراك مسلح في العام 2003م بدارفور، لم يكن مهددا للدولة فقط، وإنما مهددا لمصالح المجتمعات العربية بدارفور بدرجة أولى؛ كما أن نجاح الدولة في عسكرة المجتمعات العربية بدارفور والتي توجت بالنهاية بإنشاء قوات الدعم السريع التي تجاوز عددها 100 ألف مقاتل قبل الحرب، يعود وبشكل رئيسي إلى استفادة الدولة من المخاوف الوجودية للمجتمعات العربية في دارفور والتي خلقها تمرد القوى الاجتماعية الأفريقية، وهو كذلك السبب الرئيس في نجاح الجيش الحالي في عسكرته القوى الاجتماعية الرعوية بوسط السودان، حيث أصبح الجيش يستغل مخاوفها الوجودية من أجل عسكرتها وتنظيمها في قوة عسكرية تساعده في القضاء على قوات الدعم السريع. وباختصار هنا، مثلما عسكرت الدولة القوى الاجتماعية الرعوية بغرب السودان ضد تمرد القوى الاجتماعية الأفريقية، تعمل الآن أيضا على عسكرة القوى الاجتماعية الرعوية بوسط السودان ضد ثورة القوى الاجتماعية الرعوية بغرب السودان؛ وهو ما يعني أن قبائل مثل الشكرية والبوادرة واللحويين وبقية عرب البطانة، هم رزيقات وبني هلبة وأولاد راشد القادمين، وأن الذي تغير هو الجغرافيا فقط، لكن سياسات المليشيات ونتائجها هي هي؛ سيولة أمنية وقابلية التمرد.

إنه ومن أجل معرفة كيف أنهت وتنهي سياسات المليشيات الوضعية التاريخية للجيش ودولة (56) التي يحميها، لا بد من فهم الأسباب التاريخية البعيدة التي تقف خلق حرب 15 أبريل، والتي يمكن أن توصف كانهيار للمنظومة الأمنية لدولة (56) وذلك بالنظر إلى أن كل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع كانا جيش الدولة الرسمي. وأشير بدأ، إلى أن قوات الدعم السريع وحتى لحظة ثورة ديسمبر كانت لا تمثل بشكل رئيسي مصالح القوى الاجتماعية الرعوية التي تتكون منها بشكل أساسي، وإنما مصالح القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على جهاز الدولة تاريخيا، ذلك أنها وحتى لحظة ثورة ديسمبر كانت لا تملك خطابا سياسيا مستقلا عن الجيش، ولكنها تحولت إلى ممثل مباشر لمصالح المجتمعات التي تتكون منها، لحظة رفض الفريق أول محمد حمدان دقلو المشاركة في فض التظاهرات السلمية في ديسمبر 2018، وهو الموقف الذي جعله في تناقض سياسي مع الحركة الإسلامية التي تهيمن على الجيش والدولة، وأجبرها على الانقسام لتجنب الصدام مع قوات الدعم السريع في 11 أبريل 2019. وما نشير إليه هنا، أن موقف قوات الدعم السريع من ثورة ديسمبر، وموقفها كذلك مو انقلاب 25 أكتوبر ومن الاتفاق الإطاري عقب ذلك، كلها كشفت التناقض الرئيسي بين الجيش والقوى النهرية التي يمثلها من جانب، والقوى الاجتماعية الرعوية بغرب السودان من جانب آخر، وهو التناقض الذي كان يخفيه الخطر الوجودي المشترك الذي كان يهدد القوى الاجتماعية النهرية المهيمنة على السلطة ويهدد كذلك القوى الاجتماعية العربية في الهامش، والمتمثل في التشكيلات العسكرية للقوى الاجتماعية الأفريقية التي تمردت على الدولة؛ والذي كانت تخفيه قدرة الدولة على التحكم في بدو غرب السودان عبر الإدارات الأهلية وسياسة المليشيات كما أشرت أعلاه، ولا بد من التأكيد هنا أن لحظة تحول الدعم السريع إلى تبني موقف سياسي مختلف عن القوات المسلحة، كانت لحظة تحول الدعم السريع إلى مهدد حقيقي لدولة (56)، وأن وجود إمكانية تبني المليشيات التي تقاتل إلى جانب الجيش حاليا لمواقف سياسية مختلفة عن الجيش، تهدد ما تبقى من الوضعية التاريخية للجيش في معظم أقاليم السودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى