
(جميعنا، رجال ونساء، عُهَرَاء وعاهرات لنظام لرأسمالي، باستثناء فئة واحدة فقط: النساء اللواتي سَمَّينَ أنفسهنَّ وعَمِلنَ كعاهرات).
-مقتبس –
وأضيف: (وأشدّنا احتقاراً من قبل الجميع)
(1)
نشاهد تعاظم الأمواج يكتسح العالم، أمواج الفضائح التحرّش الجنسي المستمرة في التعالي، ولكنه يُصيبُ، هذه المرة، وربما لأول مرة، أصحاب النفوذ الذين رهنوا أنفسهم لاستمرار هذا النظام العالمي العجيب: فنانون، مخرجون، وزراء حرب، رؤساء دول..إلخ. هذا في صعيد العالم، ولكن في صعيدنا المحلّي فإن الأمر يختلفُ اختلافاً خلاقاً فيما أعتقد.
فبينما شُيِّدت القوانين منذ عشرات السنين، وبفضل الحروب المستمرة منذ بدايات القرن العشرين إلى نهايته، في الدول المسماة بـ(العالم الأول)، أصبح بمقدور النساء أن يُعبِّرن عن ما حدث لهنّ. ولكن، ماذا عن الذي يحدث لبناتنا وأبنائنا في دولةٍ يحكمها قانون النظام العام؟ ففي تلك الدول توجد بيوت الهوى متاحةً، وعندما يقترفُ أحدهم شبهةَ تحرّشٍ أو تدخّلٍ في حياةِ آخرٍ شخصيّةٍ فإنه ذاهبٌ إلى الجحيم، حتى ولو كان وزير الدفاع البريطاني أو الممثل العظيم داستن هوفمن، أو جورج بوش الأب.
(2)
أريد أن أقول، بكل صراحة، أن جميع الدول التي زرتها وقد كانت حكوماتها في عداءٍ مستمر مع تجارة الهوى، هي أشدّ الدول التي تتعرض فيها النساء –بكثيرٍ من الصمت والعماء- للاغتصاب والتحرّش، وتلتقي الطفلات والأطفال بنهايات حياتهم في بئر سايفون، أو مقبرة مجهولة في بيتٍ مجهول.
(3)
في حين أن دولاً إفريقيّةً (كينيا، يوغندا، جنوب السودان كأمثلة) لا تبتعد كثيراً عن حدودنا في السودان (الشمالي النيلي فقط، من الخرطوم ولي فوق) تبدو فيها ظاهرة التحرّش في المواصلات العامّة –مثلاً- صادمة، بينما هنا تبدو، لدرجةٍ بعيدة، مقبولة بل وأن صمت النساء يضمن سلامتهنّ!.
(4)
كنتُ سعيداً أن أستقل المواصلات العامّة في نايروبي وأجد إعلاناً على شكل أغنية تُبثُّ عبر الراديو تتحدث عن الواقي الذكري وتقول: (لا تدعيه يَلْبَسه بنفسه، ألبسيه لهُ بنفسِك)! وهي الحملة التي ساهمت في أن تصبح كينيا، أشدّ الدول إصابةً بالإيدز، أقلّهنَّ في القارة في غضون أعوامٍ قليلةٍ جدّاً.
(5)
إن الحوادث التي تحدث من قبل قانون (النظام العام) القائم على التنظير الشخصي لأفراد الشرطة –كما في حادثة أختنا ويني عمر الأخيرة، وما سبقتها من آلاف الحوادث- لا يمكن أن تَنتُج إلا عن مظهرٍ من مظاهر الكبت الشديد، الكبت الجنسي الفظيع لأشد غرائزنا طبيعيّة، كالأكل والشرب والتنفّس، وهو ما يحدث في مجتمعات مشابهة كمصر والسعودية وغيرها، بل إن الكثير والكثير من الآداب والفنون قد خرجت، منذ عشرات السنين، لتُعبِّر عن هذا القلق الذي نعيشه جميعنا. وهو قلق (الخصوصيّة) و(الحريّة الشخصيّة).
(6)
كان من الواضح بالنسبة لي، خلال رحلةٍ طويلة استغرقت أكثر من عام، وخلال البر، ما بين دولٍ ثلاث: (كينيا، يوغندا، جنوب السودان) أن خللاً كبيراً يحدث في السودان الشمال نيلي؛ خللٌ في الأعصاب، توجّه مؤخراً لتكاثر ظاهرةٍ فظيعةٍ لا يُمكن أن تُفوَّت بلا دراسة متأنية وميدانية: اغتصاب الأطفال المستمر واليومي، لدرجة أن صفحات الجريمة في الصحف اليوميّة السودانية، وفي كلّ يوم، لا تخلو من حدثٍ كهذا، لدرجةٍ تُثيرُ الغثيان.
(7)
إن اعتراضي الأساسي على التجارة لا يأتي من رفضي البّات لها، لكنني أعلم، ككل شاعر، أنها مرحلة مريرة من مراحل تطوّر العالم، أن يكون لكلّ شيءٍ مقابل، في حال أن موارد الأرض تكفينا جميعاً، بينما تستحوذ فئات قليلة على جميع الموارد، وتترك الفتات لبقيّة البشرية العاملة في جميع الحقول: تبيع عقولها، مهاراتها اليدويّة، زمنَ حبّها وحنانها، جسدها، وأعضاءها التناسلية كذلك. لأجل ماذا؟ الطعام والشراب والمسكن.
(8)
هل كان السودان الشمالي بشعاً بهذا الهياج الجنسي العام للدرجة التي تستفزّ به “مشيةُ بنتٍ” شرطيَّاً؟ في الوقت الذي كانت تُعامل فيه بائعات الهوى بحدودٍ مُحترمةٍ بينهنّ وبين المجتمع، وبينهنّ وبين سلطة الدولة؟ ها، تمّ إيقافهنّ –ونحن ندري أن من المستحيل إيقاف أقدم مهنة في العالم- فما الذي حدث؟.
(9)
إنني ضدَّ التجارة بكلّ أشكالها، إن كانت جسديّة أم ذهنيّة، بل أرى البشاعة متمثلة في البنوك والشركات والمؤسسات المحترمة ذات الكرفتات، وأرى في الشخصيات المنبثقة عن الشجاعة المتناهية التي تواجه بها “بائعات الهوى” كل المجتمع الزائف من حولهنَّ شكلاً من أشكال الاستشهاد العظيم وتجنيباً لمجتمعاتهم –هم، لست ضمنهم- جرائم مثل هتك جسد طفلةٍ ورميه في البئر.
(10)
هذه ليست بمهنةٍ هيّنة، بيع الهوى، إنها الأقسى؛ فليست هي بيعُ جسدٍ فقط، وإنما بيع أمانٍ كامل. في مرةٍ كنتُ أسير في شارع المك نمر فإذا بسيارةٍ مظلَّلة، غنيَّة جدّاً، تُنزلُ فتاةً ملطّخة الوجه بمكياجها، والدموع تُسيِّلُ كُحلها حتّى رقبتها، دفعت بها يدٌ تافهةٌ من مقعد السيارة، فما كان منها إلا وإن وقفت بحزمٍ بعد بكاءٍ قصير، مسحت وجهها بعزمٍ، أخرجت مرآةً وبدأت في تزيينه ثانيةً، ثمّ، بعد مدّةٍ –وكنتُ أراقب جزعاً من مقعدٍ اتخذته- أوقفت سيارةً أخرى، ركبتها مبتسمةً، وانطَلَقت.
(11)
زرتُ أوربا، مرةً واحدةً في حياتي لمدة شهرين، وزرتُ “الأزقة الحمراء”، ورأيت النساء في “الباترينات” معروضات كالثياب، ولكنهنَّ، على الأقل، محروسات بالشرطة، وكلّ من يتعدّى عليهنَّ يذهب إلى السجن مباشرةً، تماماً كما يذهب سارق البنك، سارق المجوهرات، والقاتل!. ولكن، هل هذه حياة؟ أن تفقد مصادر الحب جميعها لأجل آخرين، غرباء؟ في كتاب (نقض مركزية المركز) لنسويات من غير أوروبا، حيث انتقدت الكاتبات جميع النسويات الأوربيات في نقدهنّ لتعدد الزوجات في إفريقيا! وكان ردّهنّ أن ذات التعدد يحدث هناك، في العالم الأول، وبصورةٍ أبشع، ولكنه لا يُجرَّم لأن المال يُدفَع في المقابل، بينما يحترم الرجل الإفريقي نساءَه الكُثر، ويُحسن معاملتهنّ، لأنهنّ، على الأقل، أمهات لأبنائه. وجهة نظر حصيفة.
الأحصف ما وصفته صديقة أوربيّة: أكثر السيارات التي تقف في “الأزقة الحمراء” ترى في مقاعدها الخلفيّة مقاعد أطفالٍ تُميّز المتزوّجين!
(12)
علينا أن نتوقف عن النظر للعالم بهذه السذاجة: شرق، غرب، عالم أول، وثاني وثالث. يهودي، وبوذي، ومسيحي، وإسلامي، وسيخي، وملحد، وهندوسي، وعلماني، ويساري، وزفت وزفت! وإلخَ، إلخ!
إننا نعيش في عالمٍ جديدٍ تماماً، لا علاقة له بالماضي أبداً، بل علينا انتقاد هذه الهويات الزائفة أعلاه وبلا مهادنة، وبشدة، والذين يقولون (إسلاموي، ومتخلّف، ورجعي، وعلماني، وملحد، ويساري، ولا ديني، وحتّى: عدو المرأة) أن يتوقفوا ويفكروا: هل فعلاً هذه هي صراعاتنا؟ هل هذا ما يجب علينا مواجهته؟ أم الأسلحة والدمار الشامل؟.
(14)
لا أعترف بأي مقولةٍ حول (العنف ضدَّ الرجل)، أو (التحرّش بالرجال)، إذ نحن نعيش عالم الرجال بكلّ حقٍّ وحقيقة.
قالت ميسون النجومي جملة مهمّة، قالت: (واحدة من المفاهيم التي يتم فيها تمييع مسألة العنف ضد المرأة هو إصرار البعض أننا نقول أن هنالك عنفاً ضدَّ الرجل. رغم أن القضيتين مختلفتين تماماً. فالعنف ضد المرأة عنف مؤسسات، وبنى اجتماعية، كلها تعمل وتشقّ الطرق لأجل أن تبطح المرأة أمامك وتسمح لك بالتعدِّي على المرأة، لأنها، في البداية، امرأة، والأسباب الأخرى تأتي تباعاً. (مافيش زول بيعتدي على امرأة دون أن يكون هذا المفهوم حاضر وحالاً)، حتى وإن لم يقصد أن يُسهم فيه).
أتذكّر في تحقيقٍ ودِّي حدث مع رجلٍ تَحَرَّش بأخرى، قال له: لقد تَحَرَّشتَ بها، تبعتها للمطبخ والتصقتَ بها!. ردَّ قائلاً: أنا؟ أنا أتحرَّش؟ بالعكس، أنا دخلت أقطِّع السلطة، وهي جات اتلصَّقت فيني فقمتَ أنا (زَحِّيت). فقال له: (شوف، من الله خلق البشر، ماف راجل زَحَّ)!.
(13)
في نهاية الأمر، يبدو أن كل ما سردته أعلاه كان فوضويّاً وحزيناً وكئيباً، هل يمكن أن ننهيه بطريقةٍ طريفة؟ حكى لي صديق هذه الواقعة:
لم يلمس هذا الشاب فتاةً لسنوات –هذا يحدث عادةً في الخرطوم، حيث كل بيتٍ مفتوح لمداهمات كلّ من هبَّ ودبَّ، لا يملك أحدٌ بيته- جلس خلف فتياتٍ من جنوب السودان، جميلات بطريقة فائقة، وكنَّ يلبسنَ لباساً –بتصنيف شرطة النظام العام- فاضحاً بالنسبة لأبنائنا في الشمال النيلي “العربي-مجازاً” وهم (المفضوحين أصلاً)، وكنَّ في طريقهنّ لمناسبة جميلة كما هو الحال؛ كنَّ يجلسن في مقعدٍ أمامه في المواصلات العامة. لم يتمالك الشاب نفسه، فمدَّ يده بين المقعدين وهَبَشَ ذراع واحدةٍ منهنَّ، فقفزت فزعاً، وقالت لصديقتها: (الزول الورا ده مالو؟) فردَّت صديقتها، بكلّ برود: (أنسيهو، ده جنا عَرَب تعَبان ساكت).