من المحزن اكتشافك بعد عمر مديد أن جيشك السوداني منذ تأسيسه على نواة قوة دفاع السودان الموروثة من الإنجليز لم يدخل في حرب مع عدو خارجي حسب ما خُطِطٌ له، بل كل حروبه داخلية بدءًا من حرب الجنوب التي وقعت نتيجة لأخطاء ارتكبها اللاعبون السياسيون حينذاك. كان يمكن تدارك الأخطاء بتنفيذ مطالب الجنوبيين قبل الاستقلال، المتمثلة في تطبيق النظام الفدرالي وإزالة رواسب التهميش السياسي المتعمد، بيد أن السياسيين وقتها قابلوا المطالب بنوع من الفهلوة، وإن شئت سميه التجاهل، قائلين: إن مطالب الجنوبيين سينظر لها بعين الاعتبار. لم يجد الجنوبيون بد من المواجهة الخشنة في سبيل تنفيذ المطالب، ويتضح من التحشيد القبلي للقتال في حرب الجنوب أن تلك كانت فرصة ينتظرها المركز ليقوم بتوجيه مخلب الجيش لتأديب الجنوبيين، في الأثناء تعرضت قبيلة “الدينكا” طوال فترة الحرب لمضايقات على أساس عنصري وصلت في بعض الأحيان إلى القتل ولا سيما الأفراد المتعلمين منها.
مرورًا بحرب دارفور التي كرر فيها المركز المستند على الجيش نفس الأسلوب؛ باستهداف القبائل غير العربية وتحريض العرب على إخوتهم وجيرانهم الأفارقة، بدوافع أن تحرير دارفور من الجيش يعني طرد العرب منها، إذ مارس جهاز الأمن دورًا قذرًا عبر استخدامه “القبلية” كسلاح ضد قضايا التهميش التي تتبناها حركات دارفور وتصوير الحرب بأنها قامت من أجل “دولة الزغاوة الكبرى”!. ما إن هدأ ضجيج سيمفونية “دولة الزغاوة” حتى قامت محلها “دولة العطاوة الكبرى”، أي تبديل الزغاوة بالعطاوة.
يظل المركز في الخرطوم أو بورتسودان حريص على الدولة القائمة لكي يحافظ على الامتيازات التاريخية، ويطلق يد الجيش لمكافحة أي محاولة إعادة التوازن للدولة في جانبها السياسي والاقتصادي، ويعمل باستمرار من أجل الحيلولة دون أن يرى جميع سكان السودان أنفسهم في مرايا الدولة.
قبل أن يغضب المركز على “العطاوة”؛ وهو غضب مرتبط بمساس سلطة الخرطوم بواسطة ابنهم (حميدتي) الذي طالب مرارًا بالعدل والمساواة في تولي المناصب بين شعوب السودان وإيقاف احتكار السلطة على ولاية محددة؛ كان لسان قادة السلطة يلهج بمدح عرب دارفور وكردفان، وأنهم جزء أصيل من استراتيجية الدولة العربية الإسلامية في السودان.
على المستوى الشخصي، سمعت حديث من هذا القبيل من لسان ضابط الأمن في مكتب (خرطوم 2)، عندما تم استدعائي بعد نشري خبرًا في صحيفة “الوطن” استند على تصريح للناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية “قمر دلمان” ينفي من خلاله ما تداول في الصحف في ذلك الوقت حول مقتل وزير مالية عبدالعزيز الحلو في حكومة جنوب كردفان، وإصابة “الحلو” نفسه بسلاح الجيش، وذلك قبل تمرده على الدولة.
تريد السلطة عدم نفي الخبر المفتول من إحدى مراكز إعلامها، في التحقيق تظاهرت في حضرة ضابط الأمن بالغباء وإن الخبر كان بحسن نية مني، رفع الضابط رأسه من ورق أمامه ثم قال لي: “كل الدولة ومؤسساتها تعمل من أجل حماية أهلك البقارة على وجه الخصوص المسيرية والرزيقات، للأسف يتم استغفالكم بدعاوي القومية والتحول الديمقراطي من الأحزاب التي تنتمون لها”.
بين ليلة وضحاها تحول “العطاوة” إلى عدو يجب استئصاله بالإبادة الجماعية وتحريض القبائل الأخرى عليهم.
“نحن عارفنكم أهلنا الشكرية والبطاحين لو فكينا ليكم اللجام ما بتقيفوا وحتمشوا في الطريق حتى تكملوا الجماعة ديل”، خرجت هذه الكلمات من قائد عام الجيش، ومن يعتبره البعض رئيسًا للدولة، عبدالفتاح البرهان، أمام حشد من قبيلتي “الشكرية والبطاحين” في مدينة الفاو قبل يومين، وذلك في سبيل تحريضهم على تحويل الحرب الدائرة بين قوات الدعم السريع والجيش إلى حرب أهلية، لكي يكسب الجيش وقود للحرب، بعد تقاعس عدد كبير من ضباطه وجنوده من خوضها وتأكدهم من أنها حرب كتائب البراء بن مالك وحزب المؤتمر الوطني وقادة الجيش المرتبطين بهذا التنظيم.
قبل أن يمحو الهواء أثار طائرة البرهان من المهبط الترابي في منطقة الفاو، تم توزيع السلاح على المواطنين وعلى عينك يا شرطة! يشعر المرء بأسى بالغ وهو يشاهد مركز الشرطة مكانًا للتسليح العشوائي وسط المواطنين، ورئيس الدولة محرض للفتنة القبلية بدلاً من أن يقوم بدور المطافي لإخماد الفتن وسط القبائل.