رأي

تريكو البشر يكتب: لـ “الجنجويد”.. قضية أيضًا 

في الوقت الذي كان يتفاصح فيه آباء الاستقلال بمحجوبيهم وفضليهم (محمد أحمد محجوب، عبدالخالق محجوب، يحى ومحمود الفضلي) وهؤلاء أكثر ساسة السودان فصاحةً في الخطب السياسية، حددت أحزابهم قضية السودان حينها في مشكلة الجنوب، وبدأوا يلوكون الحديث في كيفية معالجتها، برز الأستاذ محمود محمد طه وهو بالطبع متفوّق على أنداده بسنوات ضوئية، يخالف ما اتفقوا عليه من تشخيص، بكتابة مقال بعنوان (للشمال مشكلة أيضًا) قال بين سطوره مشكلة الجنوب ماثلة اليوم، ولكن في دارفور مشكلة وفي جبال النوبة مشكلة وفي الشرق مشكلة وهذه جزء من الشمال لذلك نادى بالنظر إلى قضايا الشعب ككل دون التجزئة. 

ونتيجة لنبوءته تلك وقعت مشكلة دارفور بعد ما يقارب نصف قرن، اقتباساً من عنوان مقال الأستاذ نقول إن مشكلة دارفور لا تُعالج دون النظر بعين الاعتبار لقضايا “الجنجويد”. هذا المصطلح سيء الذكر لأول مرة أكتبه بقلمي منذ نشوب الصراع وظهور ثنائية (جنجويد، طورا بورا) فإذا اعتبرنا المصطلح يشير إلى “العرب” بالرغم من أن العرب ليسوا جميعهم “جنجويد رباطة”، بل فيهم تقاة لا يرتكبون من الذنوب إلا اللمم وفيهم عصاة يختشي إبليس ذات نفسه من فعائلهم. وكذلك البني آدم في القبائل غير العربية، بحكم عيشي في إقليم دارفور، وإني شاهد عيان فيه، أقدر أن أقول بكل صراحة إن العرب في دارفور لديهم مشكلة، ولدتها مأسي سنين، كانوا يلاقون انتهاكات جسيمة عند ارتحالهم السنوي إلى مناطق نفوذ القبائل غير العربية، وكنت شاهد على ضرب بوليس “نقطة ريل” شرق مدينة نيالا لعربي لا لسبب سوى “إن على حماره وسم كلمة (الله)”. دافع العربي عن نفسه بأنه “أمي” لا يقرأ، وأنه اشترى الحمار بوسمه، ومع ذلك تعرض إلى ضرب بالسياط أمام أهل السوق. ويتذكر العرب بمرارة أيام محاولة ترحيلهم من مدينة زالنجي إلى تشاد في شكل جماعات باعتبارهم غير سودانيين، ويتذكرون رفض الشرطة في  بعض الأقسام فتح بلاغات لهم وتعاملها بقسوة معهم إذا كان فاتح البلاغ ينتمي إلى العناصر الأخرى، وكيف يتعرض صاحب الأبقار الي الجلد في المحكمة حال أخطأ الراعي بدخول مواشيه في زرع، في حين أن العدالة والإنصاف  يقتضيان جلد الراعي لا صاحب البهائم!. 

استغلت حكومة النظام المباد هذا الغبن لدى العرب، وشعروا بعد غلبة العناصر غير العربية في حركات الكفاح المسلح بأنهم المستهدف الأول. لا ننكر وجود عرب في الحركات، ولكنه وجود صوري لا يتجاوز (حنك) معانا أولاد عرب. صحيح الحركات تشتكي من انتهازية وسط المجموعات التي انضمت لها وسرعان ما تشتريهم الحكومة، بالمقابل يشتكي هؤلاء من تهميش داخل جسم الحركة، لذا استفاد العرب من انقلاب الموازين بتحويلهم من أناس تحت رحمة بوليس غيرهم، إلى مسلحين وبيدهم سلطة وسلاح فكانت ردة فعلهم مركزية ومؤثرة في حرب دارفور، وتحولت القبائل غير العربية من قوة إلى ضعف، حتى اضطرت إلى الاعتصامات شبه الجماعية ضد الرعاة بدءً بـ “نيرتتي، ومرورًا بكبكابية وفتا برنو” بشمال  دارفور. ولأن الشعب السوداني مولع بالتقليد، حيث إذا أفتتح أحدهم محل اتصالات دولية ونجح، فتح مئة آخرين محلات اتصال ملاصقة للمحل الأول.. اعتصم أهالي “نيرتتي” مطالبين بالأمن وإعفاء اللجنة الأمنية للمحلية (المدير التنفيذي، مدير الشرطة، قائد الجيش، قائد الدعم السريع ووكيل النيابة)، ولما شعروا بتعاطف الحكومة معهم رفعوا سقف المطالب إلى ترحيل فرقان من العرب من العديد من القرى حول “نيرتتي” بالرغم من استجابة الحكومة بتلبية جميع المطالب، ما عدا مطلبين، ولكن لا زالوا معتصمين. ثم عجبت القصة ناس “فتا برنو” فنسخوا  الاعتصام، عندها شعر  العرب بأنهم المستهدفون، وأن الحكومة ستتعاطف معهم، لا سمح الله إذا استمرت الاعتصامات ذات الطابع القبلي، فإن من المتوقع أن ينفلت عقد الأمن وتعود دارفور إلى المربع الأول بطريقة أبشع، وهذا يتوافق مع خط أنصار النظام المخلوع الذين يسعون إلى زرع  الفوضى في  كل مكان، ليشعر الناس بأن التغيير خسارة ويتأسفون على سقوط النظام الشمولي. في “فتا برنو” وقعت جريمة بهجوم نفذه مسلحون يُرجح أن يكونوا من العرب على مقر الاعتصام، أسفر عن مقتل عشرة أشخاص، ولكن لكي يستفاد من التعاطف في مثل هذه الظروف، قام أهل “فتا برنو” أنفسهم بحرق السوق، على طريقة الرجل الدميم الذي ظهر في فيديو أثناء موكب 30 يونيو، يقول “الآن عشرات القتلى والجرحى بواسطة قوات حمدوك”، ليباغته شباب بسؤال أين القتلى والجرحى؟  صور شاب من المنطقة فيديو لحرق “سوق فتا برنو” وقال فيه إن “الجنجويد الآن يحرقون السوق، ونهبوا عشرات العربات” وأثناء تصويره، ظهر أطفال يشعلون النار في السوق.

للعلم، ليس كل الجنجويد ضد الحواكير، وأكبر قبيلة تطالب بالحقوق المكتسبة من نظام الحواكير هي “قبيلة الرزيقات”، ولا تعني عودتها منع الآخرين العيش فيها أو الانتفاع من أرض الله، لهذا يحق للرعاة ممارسة الرعي في كل السودان لا في “فتا برنو” و”نيرتتي” فحسب.

إذا كانت هناك إرادة جادة لمعالجة مشاكل السودان، فإن الضرورة تقتضي النظر إلى قضايا الجميع وتجاوز الظلامات السابقة، أما معالجتها عن طريق الاستهبال، كما كان يحدث في زمن المرحوم مجذوب الخليفة،  فتلك مصيبة تقود إلى الطوفان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى