
تعد. القضية المرتبطة بتوسعة مشروع الجزيرة لزيادة عائدات البلاد إحدى أبرز القضايا التي ظلت تستحوذ على إهتمام النخبة السياسية السودانية منذ تشكيل أول حكومة سودانية بعد إنتخابات 1953م وحتي إستيلاء الجيش على السلطة في 17 نوفمبر 1958م وإستندت تلك التطلعات على الدراسة التي أعدتها الشركة الهندسية الاسكوتلندية الاسكندر غيبز حول إنشاء خزان الروصيرص بغرض زيادة المشاريع المروية في إمتداد المناقل، إلا أن العائق لهذه الخطوة كانت نصوص إتفاقية 1929م التي قيدت أي إستخدمات إضافية للسودان من مياه النيل بموافقة مصر، ووجود تجربة سابقة وافقت فيها مصر على إنشاء خزان سنار مقابل إنشائها لخزان جبل أولياء داخل الأراضي السودانية بغرض تخزينها للمياه لمصلحتها.
لعل ما زاد من أهمية وضرورة إنشاء خزان الروصيرص للسودان هو وصول الطاقة التخزينية لخزان سنار أقصاها من إجمالي حصة السودان من المياه المنصوص عليها في إتفاقية 1929م والمقدرة بـ4 مليار متر مكعب في ما يبلغ نصيب مصر طبقاً لتلك الإتفاقية 48 مليار متر مكعب.
(…) هذه شروط مصر للموافقة على بناء السودان لخزان الروصيرص وإعادة قسمة المياه
نجد أن مفاوضات مياه النيل التي دارت ما بين مصر والسودان وما صاحبها من أحداث وتداعيات تكتسب أهميتها لكونها ألقت بظلال كثيفة على المشهد السياسي بالبلاد وظلت أثارها حاضرة طيلة لذي الفترة التي سبقت التحرك العسكري في 17 نوفمبر 1958م وحتى بعده، مع وجوب الإشارة لملاحظة مفادها أن كل جولات التفاوض التي تم إجرائها خلال قبل 17 نوفمبر ترأسها من الجانب السوداني قيادات من التيار المحسوب على مصر وليس من المجموعات المنصفة بأنها عدائية تجاه القاهرة.
ظهور السد العالي
شهدت الفترة من سبتمبر 1954م وحتي يناير 1958م عقد خمس جولات للتفاوض ما بين السودان ومصر ورد سرد لتفاصيلها بشكل مفصل في سلسلة المقالات التي نشرها دكتور سلمان محمد سلمان بعنوان (قضايا وخبايا مفاوضات مياه النيل لعام 1959م) وتطرق لها في كتابه الذي أصدره قبل أكثر من عام بعنوان (السودان ومياه النيل – النزاعات والمفاوضات والاتفاقيات ومستقبل علاقات دول الحوض).
وأشار سلمان في مقالاته تلك للعديد من الجوانب التي صاحبت تلك الجولات الخمسة، ففي الجولة الأولي التي عقدت بالخرطوم في سبتمبر 1954م بطلب من الجانب السوداني الذي ترأسه وزير المعارف والزراعة والري ميرغني حمزة بغرض عرص ودراسة خزان الروصيرص والحصول على موافقة مصر عليه كما تنص على ذلك إتفاقية 1929م في ما ترأس الوفد المصري محمد أمين الذي فاجأ الوفد السوداني بتقديم مشاريع مصرية مقترحة أبرزها السد العالي ووقتها إعترض عضو الوفد السوداني البيرطاني مستر همفري موريس –الذي طلبت منه الحكومة الإستمرار في عمله كمستشار للري- على هذا الطلب المصري بإعتبار أن غرض الإجتماع مناقشة خزان الروصيرص ولا علم للسودان بأي معلومات حول السد العالي وبالتالي رفض الربط ما بين إنشاء السدين.
كيف أثر عزل اللواء محمد نجيب وتعثر مفاوضات المياه على دعوات وحدة وادي النيل ؟!
شهدت الجولة الثانية التي عقدت بالخرطوم في نوفمبر 1954م تجديد السودان لرفضه الربط بين إنشاء سدي الروصيرص والسد العالي بجانب المطالبة بإعادة توزيع مياه النيل بين الدولتين بشكل يتيح للسودان التوسع في مشروع الجزيرة إلا أن الوفد المصري تمسك بعدم إمكانية توزيع مياه النيل قبل بناء السد العالي.
الشعور بالصدمة
عُقدت الجولة الثالثة بين البلدين بالقاهرة في أبريل 1955م وسط تحولات سياسية في البلدين ففي مصر تم عزل وإعفاء اللواء محمد نجيب من جميع مناصبه ووضع رهن الإقامة الجبرية في 14 نوفمبر 1954م، وهي الخطوة التي تسببت في صدمة وغضب شديدين لدي السودانيين لإعتبارهم نجيب سودانياً حيث ولد بالسودان وعاش فيه حتى تخرجه من كلية غرودون التذكارية ثم جاءت التداعيات اللاحقة لإقالة نجيب بتوجه مصر نحو نظام (شمولي غير تعددي) وهو التوجه التي أثار مخاوف السياسيين السودانين من تبعات الوحدة مع مصر، بجانب الاثار التي ترتبت جولتي مباحثات مياه النيل التي إعتبرتها الحكومة السودانية المنادية بوحدة وادي النيل أظهرت تشدداً مصرياً أصابها بالصدمة وخيبة الأمل.
المطالب السودانية الإضافية التي قدمت نظير موافقته على إنشاء السد العالي كانت (…)
نتيجة لتلك العوامل شرع حزب الأغلبية الوطني الإتحادي في إعادة تقييم موقفه من مساندته لدعوة وحدة وادي النيل وشكل لجنة العشرة لإعداد رأيها حول هذا الأمر ورفعه للهيئة البرلمانية لنواب الحزب وجاء قرار اللجنة مؤيداً لإستقلال السودان كدولة مستقلة والتخلى عن دعوة الوحدة مع مصر وهو أمر أربك القاهرة بشكل كبير وترتب على هذا الأمر تعكر جلسات المفاوضات بأزمات السياسة.
سبقت الجولة الثالثة زيارة وزير الري خضر حمد –الذي خلف ميرغني حمزة بعد إخراجه من الوزارة وإستحداث وزارة الري- للقاهرة وكان حمد يشغل موقع الأمين العام للحزب الوطني الإتحادي في أواخر مارس 1955م وقامت الأجهزة الأمنية بالتحقيق معه بسبب إعتزامه تصوير ونسخ قصيدة كتبها الشاعر السوداني أحمد محمد صالح –الذي زامل نجيب خلال سنوات دراسته بكلية غردون- تمجيداً له بعد إقالته بعنوان (إلي نجيب في عليائه) والتي تداولها الساسة والمتعلمين بالسودان وقتها والتي يقول مطلعها (ما كنت غدراً ولا خواناً كلا ولم تك يا نجيب جباناً)، ووقتها إعتبر الأمن المصري هذه القصيدة إساءة للثورة المصرية ورجالها، وبعد ساعات من التحقيق مع حمد تم إطلاق سراحه والشخص الذي طلب منه تصوير تلك القصيدة له وعاد للخرطوم في نفس اليوم كما كان مقرراً ذلك.
أحاط حمد رئيس الوزراء بتفاصيل وملابسات إستجوابه بسبب هذه القصيدة ولم يعترض الأزهري على تصرفه ذلك وكلفه بترأس وفد السودان في المفاوضات التي تمت في الرابع من أبريل 1955م وترأس الجانب المصري فيها وزير الإرشاد (ما يوازي وزير الإعلام حالياً) ومسؤول ملف السودان الصاغ –أي الرائد حالياً- صلاح سالم وطرح الوفد المصري ما أعتبره فوائد تعود على السودان من إنشاء السد العالي وإنتهت هذه الجولة بإتفاق الطرفين على إصدار كل طرف لبيان منفصل.
معطيات جديدة
رغم عدم توصل الجولة الثالثة لأي إتفاق ولكنها شهدت تحولات جديدة أبرزها قبول السودان لقيام السد العالي بحديث بيان وفده لأول مرة عن تعويضات سكان حلفا، الأمر الثاني هو قيام الوفد المصري بزيادة حصة السودان لـ8 مليار متر مكعب بإعتبارها تعد بمثابة زيادة 100% من نصيبه المنصوص عليه في إتفاقية 1929م، إلا أن الجانب السوداني تمسك بما أوردته دراسة عضو لجنة مشاريع النيل مستر كورى في عام 1920م والذي يقضي بالإعتراف بالحقوق المكتسبة لمصر والسودان وإقتسام ما تبقي من مياه النيل بينهما مما يجعل نصيب السودان أكثر من 20 مليار متر مكعب.
(…) لهذا السبب قرر صلاح سالم نشر خبر القبض على خضر حمد بعد فشل المباحثات