الخرطوم – الجماهير
قال الخبير المصرفي بجامعة الخرطوم، بروفيسور ابراهيم اونور،
منذ مجئ مايسمى بحكومة الكفاءات من خارج السودان بعد سقوط النظام السابق تبنت حكومة الثورة شعار سياسة تحرير الأسعار والذي يعني حسب الفهم العام عدم تدخل الدولة في توجيه أسعار السوق للسلع والعملات، وذلك حسب توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين ثبت فشل سياساتهما فى كل انحاء العالم. ولتوضيح اسباب رفضنا لسياسة التحرير التى تبنتها الحكومة الحالية من رفع للدعم وتعويم سعر العملة بدلا عن التحرير المقيد ساتناول الموضوع من منظور النظرية الإقتصادية (وهى نظرية الرفاه الإقتصادى – النظرية الثالثة) وذلك للتعرف على المحاظير التى وضعتها النظرية نفسها عند تبني مفهوم التحرير الإقتصادى. للأسف الذين تبنوا هذه السياسة كبرنامج إصلاح اقتصادي ليس لديهم فهم عميق بخصوص الموضوع فى إطاره النظري وإنما تبنوه انصياعأ لأرادة صندوق النقد الدولي، الذي يعلم سلفا بعدم جدوى سياسة التحرير فى بيئة اقتصادية كبيئتنا، ولكن ربما الحاجة للتمويل كانت سيدة الموقف بغض النظر عن تداعياتها الكارثية على المجتمع والاقتصاد، هذا إذا احسنا الظن فيهم.
وقال ل(الجماهير ) كنا تعنى حرية السوق، سواء كان سوق العملة او اسواق السلع والخدمات، عدم تدخل الدولة أو أية جهة أخرى فى تسعير أسعار السلع والعملات بل تركها لالية السوق باعتبار أن تسعير السوق هو الذي يؤدي إلى التسعير العادل ويقود إلى التخصيص الأمثل للموارد الإقتصادية. ولكن النظرية الاقتصادية التي طرحت الإطار النظري وأثبتت جدوى تبنى حرية السوق وضعت شروطا ومتطلبات لتحقيق ألية السوق والتسعير العادل للسلع والخدمات.
أول هذه الشروط عدم وجود احتكار فى إنتاج أية سلعة أو خدمات وذلك لإفساح المجال أمام ألية السوق لتسعير السلع والخدمات بالصورة المطلوبة. وجود محتكر في ظل غياب رقابة للدولة يضعف المنافسة الحرة وهى شرط أساس لأداء السوق دوره بكفاءة، حيث أن المحتكر يضعف صغار المنتجين حتى ينتهي الأمر فى النهاية لقضاء المحتكر على صغار المتجين ويصبح إنتاج تلك السلعة حصريا للمحتكر الذى سيلجأ حتماً لاستراتيجية تعظيم أرباحه من خلال تقليل الإنتاج بغية رفع الأسعار متى ما أراد ذلك. ولتوضيح ذلك نأخذ مثاليين من الواقع السوداني، قبل حوالي عقدين من الزمان عندما أنشأت مطاحن الدقيق الكبيرة فى السودان تمكنت فى أقل من عامين إخراج حوالي عشرين مطحنة صغيرة من أنشطة الإنتاج فى البلاد إلى أن تم احتكار السوق كاملاً فى خلال خمس سنوات. والأن في ظل الوضع الراهن لا يعقل أن نترك تسعير منتجات الدقيق مثلاً لألية السوق لأنه ببساطة لا يوجد سوق نحتكم عليه في تسعير الدقيق، بل المحتكر أو المنتج الكبير هو الذي يقرر ما يريده من إنتاج وتحديد أسعار المنتج. أيضاَ مشهد أخر مشابه لسلوكيات المحتكر يظهر فى صناعة الحليب بالبلاد، حيث تقوم الأن شركة كبيرة لإنتاج وتصنيع الحليب بشراء الحليب من المنتجين الصغار من أماكنهم مما أدى لارتفاع أسعار الحليب الذي يوفره صغار المنتجين لأفراد المستهلكين وذلك بغرض رفع أسعار منتجاتها المصنعة من الحليب (جبنة ، زبادى) بأكثر من 100% بعد زيادة أسعار الحليب. ولذلك يمكن القول، عند غياب الرقابة للسوق تقتضى استراتيجية تعظيم الربحية للمحتكر خلق الندرة أولاً ومن ثم زيادة أسعار المنتجات التى ينتجها إلى المستوى الذي يريده كما هو الحال بالنسبة لمطاحن الدقيق وإنتاج وصناعة مشتقات الحليب فى بلادنا.
لا ندعو هنا لإضعاف أو تعطيل الرأسمالية الوطنية فى البلاد وإنما المراد وضع ضوابط رقابية لمؤسسات الاحتكار أسوة بالدول الأخرى، حتى لا يقف المحتكر عائقاً ضد قيام مؤسسات مشابهة له وقتل روح الابتكار فى المجال من خلال إستراتيجيات المحتكر التى تهدف دائماً إضعاف المنافسة.
فى محاولة لرصد زيادة أسعار بعض السلع الأساسية خلال الأربعة شهور الماضية قمنا بمتابعة زيادة الأسعار لتقدير معدل زيادة الأسعار وذلك لحساب معدل التضخم الشهري ياستخدام نفس مؤشر (لاسبر) الذي تستخدمه مصلحة الإحصاء لحساب معدل التضخم السنوى. وجدنا أن متوسط الزيادة الشهرية بلغ حوالي 25% مما يعني أن معدل التضخم السنوي يعادل حوالي 250% في المتوسط. استخلصنا أيضاً فى نفس الدراسة أن 78% من إرتفاع الأسعار ليست لها صلة بعوامل اقتصادية حقيقية، وإنما نتيجة لغياب الرقابة على السوق ونتيجة لاستغلال وجشع التجار.
خلاصة القول اهم سببين لفشل سياسة التحرير الاقتصادى فى السودان هما غياب المنافسة فى معظم السلع والخدمات باعتبار وجود احتكار فيهما بالاضافة للضعف الرقابي للدولة فى آدارة سياسة التحرير.