رأي

خور الورل: البدايات،الذاكرة والجذور “إحداثيات متوحشة ومسارد عن الكراهية” 1-4

عادل كلر

“أنا أعتقد أن من المهم، إعادة التفكير في الشروط الثقافيّة للأخلاق، أن نتذكّر أن ليست كل العلاقات الأخلاقية قابلة لأن تُختزل إلى أفعالٍ حُكميّة، وأنّ القدرة على الحكم نفسها تفترض مسبقًا علاقة قائمة من قبلُ بين الحاكم والمحكوم”..(1)
(جوديث بتلر)

فجرت جريمة اغتصاب المعلمات الأربع وما تلاها من أحداث حرق وإتلاف وتعد بمعسكر “خور الورل” بالنيل الأبيض، غرة أغسطس المنصرم، مواقف شتى راوحت ما بين المحلي والعالمي؛ واحتلت صدارة المشهد الاعلامي لحين غير يسير.
وإذ نجدد إدانة الجرم الشنيع في حق “نساء” معلمات بريئات، ندعو بحسم لمعاقبة الجناة، وتعويض وجبر الضرر، بأعجل ما يكون، وإيلاء أمر المعسكرات ما يلزم من تدابير كفلتها المواثيق وتمليها شرعة القانون، على النحو الذي يصون أنفس وحقوق كافة الأطراف.

1- أغسطس: كوستي في خضم هيجاء لا ترعوي!

نهضت إثر تواتر أنباء الحادثة؛ غضبة شعبية عارمة من فرط شناعة الجرم، واستنكارا لخرق مبدأ حسن الضيافة والمساكنة -وهنا أستعير صوت الراوي- من قبل أطراف تحشدت منطق النخوة وأخلاق الكرام، بيد أنها أعتورت بكثير عنصرية وكراهية وتعميم، استعار مفردات تعود الى تواريخ حملات القنص وتجارة الرقيق، مشفوعة بتوجيه سياسي رفيع -سابق- يقضي ب”إفراغ المدن السودانية من لاجئة الجنوب”!
في ذات مشاهد البؤس التي أدركتها البلاد (للمفارقة التراجيدية!) في الاثنين “المشئوم” 1 اغسطس 2005 في عقابيل رحيل النائب الأول د. جون قرنق حيت ذكراه الغمام، وما جرى من استهداف متبادل بذريعة اللون والدين والهوية، وفي ما تلى عملية “الذراع الطويل” أو غزوة أم درمان التي شنتها حركة العدل والمساواة صبيحة السبت 10 مايو 2008، وما استتبعته من ترصد على مظان السحنة والإثنية واللسان.
حملات “كشات” لأبناء الجنوب بذات نهج “كابويات” دفار الخدمة الإلزامية في تسعينيات القرن المنصرم، اعتداءات وإساءات و”تحرش” بمن هم محل إقامة وطول مساكنة ترقى ل(مواطنة) كاملة الدسم: طيب وطول عشرة وخدمة بالمنازل والمحال، في معنى العمل اللائق والكريم، ذيوع قاموس عصر “الزبير باشا رحمة” و”محمد خير الإرجاوي” و”ود ابراهيم” سدنة عصور الرقيق في القرن التاسع عشر.
في ذات المدينة التي خرجت من رحم حداثة “الخواجة” وصلب النقل النهري والسكة الحديد 1909 وميناؤها: الشريان في 1938 “كان جنوبيا هواي”، المدينة ليبرالية الطابع واشتراكية الطباع -حتف أنف اليمين فيما كان وانطوى!!، مدينة يتآخى فيها وافدو الشمال مع وافدي الغرب والشرق، تصالحا وسكنى وإخاء كريم مع المكون الأصيل: الشلك وما جاورهم من أعراب سليم والحسانية والأحامدة والصبحة والشنخاب والعبيساب والبزع، في تآزر وإرتباط مع مفردات الدينكا والأقباط والهنود والزاندي.. إلخ نسيج سودان مليون ميل ناصع وفسيح، بإهاب المدينة الذاهب في (التحديث) وطلب (الحداثة).. “يقوم ويقع” كأجمل ما يكون”، مدينة المساجد العتيقة: الديك أبو حبل، الأحمدين، خوجلي، محمد عمر، مدينة الكنائس الحميمة: مارجرس، الإنجيلية، الكاثوليكية، كمبوني، قوز السلام، ومعابد الهنود (المنزلية) ناهيك عن أسبار الكجور في كادوقلي والإنقاذ..!
فما الذي جرى في أعقاب 1 اغسطس؟
قياسا على التحليل-المجادلة الرفيعة ل د. خديجة صفوت عن حظوظ ذيوع الاسلام السياسي في السودان والذي أرجعته الى “الخلفية الطائفية للحياة السودانية التي لم يملك الحزب الشيوعي التأثير فيها جراء المسافات والادغال الريفية والبدوية السودانية الهائلة”، وتضيف ان “الطوائف الدينية السودانية قمينه بطبعها وتاريخها وتكوينها ان تؤلف للإسلام السياسي السوداني سفر تكوينه (…) وراح الاسلام السياسي السوداني يستقطب قواعد الاخيرة فتمأسس فوقها زيادة على ما كان جفاف الساحل والسافانا في سبعينات فثمانينات القرن العشرين، قد قيضه من النازحين الى المدن، فيما شارف الهجرات العنيفة احيانا كثيرة. فان هاجرت تلك القواعد الى المدن اعدادا متضورة لا منظمة فقد قيضت تلك القواعد للإسلام السياسي”. إ،ه. (2). 
وعليه، بفحص التغيرات الهيكلية التي انتاشت المدينة، في المستوى الاقتصادي مقرونا بالعوامل السياسية منذ العام 1991 وصولا للفترة الانتقالية 2011- 2005، والهجرات من المدينة خارجا ومن الريف للمدينة، وتغير أنماط الانتاج بتدمير مشاريع النيل الأبيض للإعاشة ومؤسسة النيل الأبيض الزراعية، والبنية الانتاجية الأخرى، وقبلا تغيير التركيب الديموغرافي، ولا مندوحة من اللاعتراف بحقوق جميع السودانيين في التنقل والتملك والاقامة، للريف قيم وخصال وخصائص شأنه والمدينة، إنما التمايز بالنوع المرتبط بطبيعة الحياة نفسها؛ وعليه، سنكون أمام حقيقة واضحة: ثمة نسخ (Copies) من المدينة، في معنى حصاد هشيم الإنقاذ وجرائره على حيوات السودانيين.. وآلة الإعلام الجماهيري الموجه، في التلفزيون والاذاعات والصحافة والانتاج الفني (ذاتو!): من “دخلوها وصقيرا حام” مرور ب”نحن الفوق رقاب الناس مجرب سيفنا” لعقد الجلاد، وليس ابتداءا بالعطبراوي في “وكثيرون في صدورهم تتنزى الأحقاد والإحن”!.

هي المدينة إذن بسمت إنقاذي كامل المعالم
وفي تمام عهدها الريفي الجديد وعسف البادية(*)

وأقتبس في ختام هذا المسرد، من قصة الصديق آرثر قبريال (عطسات):
“كلاهما معتوه. أراد الامبراطور أن يمحو حقائق تاريخية بتسجيل تاريخ آخر لنفسه، أما معتوهنا الذي ولد نتيجة لقاء عابر لرجل مجهول مع أمه التي كانت… ربما أراد أن يلغي من الذاكرة شيئا يحس به داخل نفسه، لكن مالا يعلمه المعتوهون جميعا أن التاريخ يكتب بأشياء أخرى لا تحرق ولا تقتل”(3).

(1) الذات تصف نفسها، ترجمة: فلاح رحيم، منشورات جامعة الكوفة.
(2) إستباق التجربة الديمقراطية السودانية بالأوليجاريكات الأسراتية، مقال، موقع الحوار المتمدن، نشر بتاريخ 1/ 8/ 2016.
(3) كتابات سودانية، العدد 16، يونيو 2001، ص93.

(*) ثمة صراع تاريخ تاريخي ما بين مدن الولاية وأريافها؛ أحدى أبرز تجلياته مؤخرا كانت إقالة معتمد كوستي “العراقي” الى ربك في عهد الوالي السابق “الشنبلي”، فيما تتندر مجالس المدينة على هجوم أقوام شمال الولاية على المناصب (سلطة وثروة) لدرجة أن مسئول رفيع أطلق على مؤسسات الولاية (إم تي إن-قرايب)، ولست معنيا بأقاويل المجالس بقدر التحليل الاقتصادي أس التغير الديمغرافي، إنما لزمت الإشارة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ