د. عبد المطلب صديق يكتب.. لا قيمة لأي تشريع لا تسبقه دراسة لتحديات الواقع
2017-12-26آخر تحديث 2017-12-26
6 3 دقيقةقراءة
د. عبد المطلب صديق مدير تحرير الشرق القطرية
في مفارقة تستحق الدراسة والتمحيص، يعتبر السودان من أكثر دول العالم تعديلا لقوانين الصحافة والمطبوعات والنشر. فقد صدرت عدة قوانين منظمة للعمل الصحفي في السودان؛ كان أولها في عهد الاستعمار وجاءت الخطوة في مسعى منه للسيطرة علي الحريات التي منحت من أجل المواءمة بين حريات التعبير والسيطرة على النشر. وفي السودان كما هو الحال في الدول العربية فان فلسفة القوانين الصحفية مستمدة من روح سياسة المستعمر حيث رحل المستعمرون و بقيت القوانين، وظل أتباع سدنة أهل السلطة يزينون للحكومة سن وإصدار القوانين المقيدة للحريات ويثيرون من الجدل والصراع واختلاف الرؤى ما يفوق اثر القانون نفسه والشواهد على ذلك كثيرة ومثيرة.
أفاقت الخرطوم ذات صباح على أول قانون للصحافة صدر في العام 1930 وقد استمر هذا القانون إلى ما بعد الاستقلال حيث صدرت لائحة تعديل في العام 1965وتبعتها عدة لوائح منظمة للعمل الصحفي إلى أن صدر أول قانون في العام 1973.وقد تبعته عدة قوانين وهي علي التوالي (1973-1406هـ -1993- 1999 عدل في العام 2001 – 2004 وقد آخر هذه القوانين في العام 2009) وقد وجد كل قانون حظه من النقد والترحيب .
كان الهدف من هذه القوانين وفقا لديباجة الإصدار، تنظيم مهنة الصحافة والارتقاء بالمستوي المهني للمشتغلين بمهنة الصحافة وذلك من خلال تقديم خدمة صحفية ترضي القارئ والاهتمام ببيئة العمل للمؤسسات الصحفية وضمان وضع حد أدني لأجور الصحافيين والعاملين بالمؤسسات الصحفية،لكن واقع الحال يقول إن ما ورد في ديباجة هذه القوانين لم يكن أبدا يكشف الحقيقة من دوافع إصدار القوانين بل كان المشرع يسعى إلى السيطرة على وسائل الإعلام والتضييق على الحريات الصحفية ظنا من أنها السبب في كل الويلات التي تعاني منها الدولة.
وقبل أن نحاكم مردود قانون الصحافة لسنة 2009 علينا الاطلاع على دوافع إصداره، حيث قيل انه جاء متماشياً مع الدستور العام للبلاد في منح المزيد من هامش الحرية كما منح الاتحاد العام للصحافيين حقه في منح السجل الصحفي علي أن يمارس المجلس سلطته في وضع المعايير المهنية والشروط اللازمة لتسجيل الصحفيين بالتنسيق مع الاتحاد العام للصحفيين السودانيين. وقد اقتصر أداء المجلس علي الصحافة ومعيناتها فقط بصدور قانون الصحافة لسنة 1999 ليصبح بذلك المجلس تحت مسمى المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية بدلاً عن مجلس الصحافة والمطبوعات الصحفية.
ووفقا لمردود القانون على الواقع العملي نجد أن الصحف عانت من ويلات الإيقاف والمصادرة وترشيد العاملين وضعف البنية الهيكلية للمؤسسات الصحفية وعدم الالتزام بحماية حقوق الصحفيين ورعاية مصالحهم وتمكينهم من أداء عملهم وواجباتهم. ولان حساب الحقل لا يطابق حساب البيدر كما قال أديبنا الأريب الطيب صالح، فان تجربة قانون 2009 لم تؤد إلى أي من المزايا المذكورة على ديباجته، فقد كان سيف الرقابة مسلطا على آلات الطباعة وقرارات الإيقاف قريبة من بوابات المطابع ودور النشر الصحفية ، وعلى جانب الممارسة فلت العيار في إطلاق التهم جزافا والإساءة مراءاة والتكسب بالكلمة جهارا ونهارا ، ونتج عن ذلك التفلت والانفلات الواقع الإعلامي الحالي بكل سوءاته فجاء التعديل الجديد كما التعديل الذي سبقه منصبا على التضييق والعقاب وشروط منح السجل الصحافي والتصديق بإنشاء المؤسسات الصحفية والإعلامية، والواقع العملي يشير إلى فوضى عارمة فعدد الصحف الصادرة في الخرطوم من حيث الكم لا تضاهيها الصحف في اعرق الدول الديمواقراطية ويقابلها من حيث النوع تجاذبات قضائية وإدارية لا توجد في أكثر الدول ديكتاتورية. والسبب في ذلك أن القوانين الصحفية السابقة ليست مبراة من عيوب التعصب المهني حيث يتلون القانون بصبغة العصبة التي وضعته ويصبح عقابيا حازما ضيق الماعون عندما تغلب عليه سلطة التشريع والإدارة والسياسة والانتماء الحزبي ، وينقلب تارة إلى حالة السيولة القانونية عندما يسيطر على تشريعه أهل الإعلام وحدهم مثلما حدث في قانون 2009 ، والنتيجة في الحالتين هي الفشل ، لقد فشل قانون 2009 واضطر المتنازعون للاحتكام الى سلطات الأمن أو الشرطة والقضاء ، وبتحليل ذلك القانون نجد انه قانونا عاما ناقش هيكل المجلس وتكوينه واتحاد الصحفيين وصلاحياته لكنه اكتفى بثلاث مواد خجولة خصصت للقضية الأساسية التي هي روح القانون وهي تنظيم العلاقة بين المؤسسات الصحفية والأجهزة الحكومية وفض نزاعات النشر الصحفي.
واقع العمل الإعلامي والصحفي يشير إلى حاجة ملحة لتشريع يعالج كافة قضايا النشر دون حصرها في العقوبات والثواب والعقاب وبث روح القانون في شريان المؤسسات الصحفية وتقديم الدعم السياسي والتشريعي والمعرفي لها لتقوم بدورها الرقابي والتنويري والتنموي للمجتمع السوداني وتصبح وسيلة للبناء والتعمير والوحدة.
لماذا لا ينص القانون صراحة على الكيفية التي يتم بها النشر في قضايا الفساد ومكافحته والنشر العنصري وخطورته وإثارة المخاوف وزعزعة المجتمع وما يتبعها من مخاطر على الأمن المجتمعي.
لقد كان من واجب الدولة المساهمة في إدارة حوار وعصف ذهني من خلال عدد من المؤتمرات والمنتديات حول القانون الجديد للصحافة والنشر الالكتروني وليس مجرد إطلاق تعديلات جزئية هدفها زيادة قبضة السلطة على المهنة دون النظر في كامل مشكلات النشر.
تعاني معظم دول العالم من مشكلات جذرية في معالجة التطورات المتسارعة في صناعة الإعلام ونحن في السودان بحاجة الى حوار مجتمعي شامل حول الحريات الإعلامية تتداخل وتتصارع فيه كل السلطات ويجب إن يسبق ذلك دراسات إستراتيجية للواقع الإعلامي بقياس الفجوة التشريعية وتحديد التحديات والانطلاق بعد ذلك لمرحلة القانون الناظم والقوي والداعم للمسيرة الإعلامية، والا فان القانون لن يكون سوى سلطة القوة التي تمنى بالسقوط أمام اختبارات الواقع العملي وتعود ساقية الرقابة القبلية و الضبط والقبض والمصادرة.