اخرى

(سيدان) يتحالفان ضد الأزهري

 

تحقيق: ماهر أبوجوخ

 

مع بزوغ الساعات الأولي من صباح يوم الإثنين 17 نوفمبر 1958م فإن ذلك التوقيت لم يكن إيذاناً بنهاية العهد الديمقراطي الأول بالبلاد الممتد منذ أول إنتخابات أقيمت بالسودان قبل الإستقلال في العام 1953م، وإنما كان بمثابة إدخال للجيش لحلبة السياسة، ومثلما كانت التجربة السودانية سابقة في التحرر والإستقلال جنوب الصحراء فإن أثر تجربته السياسية بإقحام الجيوش في مضمار السياسية لم يقتصر أثره على السودان وإنما إمتد ليعم أنحاء واسعة من القارة الإفريقية حينما فتح إستيلاء الجيش على السلطة صندوق (باندورا) واخرج الانقلابات العسكرية من قممه.

تقول الأسطورة الإغريقية أن باندورا إمتلكت صندوقاً أعطاه أياه زيوس وأمرها ألا تفتحه ولكنها فتحت ذلك الصندوق الذي كان يتصمن كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن،ووقاحة ورجاء، وبعد فتحها لذلك الصندوق خرجت كل شرور البشر منه، فأسرعت باندورا لإغلاقه ولكن بعد فوات الأوات إذ خرجت جميع تلك الشرور ولم يتبق في الصندوق من الشرور إلا فقدان الأمل الذي لم يصيب البشر.

إكمال الصورة

نسعي من خلال هذا التحقيق التقصي والإحاطة بالظروف والوقائع التي سبقت إستلام الجيش للسلطة في 17 نوفمبر 1958م عبر تجميع المعلومات المتاحة المرتبطة بهذه الحقبة سواء عبر المصادر الصحفية خلال تلك الحقبة ومحاولة إيجاد تفسيرات وتوضيحات لها من قبل بعض المتابعين للأوضاع السياسية، مع إيلاء قدر كبير للمعلومات المستقاة من سلسلة الوثائق الأمريكية عن السودان خلال تلك الحقبة التي قام بترجمتها الاستاذ محمد على صالح بإعتبارها حوت معلومات مهمة في ما يتصل بهذا الملف.

(…) هذا هو الأساس الوحيد للإئتلاف بين الأنصار والختمية بعد لقاء السيدين

 

إن الهدف الأساسي لهذا التحقيق ليس تبرئة أو إتهام أشخاص أو كيانات معينة وتحيملها مسؤولية إقحام وإدخال الجيش لسواح السياسة وإنما يسعي في المقام الأول للنظر للوقائع والأحداث عبر تجميع الوقائع المرتبطة بها بغرض إكمال الصورة لمعرفة الظروف والملابسات التي إسدل الستار عليها بموسيقي تصويرية ختامية على إيقاع المارشات العسكرية تم بثها من المذياع، وهو الذي تكرر لاحقاً لمرتين بخلاف تجارب أخرى صمد بعضها لأيام أو ساعات أو أجهض قبل تحركه.

أبعد من السودان

في ذات الوقت من الضروري عدم إغفال الاثار المترتبة على التحولات السياسية بالسودان على التجربة السياسية الإفريقية لدول جنوب الصحراء التي كانت تعد التجربة السودانية الإستقلالية والتحررية بمثابة الملهم لها.

لذلك فمن البديهي أن تكون تجربة إقحام الجيوش في السياسة -مع إستصحاب العوامل والأثار المرتبطة بالصراعات الإقليمية والدولية خلال تلك الحقبة- بالمسرح السوداني مؤثرة ومحفزة لتكرر التجربة ولذلك نجد أن الإحصائيات تشير إلي أن الفترة من 1966-1976م شهدت حوالي مائة محاولة إنقلابية ناجحة وفاشلة في الدول الإفريقية، وحتي العام 2004م فإن القارة الإفريقية شهدت 85 إنقلاباً نجح في الإستيلاء على السلطة، وبالتالي يمكننا القول بأن الأثار المتربة على ما حدث يوم الإثنين 17 نوفمبر 1958م لم يقتصر على المشهد السياسي السوداني ولكنه ترك أثار مستقبلية لاحقة في العديد من الدول الإفريقية، وفي ظل التنافس والتجاذب بين المعسكرين الشرقي والغربي فقد مثل عامل مشجع ومحفز لإنتهاج نهج الزج بالجيوش في السياسة.

تحدي الأزهري

قد ينظر البعض للتداعيات المرتبطة بـ 17 نوفمبر 1958م بإعتبارها وليدة تعقيدات المشهد السياسي جراء حالة الإنسداد السياسي للحكومة التي كان يقودها السكرتير العام لحزب الامة عبدالله خليل بسبب الخلافات التي ضربت إئتلافه الحكومي الذي تأسس مع حزب الشعب الديمقراطي -الذي تتم رعايته من قبل زعيم الطائفة الختمية السيد على الميرغني في إعقاب إنقسامهم من الحزب الوطني الاتحادي الذي يقوده إسماعيل الأزهري- ولكن نجد أن ذلك الواقع لم يكن وليد اللحظة ونتيجة للقضايا التي برزتها حينها وفاقمت من الخلافات الحكومية الداخلية -التي سنتظرق لها بالتفصيل خلال الحلقات القادمة بإذن الله- وإنما جاءت كتشوهات ولد بها التحالف الحكومي الذي نشأ بين طائفتي الأنصار والختمية وقاد عبدالله خليل لرئاسة الوزارة.

كيف أثرت التجربة السودانية في إقحام الجيش بالسياسة في 17 نوفمبر 1958م على القارة الإفريقية ؟!

 

نجد أن الإئتلاف الحكومي الذي تأسس ما بين حزبي الأمة والشعب نشأ جراء عدة معطيات بدأت في التبلور منذ الربع الأول للعام 1955م بتحول موقف الحزب الوطني الإتحادي الذي يقوده رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري والحائز على أغلبية المقاعد البرلمانية في إنتخابات 1953م من تبني شعار (الوحدة مع مصر) للإنتقال لمساندة خيار الإستقلال وقاد هذا الأمر لحدوث خلافات داخل الوطني الإتحادي بشكل أساسي مع التيار المرتبط براعى الطريقة الختمية السيد على الميرغني وهذا بدوره أثر سلباً على علاقات الأزهري مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر وبلغ التوتر ذروته بين الرجلين خلال إحتفالات ثورة 23 يوليو 1955م الذي نظم بالقاهرة حيث تم إحراج الأزهري بعدم إجلاسه مع رؤساء الدول والحكومات وإنما على ناحية جانبية رغم شغله لموقع رئيس وزراء السودان وتزامن زيارته تلك مع حملة ناقدة في عدد من الصحف المصرية.

أما على المستوي الداخلى فإن تصاعد الخلافات وسط الوطني الإتحادي بسبب التحول الدراماتيكي صوب الإستقلال من قبل الأزهري ورفاقه أدي لتفجر الأوضاع داخل الحزب وتم في يونيو 1955م إبعاد وزير الأشغال محمد نورالدين ووزير الثروة الحيوانية بولين الير بسبب موقفهما المساند للوحدة مع مصر، لتتفجر الأوضاع لاحقاً داخل الحزب بقيام البرلمان بسحب الثقة من حكومة الأزهري في العاشر من نوفمبر 1955م بتأيد 49 نائباً لقرار سحب الثقة مقابل تصويت 45 نائباً لمصلحة الحكومة ولكن بعد خمس أيام تمكن الأزهري من العودة لرئاسة الوزارة مجدداً بعد فوزه على منافسه ميرغني حمزة ب48 صوتاً مقابل 46 صوتاً.

لم تكن نتيجة ذلك التصويت على الحكومة عودة الأزهري فقط ولكنها أظهرته أكثر قوة في مواجهة راعى طائفة الختمية السيد على الميرغني المساند للوحدة مع مصر وفي مسار أخر جعلت الازهري أكثر قرباً لحزب الأمة المساند لخيار الإستقلال، وأظهر الأزهري تحديه للميرغني بإدخال كل من يحي الفضلي ومحمد المرضي للحكومة المعروف عنهما إبتعادهما عن الختمية بشكل كبير، لينتهي الخلاف مستقبلاً بين الطرفين بتكوين الختمية لحزبهم الخاص تحت مسمي (حزب الشعب الديمقراطي) الذي ترأسه الشيخ على عبدالرحمن.

إثنين ضد واحد

المواجهة التي خاضها الأزهري في مواجهة راعى الحزب السيد على الميرغني كان مؤشراً خطيراً لا يقتصر تهديده على الطائفة الختمية وإنما يمتد أثره ليطال حتى حزب الأمة وطائفة الأنصار لاحقاً وهو ما جعله –أي الأزهري- ظاهرة تهدد مستقبل سيطرة قادة طائفتي الأنصار والختمية وتأثيرهما على العملية السياسية، ويبدو أن هذه المخاوف هي التي فتحت الطريق أمام إلتأم لقاء ضم إمام الأنصار السيد عبدالرحمن المهدي وغريمه مرشد الطريقة الختمية السيد على الميرغني والذي عُرف بمسمي (لقاء السيدين) في الأسبوع الأول من ديسمبر 1955م ومثل هذا اللقاء الأرضية التي تشكل على أساسها تفاصيل المشهد اللاحق في البلاد.

نتائج إنتخابات 1958م فجرت تناقضات إئتلاف السيدين بسبب (…)

 

من السهولة التوصل إلي أن المحرك الأساسي للقاء السيدين خلال تلك الحقبة كان يهدف في الإساس لوقف النفوذ المتنامي للأزهري والساعي لتأسيس مركز سياسي بخلاف المركزين الموجودين ممثلين في بيتي (المهدي) و(الميرغني) بالإعتماد على قطاعات حديثة، وهو أمر في حال نجاحه كان سيترتب عليه أثار وخيمة على الحزبين التقليديين، ولعل هذا التخوف مثل نقطة الإتقاق والإلتقاء الوحيدة لتأسيس ذلك التحالف المتنافر الفاقد للإنسجام في الرؤى والتوجهات في ما ظلت بقية القضايا والمواقف المتناقضة بين الطرفين مكتومة لحين القضاء على كابوس الأزهري.

محاولة الإفلات

تمكن الأزهري من الحفاظ على حكومته لحين تحقيقه للإستقلال في الأول من يناير 1956م وتجنب أي محاولة لإسقاطها وتحقيقه لحلمه وأمنيته بأن يرفع علم الإستقلال في عهده وهو ما تحقق وكان بمعيته زعيم المعارضة في البرلمان محمد أحمد المحجوب، إلا أن قدرته على المناورة بعد تحقيق الإستقلال تقلصت وإضطر في شهر فبراير 1956م لتكوين حكومة عريضة تعد أول حكومة يشارك فيها وزراء من حزب الأمة.

شهدت المباحثات الخاصة بتشكيل هذه الحكومة تنازعاً ما بين حزبي الوطني الاتحادي وحزب الأمة على موقع وزارة الداخلية وإنتهي الأمر بتمكن الأزهري من الإحتفاظ بحقيبة الداخلية لحزبه وإضافتها لرئاسة الحكومة التي يشغلها بحيث أصبح رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية، أما سكرتير عام حزب الأمة عبدالله خليل الذي كان يهدف لشغل موقع وزير الداخلية لكنه عوضاً عنها كُلف بحقيبتي الدفاع والأشغال. وإرتبط الصراع على حقيبة الداخلية وقتها بالتحقيق في الصدامات التي شهدتها الخرطوم بين الشرطة والأنصار خلال زيارة الرئيس المصري اللواء محمد نجيب للسودان في مارس 1954م ومساعى الحزبين إما لإدانة حزب الأمة وقياداته أو لضمان عدم إستغلال الحادث في مواجهة حزب الأمة. أما أبرز الوجوه العائدة فهما وزير الحكومات المحلية محمد نورالدين ووزير الزراعة والري والكهرباء ميرغنى حمزة اللذين سبق أن أبعدهما أزهري من التشكيل الوزاري.

خليل يتصدر المشهد

رغم الطابع العريض لتكوين حكومة فبراير 1956م فإن عدد من المؤشرات باتت تشير لقرب سقوطها ففي النصف الثاني من يونيو 1956م حدث إنقسام في صفوف الوطني الإتحادي أفضي لتكوين حزب الشعب الديمقراطي برئاسة الشيخ على عبدالرحمن وحظي الحزب الجديد بمساندة 18 نائباً من نواب الوطني الإتحادي، ونتيجة لهذا التطور جاء السيناريو اللاحق في الرابع من يوليو 1956م بحجب الثقة عن حكومة الأزهري والذي جاءت نتيجته لمصلحة حجب الثقة بموافقة 60 نائباً في ما رفضه 51 نائباً.

(…) لهذا سعي كل من الأزهري وعبدالله خليل للظفر بحقيبة وزارة الداخلية

 

ضمت الكتلة التي صوتت لسحب الثقة من حكومة الأزهري 24 نائباً من حزب الأمة، 17 نائياً من حزب الشعب، 14 نائباً من حزب الأحرار الجنوبي و5 نواب من الحزب الجمهوري الإشتراكي والمستقلين، ولعل هذا التشكيل هو الذي تأسس على ضوئه الحكومة القادمة التي ستقوم على هدى لقاء التحالف السيدين ونظراً لكون حزب الامة يعتبر الكتلة الحزبية الأكبر التي تولت إسقاط الحكومة فإن السكرتير العام حزب الأمة ووزير الدفاع والأشغال في الحكومة الأخيرة، عبدالله خليل كُلف بتشكيل الحكومة الجديدة.

في اليوم التالي لحجب الثقة من الأزهري أعلان خليل تشكيلته الحكومية التي ضمت 6 وزراء لكل من حزبي الأمة ومثلهم لحزب الشعب بجانب ثلاثة من حزب الأحرار الجنوبي ووزير واحد من الحزب الإشتراكي.

ظل هذا الإئتلاف متصدر للمشهد السياسي بالبلاد حتي بعد الإنتخابات التي تم إجرائها في مارس 1958م التي حصل فيها حزب الأمة على 63 مقعداً، الحزب الوطني الإتحادي 45 مقعداً، حزب الشعب 27 مقعداً، حزب الأحرار الجنوبي 20 مقعداً، الجنوبيون المستقلون 16 مقعداً والحزب الفيدرالي الجنوبي مقعد واحد.

وفي أول جلسة عقدها البرلمان بعد إنتخابه تم فتح باب الترشح لمنصب رئيس الوزراء نال عبدالله خليل على 103 صوتاً، في ما حقق إسماعيل الأزهري 44 صوتاً في ما حصل ستانسلاوس بياساما على 25 صوتاً، وفتحت هذه النتيجة الطريق أمام إستمرار الإئتلاف مجدداً ما بين حزبي الأمة والشعب الديمقراطي الذي إستمر حتي إنتهاء الديمقراطية الأولي بموسيقي وبيان الفريق إبراهيم عبود الذي أعلن فيه إستلم الجيش للسلطة.

رغم تدشين الإئتلاف بين حزبي الأمة والشعب في أعقاب لقاء السيدين إلا أنه ظل عاجزاً عن الصمود في مواجهة التطورات السياسية نظراً لتأسيسه على فرضية ظرفية إتفق عليها الطرفان ممثلة في سعيهما لقطع الطريق أمام الأزهري والإنقضاض على حزبه، إلا أن نتائج إنتخابات 1958م كتبت نهاية تلك المساعى بتحقيق الوطني الإتحادي لـ45 مقعداً متفوقاً حتي على حزب الشعب الديمقراطي وبالتالي فإن هذه النتيحة الإنتخابية فرضت معطيات جديدة على الطرفين وباتت بمثابة تأكيد فشل هذا الإئتلاف في تحقيقه هدفه الأساسي وجعلت من الأزهري وحزبه قوة حقيقية وموجودة على الأرض لا يمكن تجاوزها وعوضاً عن إضعافه بات الأزهري أكثر قدرة على المناورة بشكل أربك الإئتلاف الحاكم خاصة حزب الشعب الديمقراطي وهو ما قاد لإظهار التناقضات وزيادتها بين الائتلاف الحكومي وقاد لاحقاً لتداعيات فاقمت من الأوضاع ومهدت الطريق أمام الإستلام الجيش للسلطة.

وفي الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالي نستعراض القضايا الخلافية التي أقعدت بحكومة إئتلاف السيدين وما صاحبها من تداعيات يعتبرها البعض أنها التي قادت في خاتمة المطاف المشهد لما حدث في 17 نوفمبر 1958م ..!!

-نواصل-

* نشرت بصحيفة (السوداني) الصادرة يوم الإثنين 4 ديسمبر 2017م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى