مقدمة:
في قلب المأساة السودانية المستمرة، لم يعد النزوح مجرد هروب من نيران الحرب، بل تحوّل إلى وسيلة دفاع عن النفس أمام اتهامات مبطّنة وتكتيكات عسكرية لا تفرّق بين مقاتل ومدني.
ومع تكرار مشهد دخول قوات الدعم السريع إلى بعض الأحياء، ثم بدء القصف الجوي العنيف بعدها، أصبح لدى السكان معادلة مرعبة:
الوجود = خطر.
البقاء = تهمة.
ورغم أنّ الرواية الرسمية للكثير من المؤسسات الإعلامية تزعم أن المدنيين يغادرون خوفًا من بطش الدعم السريع، وإن اتفقنا على وجود الكثير من التعديات والانتهاكات في مناطق الدعم السريع إلا أننا نختلف في أسبابها ومن يقف خلفها، وإن كان ذلك لا يعفي الدعم السريع كليًا من المسؤولية.
الوقائع الميدانية تروي حكاية مختلفة؛ حكاية من الخوف المركّب، من القصف، ومن الشك، ومن أن يتحوّل “البقاء” نفسه إلى قرينة على التواطؤ. فلماذا يفرّ الناس؟ ومن المسؤول عن تحويل المدني الأعزل إلى متّهم؟ هذا المقال محاولة لتفكيك هذا السؤال، وفهم منطق الرعب الذي يحكم حياة الناس في مناطق أصبحت ميدانًا للحرب والريبة معًا.
التشخيص:
بين نيران المعارك وتضارب الخطابات، يجد المدني السوداني نفسه مهددًا في كل الاتجاهات. فما أن تدخل قوات الدعم السريع إلى منطقةٍ ما، حتى تصبح الأحياء والمستشفيات والأسواق أهدافًا مباشرة للقصف الجوي، لتبدأ موجات نزوح جماعي مدفوعة بالخوف من السماء أكثر من الأرض.
الخطاب الإعلامي الرسمي لحكومة بورتسودان والمنصات العالمية الموالية لم تسعَ لتطمين المواطنين، بل تزيد الطين بلة. فبدلًا من التوضيح أو التهدئة، كرّر المسؤولون اتهام السكان بالتواطؤ، وكأن بقاءهم تحت سيطرة الدعم السريع قرار حرّ، وليس اضطرارًا يفرضه واقع الحرب نفسه.
في مناطق سيطرة الدعم السريع، لا يكون الناس تحت تهديد هذه القوات، بل تحت خطر القصف الذي يعقب وجودها. وقد وثّق مواطنون من دارفور، الخرطوم، والجزيرة مشاهد متكررة لمنازل دُمرت فوق رؤوس ساكنيها، فقط لأن القوات مرّت من هناك.
لقد أكّدت الوقائع الميدانية أن تهمة “البقاء” ليست مجرد وهم شعبي، بل واقع تعززه الوقائع الدموية. فمنذ سبتمبر 2024 وحتى فبراير 2025، شهدت مدن مثل كتم، الكومة ،نيالا، الفاشر، الحصاحيصا، أم درمان، والخرطوم موجات من الغارات الجوية بعد أو أثناء وجود قوات الدعم السريع، مخلفة مئات القتلى من المدنيين. الأسواق، مخيمات النزوح، وحتى الشاحنات المحمّلة بالمواد الإغاثية والمساعدات لم تسلم، تحوّلت إلى أهداف مشروعَة في نظر الطائرات. لم تكن تلك الغارات عشوائية فحسب، بل جاءت متناغمة مع خطاب سياسي يتهم السكان بالتواطؤ.
حتى بعد انسحاب الدعم السريع، لا ينتهي هذا الخوف، بل يبدأ شكلٌ آخر منه. إذ تتواتر شهادات موثقة عن حالات قتل واعتقال لمواطنين بقوا في مناطق كانت سابقًا تحت سيطرة الدعم السريع، ما يعمّق شعور المدني بأنه متهم مهما فعل، وأن مصيره مرهون بخطوط الاشتباك لا ببراءته.
ما يحدث ليس مجرد نتيجة لحرب أهلية، بل لمعادلة إعلامية وعسكرية مختلّة، تعتبر القرب من الدعم السريع دليل إدانة. وهذا يتناقض تمامًا مع مبادئ القانون الإنساني الدولي، الذي يوجب على جميع الأطراف حماية المدنيين واتخاذ أقصى درجات الحيطة قبل تنفيذ أي هجوم.
الخاتمة:
لقد دفع المدني السوداني ثمنًا باهظًا في حرب لم يختر توقيتها ولا ميادينها، ولم تترك له فيها خيارات سوى النجاة. إن اختزاله في موقع المتهم أو المتواطئ، فقط لأنه لم يفر، هو سقوط أخلاقي لا يقل فداحة عن القصف نفسه. إن بقاءه لا ينبغي أن يُقابل بالقنابل أو الشك، بل بالحماية والفهم.
آن الأوان أن تعيد أطراف النزاع، صياغة أولوياتها تجاه المدني، باعتباره ليس مجرد رقمًا في نشرات الحرب، بل الغاية الأولى لأي حربٍ تدّعي حماية الوطن. وإن لم يكن صوت المواطن مسموعًا وسط هدير المدافع، فعلى الأقل، لا ينبغي أن يُسحق بين معادلات الحرب والريبة.