رأي

عطا برشم يكتب.. حرب 15 أبريل: تأملات في التاريخ الاجتماعي والسياسي للسودان

من المؤكد أن حرب 15 أبريل 2023 تمثل فصلاً بارزًا في سجل الحروب التي شهدها السودان، إلا أنها لا يمكن فهمها أو تفسيرها بمعزل عن السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي شكّل مسار الدولة السودانية. إن دراسة التاريخ واستكشاف دوافعه يندرجان ضمن إطار فلسفة التاريخ، التي تقدم عدة زوايا لتأمل حركة التاريخ ومحركاته الأساسية. ومن بين هذه المحركات، يبرز ما طرحه الفيلسوف الألماني هيجل، الذي رأى أن إرادة الحرية هي القوة الدافعة وراء تقدم الشعوب، مؤكدًا أن “التاريخ هو التقدم في الوعي بالحرية”. هذا المفهوم يُشكل إطارًا تحليليًا مهمًا لفهم الصراعات في السودان، حيث يتجلى الوعي بالحرية كمحرك أساسي للتحولات الاجتماعية والسياسية.

السياق التاريخي: جذور التناقضات الاجتماعية والسياسية

منذ استقلال السودان عن الاستعمار الإنجليزي-المصري في يناير 1956، برزت تناقضات عميقة في النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد. هذه التناقضات لم تكن نتاج تطور طبيعي للمجتمع السوداني، بل كانت نتيجة مباشرة لتأسيس الدولة الحديثة على يد الاستعمار، الذي فرض نموذجًا سياسيًا وإداريًا لم يعكس التطلعات أو التركيبة الاجتماعية للشعب السوداني. فقد وضع الاستعمار أسس دولة تخدم مصالحه الخاصة، متجاهلًا الديناميات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات المحلية التي كانت تشكل جغرافيا السودان.

هذا الميلاد القسري للدولة أدى إلى صدامات هيكلية مستمرة بين الدولة ومختلف المجموعات الاجتماعية التي أدركت هذا الخلل. فقد تجلت هذه الصدامات في ثورات وتمردات عديدة عبر التاريخ السوداني، كان أولها تمرد كتيبة توريت في 18 أغسطس 1955، قبل عام من الاستقلال. هذا التمرد، الذي قاده جنود من جنوب السودان، كان تعبيرًا مبكرًا عن الوعي بالتمييز الذي مارسته الدولة الناشئة ضد الجنوبيين، في وقت كان يُفترض أن تستعد فيه الشعوب السودانية لاستعادة سيادتها عبر القطيعة مع الإرث الاستعماري وإزالة كافة أشكال التمييز التي استغلها الاستعمار لتثبيت سلطته.

استمرار التناقضات: العقلية الاستعمارية وإدارة الصراعات

لكن العقلية التي شكّلها الاستعمار لم تمتلك القدرة على التخلص من هذا الإرث، فاستمرت النخب الحاكمة في إدارة البلاد بنفس النهج الذي يعتمد على استغلال التناقضات الاجتماعية والثقافية. هذا النهج أدى إلى استمرار الحروب والصراعات، حيث حاولت مجموعات مختلفة تغيير هذه المعادلة غير العادلة. فمن تمردات الجنوب في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، إلى الحروب الأهلية الطويلة، كانت كل هذه الصراعات تعبيرًا عن رفض الوضع القائم وسعيًا لإعادة تعريف الدولة على أسس أكثر عدالة وشمولية.

حرب 15 أبريل: تجلي الوعي بالحرية

تُعد حرب 15 أبريل 2023 تمظهرًا جديدًا لهذا الوعي المتزايد بالخلل الهيكلي في بنية الدولة السودانية. هذه الحرب، التي اندلعت بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ليست مجرد صراع عسكري، بل هي انعكاس لتراكمات تاريخية من الإقصاء والتهميش والصراع على السلطة والموارد. إنها تعبير عن إرادة مجموعات اجتماعية ظلت، على مدار التاريخ، “تفزع في الحراية” – أي تسعى للدفاع عن حقوقها وحريتها – في مواجهة دولة سخرت مواردها للحفاظ على هيمنة النخب الحاكمة بدلًا من معالجة الاختلالات الهيكلية.

هذا الوعي المتجدد لا يتماشى مع رؤية النخب الحاكمة التي تسعى للحفاظ على نظام يخدم مصالحها الضيقة. فهي تريد من المجتمع أن يظل في دور “الخادم” الذي يحرس مصالحها، مقيدًا بحدود اجتماعية وسياسية مفروضة، بلا إرادة حرة ولا وعي مستقل. لكن في عالم اليوم، حيث تتدفق المعلومات بحرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، وصلت التناقضات إلى ذروتها، مما يجعل استمرار النظام القديم مستحيلًا.

السبيل إلى الأمام: بناء اجتماعي جديد

إن استمرار الاعتماد على الأساليب القديمة لإدارة التناقضات – أو ما يمكن تسميته “الرقص على ذات الأسطوانة القديمة” – لم يعد مجديًا. الحل يكمن في بناء اجتماعي جديد يقوم على إعادة صياغة مفهوم الدولة السودانية بحيث تكون شاملة وتعكس التنوع الاجتماعي والثقافي للبلاد. هذا البناء الجديد يتطلب الاعتراف بالحقوق المتساوية لجميع المكونات الاجتماعية، وإزالة الإرث الاستعماري الذي قسم المجتمع إلى مركز وهامش. كما يتطلب إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة تعالج جذور الصراع، وتضمن توزيعًا عادلًا للسلطة والثروة.

حرب 15 أبريل ليست نهاية المطاف، بل هي لحظة تاريخية تكشف عن عمق التحديات التي تواجه السودان. إنها دعوة للتأمل في التاريخ واستخلاص الدروس منه، لفهم كيف يمكن للوعي بالحرية أن يشكل محركًا لتغيير إيجابي. إن بناء دولة سودانية جديدة، قائمة على العدالة والمساواة، هو السبيل الوحيد للخروج من دائرة الحروب والصراعات، ولتحقيق التقدم الذي ينشده الشعب السوداني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى