يُعرف مفهوم الانقسام العمودي بأنه يقوم على الهويات القبلية التي يرثها الناس عن آبائهم، مثل العرق والشكل والقبيلة والطائفة والدين، وهي هويات لا خيار لهم فيها، بخلاف الانقسام الأفقي في المجتمع الذي يقوم على الاختيار والإرادة، مثل الانتماء الحزبي أو الأيديولوجي أو المهني أو مكان السكن، وغير ذلك.
لقد أحدثت حرب 15 أبريل انقسامات على المستويين الأفقي والعمودي في المجتمع السوداني، وبرزت بشكل أكبر في استهداف المجتمعات وتصنيفها على أساس الهويات القبلية والعرق والجهة واللون، وبصورة أقل حدة على أساس الأيديولوجيا. فلو أخذنا على سبيل المثال نسبة من تم استهدافهم بالقتل أو الاعتقال أو التعذيب والاختفاء القسري ممن تنحدر أصولهم من غرب السودان، مقابل من تنحدر أصولهم من نفس الولاية، لوجدنا أن حالات الانتهاكات مضاعفة بصورة كبيرة. بل لم ترد حالات مشهورة لقتل معارضين من نفس الولاية، مقابل من تم وصفهم بـ”الوجوه الغريبة”، خاصة النازحين من جبال النوبة أو غرب السودان أو المعدنين أو العمال في القطاعات الهامشية.
إن ما زاد من حدة الانقسام العمودي هي الأصوات العنصرية التي تدعو إلى تقسيم السودان على أسس جهوية، ووجدت هذه الدعوات تأييدًا من قبل أصوات مسموعة في الوسائط، وتتحرك بحرية في مناطق سيطرة جيش برهان. إن المشروع العرقي الرائج وضع الحركة الإسلامية، التي أشعلت الحرب، أمام معضلة تماسك جبهتها الداخلية، فأصبحت مهددة بالتراجع لصالح المجموعات القبلية المسلحة التي تشكلت مؤخرًا، مثل درع السودان بقيادة كيكل، الذي يتكون في غالبيته من قبيلة “الشكرية”، وكذلك كتيبة الزبير بن العوام في جنوب الجزيرة، وغالبيتهم من الكواهلة، أو التي تحالفت معها، كالحركات المسلحة الدارفورية من “الزغاوة” بقيادة مناوي وجبريل، أو المساليت بقيادة بحر كرامة، فضلًا عن الحركات المسلحة القبلية في شرق السودان كحركة الجبهة الشعبية المتحدة بقيادة الأمين داؤود، وفصيل مسلح آخر بقيادة الشاب عثمان دنيا، فقد تم فتح معسكر في إريتريا لهم، وغالبيتهم من قبيلة البني عامر، وفصيل آخر لسليمان بيتاي، وهو الآخر من الهدندوة، وغيرهم آخرين بفصائل صغيرة لكل قبيلة أو نظارة.
هناك تيار من الحركة الإسلامية قاوم التجنيد القبلي على حساب التنظيم العقائدي، الذي فشل في الاستقطاب والمواجهة في المناطق الريفية التي يغلب عليها الانتماء القبلي الحاد، سواء في شرق السودان أو الجزيرة.
وقد شهدنا فشل ما يسمى بالمقاومة الشعبية بقيادة ناجي مصطفى، الذي رفض التجييش القبلي بعد هروب كيكل وانضمامه لبرهان، بل طالب بمحاكمته، فقد تلا ذلك إقالة ناجي من المقاومة الشعبية بالقضارف، ثم تعرض للاستجواب بعد ذلك.
هناك شاهد آخر على الانقسام العمودي “لبلابسة” الحرب في قضية “الانصرافي” التي أثارت الجدل مؤخرًا، حيث واجه المدعو “الانصرافي” كيكل بأثر رجعي. أشعل هذا الصراع انقسامًا حادًا، بعد الفظائع التي ارتكبتها المليشيات القبلية في الجزيرة بحق المواطنين الجنوبيين الذين تنحدر أصولهم من غرب السودان، من جرائم بشعة وحرق وقتل لسكان قرى الجزيرة، التي تعود لمواطنين من غير قبائل المليشيات. ثم تطور الأمر لصراع مسلح أحيانًا بين مليشيات الجزيرة القبلية والحركات المسلحة الدارفورية، وبرز خطاب تضامني واضح بين المليشيات ومؤيدين إسلاميين للانقسام الأفقي (أيديولوجي)، والمؤيدين والمليشيات العمودية (القبلية).
إن قضية “الانصرافي”، تمثل نقطة تحول بين الإسلاميين القوميين والإسلاميين القبليين، فقد كان واضحًا منذ البداية، أن الصراع يقوم على القبيلة والجهة والشكل، وفي ذات الوقت، فإن أصول المدعو “الانصرافي” تعود لمدينة الأبيض، وقد تم تداول صور له وتناولها بصورة عنصرية عند مؤيدي التوجه العنصري. وبالتالي، فإن “الانصرافي” وغيره، يتعرضون لتطبيق “قانون الوجوه الغريبة” على أنفسهم، وذلك عبر إزاحتهم من تصدر المعركة لصالح المليشيات القبلية، بل أنهم معرضين للتصفية.
أخيرًا، ينبغي الإشارة إلى أن التمليش القبلي وانتشار السلاح في الولايات الوسطى من السودان، يضعها في مربع حرب قد تنشأ بين الملايش نفسها.