رأي

فكي علي يكتب.. هل تبقى من شروقِ الشمسِ شيء ؟

فكي علي

 

وين بلداً بتحلف بيها يا ربي
رحلو العباد من حرهها
واتمحق الضل الوهيط
فوتو البعيد كل الخلوق ما بسرها
كل الخلوق ما بسرها
حزموهو جد غلب السنين
تُرحالُم المتعول حُزُن
قصدوكٙ جوك
في بيتك المكسي الحرير
نحن العرايا المتعبين
نحن الغلابة الكادحين
ما أظن ندور 
غير سُترة غير كسرة هجين
وشٙي مِن رضاك ..

إلى كُلّ شهيدٍ:

أثبتَ فـِـي مستنـَــقعِ المَـــوتِ رِجــلُهُ
وقالَ لها من تحـْـتِ أَخمُصكِ الحَـشْرُ
غـَـدا غــَدوَةً والحـَـمدُ نســْجُ ردائـــهِ
فـَـلم ينصـَــرف إلا وأكفانَـــهُ الأجْـــرُ
مَضــَى طاهـِرَ الأثوابِ لمْ تبقَ روْضَةٌ
غـَـداةَ ثَـــوَى إلّا اشتَــهَت أنّــها قبْــرُ

مهرا لوطن عاتي .. وطن خٙيِّر دمقراطي، نزجي إليك التحايا في توابيت السكينة، يا من لوحتم مودعين بوجوهٍ سافرة، ليس بمهزومٍ مٙن إذا تبسمٙ في وجهِ أعدائهِ أفقدهم لذة انتصارهم. يا من أهديتمونا ‹سِفْـــــر المقـاومـــة›، سنحكي للأجيال عنكم ولن نرجع شبرا.

-فص الهٙبّــة:-

سبتمبر، الجرح الذي يأبى أن يندمل 

أقول بس نسيتك
وجرحك يتاور

لا زِلتُ أذكُرُ جيِّداً كيف كانت الآمال العِراض تحدونا في مطلع العام ‹٢٠٠٨›، إذ تم التحاقنا بالجامعة، وهي المرحلة التي تتفتقُّ فيها المواهب ويتشكُّلُ فيها الوعي الثقافي والسياسي والإجتماعي بالمطالعة والممارسة، قابلتُ العديد من الأصدقاء الذين أزعُم أنهم كانوا يشاطرونني نفس الإهتمامات وإن اختلفت التوجهات السياسية والمرجعيات الفكرية، قد حرصنا حينها كل الحرص على ألا نُفَوِّتَ أي فعالية سياسية كانت أم ثقافية إلّا وشهدناها.

 نُقَلِّبُ وجوهنا في الفضاءِ العام عسى أنْ يولِّينا قِبلةً تُرضي شغفنا، حتى إذاما نادى مُنادياً أنْ ثمّةَ ‹ركُن نِقاش› في جامعةٍ مّا، أو ‹ندوة سياسية› في دار حزبٍ ما، أو فعالية ثقافية في مركزٍ ما ولَّيْنـا وجوهنا وحِجانا وأفئدتنا شطره/ـا، فكنّا نمنّي النّفسَ بأن نكونَ نواةَ تغييرٍ ما.

 قد لا نعي ماهيته ولكننا حتماً نُحِسُّه ونستشعره، كُنّا نُمَنّي أنفسنا بالتغيير آناء الليلِّ وأطراف النهار، فما اجتمعنا إلا وانتبذنا مكاناً قَصِيّاً وكانَ ‹شقي الحال› نظام الإنقاذ حقلاً لألغامِ شتائمنا، كُنّا نُكثِرُ مِن اجترارِ ذكرى ثورة أكتوبر وانتفاضة مارس إبريل، حفظنا أناشيدها عن ظهر قلب حتى تغلغلت في نُوَيَّاتِ خلايانا شاحِذةً حيواتٍ من الفِكر الأصيل والشعور النبيل.

كنا نشعُرُ بالزهو والتفوق على من نسميهم بالحمقى والخواة و ‹أولاد الهولو›، مَن أرخوْا بناطيلهم وأعفوا ما دونها، لا يجمعنا معهم زحف المسافات الطويلة ولا صحْن البوش المَصَلَّح ولا التبغ الرديء، أولئك الذين لا يستفزهم ما يستفزنا إلا بقدر ما يجمعنا على مقاعد الدراسة، مرّت الأيامُ والسنون واكتشفنا أنهم ‹سابقيننا بي كم ركعة› ولكن بعد فوات الأوان.

أذكُرُ جيداً انتخابات الرئاسة للعام ‹٢٠١٠› وكيف أننا عقدنا عليها آمالاً عِراض، وعوّلنا عليها في إحداث تغييرٍ سياسيٍّ ملموس حتى ولو كان جزئياً، تابعنا بِشغف مِنبر سونا الذي كان يقدمه الإسلامي بابكر حنين والذي يستضيف فيه المترشحين، تابعنا جيّداً تلك الحَلقة التي استضاف فيها الراحل محمد إبراهيم نُقُد والذي أحبطنا كثيراً عندما أجاب صحفيّاً استفزهُ لما سألهُ عنْ تأديتِهِ للصلوات المفروضةِ بـ‹لا ما بصلي›، شعرنا أنّ عميد الشيوعيين وعمدتهم قد وقع في المصيدة التي نُصِبت لهُ بكل سذاجة وغباء، أما كان له أن يسأل الصحفيّ عن جدوى سؤالٍ كهذا!! ،، هكذا كنا نعتقد، لم نكُن نُعَوِّل على نُقُد كثيراً، فمنحنا أصواتنا لياسر عرمان، فكل الشواهد تقول بأنّ المنافسة الحقيقية سوف تكون بينه والبشير وإمام الأنصار.

حدث ما حدث وانسحب المترشحون من سباق التنافس الديموقراطي لأنه ليس ديموقراطيّاً كما أُعلِن عنه، وقد كُنتُ شاهد عيان على التلاعب بأصواتِ الناخبين وخج الصناديق في مركز قريتنا حيث دفع بعض الأساتذة المحسوبين على نظام الإستبداد طلاب وطالبات المرحلة الثانوية للتصويت لرمز العصابة المتمثل في الشجرة الملعونة، ضاربين بقانون الإنتخاب الذي ينص على بلوغ الناخب سِنّ الثامنة عشر، في حين أنّ جُل إلم يكُن كُل المدفوعين للإدلاء بأصواتهم من الطلاب والطالبات لم يبلغوا السابعة عشر، بل أستطيع أن أجزم أنّ غالبيتهم لم يبلغوا الحُلُم بَلْهَ الرُشْد. لا زِلتُ أذكرُ احتجاجات ‹الإتنينات› في ذات العام والتي تم اعتقال ياسر عرمان على إثرها على مرءاً منا جوار قُبـَّـةَ البرلمان، ثمّ أُفرِجَ عنهُ لاحِقاً بعدَ أنْ ضللوا الرأي العام بأنهم تحفظوا عليهِ بغيةَ حمايتهِ من المتظاهرين ‹نحن›، ولا أدري هل نسوا أم تناسوا أنهم ألهبوا ظهرهُ بـ‹خرطوشين من النوع أبو لستك›؟!!

تتابعت الأحداث وتوالت حتى أشتّد ليلنا حُلْكةً بإعلان نتيجة استفتاء الجنوب، والتي شعرنا بعدها وكأنّ السماءَ قد وقعت على رؤوسنا، في ذلك اليوم المشؤوم بكيتُ بحرقةٍ وألم، لا أذكرُ أنّي بكيتُ بتلك الحرقةِ قبْلاً، فقد شعرتُ بأنّ أحلامي الورديةِ بـِ‹وطن عاتي .. وطن خيِّر دِمُقراطي› قد ذرَتها الرياح، و تقافزت في ذهني عشرات الأسئلة على شاكلة ‹كيف و مِمّا و لماذا!!› التي لم أجد لها إجابات، غير أنّ التاريخ سيُسَجِّل أنّنا ذلكَ الجيل الذي فرط في شطر الوطن دون أنْ تهتز لهُ قصبة…!!

كُنّا نعتقدُ بأنّ خلاصنا في زوال عصبةِ الإنقاذ الغاشمة، فما إن هبّت احتجاجات يوليو ‹٢٠١٢› المشهورة بإحتجاجات الجُمَع: ‹الكتاحة، الكنداكة، لحس الكوع ..إلخ› حتى نزلنا إلى الشوارع شاهرينَ هُتافنا ‹حرية سلام وعدالة .. والثورة خيار الشعب› ولكن لم ينخرط في تلك الإحتجاجات إلا الطلاب من الجامعات المختلفة مع بعض الإستثناءات بالطبع، لن أنسى ذلك البائع المُتَجوِّل الذي لا يجد قوت يومه كيف أنّهُ تملق القوات النظامية والغير نظامية حتى، وذلك بإرشادهم عن مكامننا: ‹الصعاليق ديل مشو بي هنا يا سعادتو›، قد سمعتها كثيراً في تلك الأيام فتساءلتُ لمن نخرج ونتجشمُ المخاطر فنتكبدُ الخسائر!!.. كُنّا في حالٍ كرٍّ وفر حتى خمدت الإحتجاجات وانطفأت جذوتها بحملة من الإعتقالات تلاهُ تجميد الدراسة لأجلٍ غير مسمى بغيةَ تجفيف منابع التظاهرات،ولم يتبقى منها إلّا آثارُ الجلادين التي ألهبت أجسادنا حتى لا ننسى ولا نغفر.

مرّت الأيام وزاد الإحتقان بإغلاقِ ملاذاتنا ورئاتنا الثقافية التي نستنشقُ مِن خلالها ما تبقى مِن أوكسجين الفِكَر ‹مركز الدراسات السودانية، مركز الخاتم عدلان، مركز الأستاذ محمود محمد طه، مركز علي الزين …› وغيرها ولا زلنا مشغولين بفكرة التغيير بالرغم من أننا بدأنا نتعلم كثيراً من كل التجارب التي مررنا بها خلال تلك الفترة، وكيف أنّ المُشكِل السياسي في هذا الوطن المكلوم أعقد بكثير مما كنا نظنه في بواكير اللُّقيا، حتى أعلنت الحكومة حزمةً من القرارات الإقتصادية الخانقة، تململ المواطنون على إثرها فالتهبت الشوارع في هبّة سبتمبر المجيدة ‹٢٠١٣›، والتي أمّلنا فيها كثيراً، ذلكَ لأنّ قطاع عريض من المواطنين قد التف حول شعاراتها و نزل إلى الشوارع بعد أن مستهم البأساء وضراء القرارات الإقتصادية في اللحم الحي، ولأولِ مرةٍ يُفْرطُ النظام في استخدام العنف بجميع أشكالهِ في قلب العاصمة مِن حشد لمليشياتهِ وتسخييره لآلة الدولة العسكرية في قمع المتظاهرين، فشهدنا نتيجةً لذلك كل الفظاعات التي من شأنها أنْ تهتزّ لهولها عروش السماواتِ والأرضِ إنْ كان ثمّت عروش، ومع ذلكَ لم تلِن لنا قناة وصَعَّدنا الأحداث يوماً عن يوم وكان صدى صوت عمر القراي مخاطباً فيصل القاسم يتردد في مسامعنا ‹نعم إنها الثورةُ لا محالة›، أغلقنا الشوارع بالإطارات المحروقةِ والأحجار الضخمة في الشوارع الرئيسية في الفتيحاب، ودحرنا عربات ومدرعات الكجر حتى إشلاق بانت، وكانت مربعات الصالحة والشقلة في زعمنا مناطق محررة من دنس مليشيات النظام، وكذلك كان الحال في نواحٍ كثيرة من العاصمة المثلثة وبعض المدن في الولايات المختلفة.

خرجنا جميعا رجالاً ونساءً شيباً وشباباً، فما إن يسبل الليل أستاره حتى يعود الرجال والنساء إلى المنازل ونبقى مرابطين في الأزقة والشوارع، نتواصل فيما بيننا بطرقٍ وآلياتٍ تم الإتفاقُ عليها، كنا دائما متيقظين على أهبة الإستعداد، ولم تخلوا تلك الليالي الحالكات من المناواشات هنا وهناك، يُختفي على إثرها بعض الشباب، فما إن تبزغ شمس الصباح حتى نعود للكر والفر من جديد، اجترحنا أساليب جديدة في المقاومة كتعبئة أكياس البلاستيك بالطلاءات ورميها على زجاج عربات الكجر لتغبيش رؤية السائقين، ومن ثم رمي الملتوفات المعبأة بالمسامير على العساكر في الخلف، نقاوم الغاز المسيل للدموع ‹البمبان› بشتى الوسائل ‹صفق النيم، البيبسي، موية الملح ..›، ونحاول إسعاف المصابين جراء إطلاق الرصاص الحي والمطاطي، لن أنسى ما حييت تلك المرأة في شارع الأربعين وقبالة خور أبو عنجة، التي خرجت تهتف وعينيها مغرورقتان بالدموع إبّان فقدها فلذة كبِدَها حتى أصابها أحد القناصين برصاصةِ أجزم أنها شطرت فؤادها وسقطت على إثرها مضرجةً بدماء الألم والغبائن، ومما آلمني كثيراً أننا لم نستطع إسعافها بل ولا حتى الإقتراب منها، فما إن سقطت حتى أحاطت بها عربتا ‹بوكسي ٢٠٠٦›، لا أدري ما حدث فقد لاحقتنا رصاصات القناصين مما اضطرنا للإنسحاب والإختفاء بين أزقةِ العباسية وحي الضباط، عدنا فلم نجدها، ولم نجد أنفسنا أيضاً.

تمّ وأد الهبةِ بنجاح في يوم الجمعة الذي أُعلن فيه حظر التجول التام، فغصت الشوارع بالمدرعات والدبابات وعربات الأجهزة الأمنية المختلفة، أعلنت الحكومة على إثرها وفاة ‹٢٠٠› شخص على أيدي المخربين ‹أي نحن›، أعلم أنّ عدد شهدائنا فاق المئتين بأضعاف، كيف لا ‹وكان في الخطوة بنلقى شهيد .. بدمو بيرسم فجر العيد›!!! ستبقى سبتمبرُ غصةً في حلوقنا أبدا.

ولى عام الحزن ‹٢٠١٣› الأدبار، بينما أقبلنا على حياةٍ جديدة بهمومٍ جديد وأحزانٍ جديدة ونكباتٍ جديدة يِحفِّزها السعي وراءَ مستقبلٍ مظلمٍ في نفقٍ لا نهائي، حتى تفرقنا أيدي سبأ وتقاسمت المنافي البعيدةُ معظمنا. وتبدلت المواقف وتغبشت الرؤيا فمن ينسى أحد أبرز عرابي هبة سبتمبر حسن إسماعيل الذي ألهم الثوار بهتافاته وخطبه المنبرية المُنَكِّلة بالنظام، من كان يعتقد أنه سينضوي تحت عباءتهم في آخر المطاف ويتقلد أعلى المناصب الدستورية؟!

ترى هل وعينا ذلك الدّرس بعد أن تبخرت كل أحلامنا الوردية؟ وهل يُحمَدُ لجيلنا هذا صُنعه؟ وهل سيحفظ الدهر لنا اسماً وذكرى بعد أن تسلحنا بأكتوبر وإبريل وسبتمبر وكان حصادنا صفراً كبيرا؟ أما زلنا قادرين على المقاومة بعد كل تلك النكبات المتعاقبة؟ أما زالت قلوبنا تخفق بذات الحرارة؟ أما زلنا بنفس الشغف والطموح الجامح؟ أما وترى وهل وكيف .. رماحٌ من الأسئلةِ تلوح لي بين ثنايا الحِجا والضمير، لكَأنها أشطانُ بئرٍ في لباني ولا أجد لها إجابة!! تحضرني مقولتان للأستاذ محمود الآن ولا أدري لماذا:-

‹قد يأتي الإستقلال اليوم أو غداً، ثمّ لا نجدُ أنفسنا مستقلين ولا أحرار..›.
‹إنّ آجِلا لا يبدأ عاجله اليوم ليس بمرجو ..› فهل بدأنا؟ 

أخبرني أحد الأصدقاء أنّ أحد الظُّرفاء في قريتهم قال ذات مرة: ‹السودان دا واطي لي عمل›!! فقلت: طيب نادو ليو الشيخ يقرا ليو يـٰس.. ربما لا زلنا نحمِل عصاً عتيقةً كنا نَهُشُّ بها ما تفرق من قطيع الإنكسارات بعد أن استحرت على مضاجعنا القلقة المنسوجة بخيوط الأرق الشاحبة والمزينة بقليلٍ مِن خيوط الأمل والأحلام الوردية شمسُ الحياةِ العابسة وشبحِها الكؤود، تحدونا في رحلتنا نحو الخلاص المنشود تداعيات الكائن الخلوي مُسرجينَ خيلَ المعنى:

مِن بسطام إلى فارس
إلى شِبه الجزيرة المُرّة
نحو الشرق
حيثُ الأقدمين في الكشف
عن آدم رِسالي
وعن مداين دون هلاك 
________________ 
ولسة باقي شويتين مِن هين ..
‹كلاكيت مرة تانية›
-فص العصيان:-
‹إن أقبَلَتْ نام وإن أدبَرَتْ نام›
مَثَل عربي
__________________

لقد كنت حاضراً في الساحة الخضراء يومَ خطاب البشير إبّان عودته خائباً من جولته التسولية، وذلك بغرض ملاقاة بعض الأصدقاء والصديقات، فبينما كان البشير المطرود يتكلم كانت العوائل تفترش ‹السباتات› وتتبادل السمر وأطراف الحديث، و كان الشباب يلعبون الورق والليدو وكأنِّي بهم يكيدون النظام كيدا، و ثمت آخرين يمارسون المشي والجري في المضمار، وآخرين يتصفحون الكتب فرادىً وأشتاتا على العشب الأخضر وأمام معارض الكتب، يؤكد ما ذهبتُ إليه أنني ومن هم بصحبتي لم نتطرق إطلاقاً لما يجري في المنصة، فتقاسم الفن والرياضة وفضائح المشاهير ونستنا، وتضافرت جهودهم في إيجادِ حلٍّ لمشكلتي مع اللغة الإنجليزية، حتى أنّ صديقتي الجميلة سارا أخبرتني وكلها ثقة أنني في القريب العاجل وفي دولتنا الجديدة لن أنافس في أي وظيفة، وقد لا يكون لي مكانٌ في الدولة الفتية، ليست هذه هي القضية، ولكن تلك الثقة التي تحدثت بها لفتت إنتباهي، إذ أنها أضحت روحٌ تخللت مشاش غالبية من أعرفهم، ضحكنا وكأنَّ شيئاً لم يكن، لم يشغلني حديث المطرود بقدر ما شغلني انصراف الناس عنه، لم أسمع هذيانات رؤوس النظام وتكبيراتهم وتهليلاتهم كالعادة، لم يرقص البشير فليس ثمت من يراقصهم، بدا شاحباً كظيما من أثر الطردة، ربما أدركوا أنّ هذه الشعارات الفارغة لم تعد ذات جدوى لحشد الناس ولا حتى استفزازهم، فقد كان الناسُ يمارسون أنشطتهم بعادية وتلقائية كأي يومٍ من أيام الساحة، لم أسرد هذا الكلام للتقليل من شأن المطرود ونظامه فهو قليلٌ عليل بالضرورة، ولكن لأبين أنّ النظام لم يعد يمتلك تلك القدرة على الحشد والتجييش التي عُرفت عنه، أذكر أننا وفي أيام الجامعة عندما يتم حشدنا لإحدى خطابات البشير الجماهيرية كانوا يوفرون لنا الحافلات والوجبات، بل وأحياناً كروت شحن الهواتف السيارة، ربما بلغت حالة العجز الإقتصادي بالنظام مبلغاً أعجزه عن رشوةِ الجماهير بساندويتشات ‹البيض والطعمية› و سداد تكاليف الحافلات.

لقد شهِدَ النظام مُمَثلاً في البشير بأمِّ عينه حجم جماهيريته المزعومة، كان الدخول مجانياً بدون تذكرة دخول كما درجت العادة، لم يحجم الناس بل كانوا كثيرين، ولكنهم جرحوا كبرياء النظام بـ‹سَفْهِهِم› إياه. أجزم أنهم صعقوا من لا مبالات الناس بهم، وربما كان الأمر أخف وطأةً في حالِ لو هتف الناس ضدهم في الساحة، إذ أنّ ذلك سيجعل خيار وصفهم بالمخربين أو العملاء متاحاً، بل ربما مارسوا القمع الغليظ تذرُّعاً بتدبير محاولة اغتيال فاشلة لمندسين بين الجماهير، ولكن الناس فوتوا عليهم أي فرصة لصناعة حدث من لا شيء ومعركة في غير معترك، لا شيء يؤلم أكثر من عدم الإكتراث واللا مبالاة، إن الصفعة التي تلقاها النظام اليوم لا تقل عن العصيان، بل هي أشد وطأةً ونكالا، إذ أنّها صفعةٌ في العلن ولا يمكن تفنيدها وإنكارها.

فحقّ فيهم قولُ الشاعِر:

وأتعب مَن نـَاداكَ مَن لا تُجــيبُهُ

وأغيظ مَن عاداكَ مَن لا تُشاكِلُ

إنّ إرتباك عُصبة النظام والضالعين في الفساد تحت مظلته في تصريحاتهم الإعلامية إبَّان عصيان السابع والعشرين من نوفمبر يدل على أنّ أعراض العصيان ‹خشت عضم النظام›، ولا أدل على ذلك من إقرار ربيع عبد العاطي باغتيال الراحل د.جون قرنق، هذا الإغتيال الذي تضافرت جهود النظام في نفيه سنين عددا ونسبته إلى القضاء والقدر، ليأتي من بعده أحمد بلال ليُقر بحربهم ضد الحريات وقمع الرأي الحر وتكميم أفواه الإعلاميين وكسر أقلامهم بقوله: ‹إنّ مصادرة الصحف لا علا علاقة له بالعصيان، فهو إجراء روتيني درجت عليه الأجهزة الأمنية قبل العصيان›، ثم يختمها رأس الأفعى المطرود من رحمةِ الدول النفطية ويُقِر بمسؤولية النظام عن إراقة دماء شهداء سبتمبر الزكية، بعد أن وجهوا كل آلتهم الإعلامية لتغبيش الرأي العام، ونسبة الجريمة البشعة إلى المخربين والمدسوسين، والذين كانوا وما زالوا مجهولي الهوية بالنسبةِ للنيابات التي شرعت في تحقيقاتها حول من سقطوا بعد أن تظلمت أسر الضحايا مطالبةً بمحاسبةِ المجرمين.
__________

لن تكون هذه البداية، كما أنها لن تكون النهاية، ما يزال في قصة اقتلاع النظام بعض مِداد، لم تبدأ إرهاصاتُ ثورتنا مع العصيان الذي أذهل كل شعوب الدنيا، بل ابتدأ منذ فجر الثلاثين من يونيو المشؤوم، ابتدأت مع أول مفصول للصالح العام، وأول معتقل، وأول شهيد، مروراً بـ د.علي فضل و اختفاء أبو ذر الغفاري وشهداء الحركة الطلابية ليس ابتداءً بمحمد عبد السلام و لا انتهاءً بمحمد ويو، وانفصال إخوتنا في جنوبنا الحبيب وشهداء يوليو ٢٠١٢ وسبتمبر المجيد ٢٠١٣ وليس انتهاءً بعصيان التاسع عشر من ديسمبر.

لقد قلتُ قبل ذلك بأن العصيان الثلاثي المهيب لم يكُن إلّا حداداً على أراوحِ شهدائنا في جنوبنا الحبيب ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق و شهداء النضال و ضحايا النظام من المواطنين العُزّل في جميع أقطار الوطن، كان جذوةَ غضب هادرةً في صمتها، تُفصِح عن تنُكُّبِنا البؤسَ طوال سبعةٍ وعشرين عاما مِن الإستبداد والمعاناة والغبائن والظلم، نجتر فيها ملامِح وطنٍ كان بالإمكان أن يكون خير بلادِ الدنيا لولا أن سامتنا عُصبةٌ جاءت بليلٍ سوء العذاب وكدرت صفْوَ آمالنا العِراض بتدميرها للخدمة المدنية، وشقها للنسيج الإجتماعي، وتشريد أنضر وأخطر المُهَجِ والعقول فَتُفَرِّقهم أيدي سبأ. أعتقد أنّ النظام يتهاوى لوحده، وما هذه إلا ترنحاته الأخيرة قبل السقوط الأبدي، فلن نغفر ولن ننسى، وإنّ غداً لناظره قريب فهل تبقى من شروقِ الشمسِ شيء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى