
(1)
لقد قلتُ، وأقول، إن كُتّاباً وكاتباتٍ في السودان يتوغّلون يوميّاً في مجاهل جديدة في الكتابة، الشعريّة والأدبيّة، ويُنجزون فُتُوحاً وفي الفنون بصورة عامّة. وقد تزايدت، مؤخراً، احتمالات أن قوّة تأثيرهم (وهي غير المُكتَرثة لرجاء الجماهير وما تريده) قد تجاوزت كل ما يُكتَبُ في صدد “ما يطلبه الجمهور” من أشعارٍ ونثرٍ منشورٍ هنا وهناك في الصحف اليوميّة، وفي أعمدة صحفيّة كما في حالة الأستاذة إسراء الشاهر مؤخراً.
ورغم أن هؤلاء الكتاب والكاتبات يكتبون في فضاءاتٍ محدودةٍ جداً، تتوزَّع ما بين المدونّات الإلكترونية الرصينة، والمهتمّة بنشر الأدب والترجمات لدرجة مُذهلة، انتقالاً لمجلاتٍ أدبيّة شهريّة غاية في الإبداع كمجلة “جيل جديد”، والتي يُصدرها شبابٌ وشابّاتٌ لم ألتَقِهم شخصيّاً –وإن كنتُ قد صادقتهم بحكم عملي- مكوّنين هيئة تحرير عريضة – يجد القارئ خبراً مفصّلاً عن عددهم الصادر هذا الشهر- أو ما نقرأه في مجلة (الحداثة السودانية) في كلّ فصلٍ من كتاباتٍ فكريّةٍ وبحوثٍ ونصوصٍ أدبيّة هائلة القوة والتأثير والبحث في غموض هذا العالم. مساحات صفوية مقارنةً بالتلفزيون، ثمّ الصحف اليوميّة، حيث تكتب إسراء. فهل ستصمدُ آدابٌ كالتي نسمعها من الشاعرة روضة الحاج في مسابقات الشعر الركيكة (كأمير الشعراء)؟ أم سيُخلِّد الانتشار المريع لأشعار الأستاذة داليا إلياس -في التلفونات الجوّالة- أعمالها الأدبية؟.
(2)
أعتقد أن غيرةً أدبيّةً كبيرة قد بدأت تظهر على السطح مؤخراً، وانتهت باتهامات أخلاقيّة في عمود المذكورة أعلاه (تلابيب ذكرى) والمنشور بصحيفة الصحافة الجمعة الماضية (يا قول دكتور حسن موسى: “إنتوا الأسماء دي بتجيبوها من وين؟”). بدأتها الأستاذة روضة الحاج بتصريحٍ للرأي العام بملف أستاذنا عيسى الحلو عبر حوارٍ نُشر قبل شهور –وروضة تُعتَبر عرَّابة إسراء الأدبية حسبما ذكرت إسراء إسفيريّاً أنها باركتها مادحةً- وقد علّقنا على ذلك في حينه في هذه الزاوية واستنكرنا محاولة تقييم الشعر أو الكتابة الأدبيّة استناداً على الشكل الخارجي الذي أسمته قصيدة النثر: (قالت روضة الحاج، بطريقةٍ تنمّ عن سذاجةٍ واسعة المجال، أن شكلاً من أشكال الشعر من الممكن أن يفتحَ الباب لـ”عاطلي الموهبة”. وكأن الباب أُغلق عن بقية الأشكال. (..) من المستحيل أن يحكم “شكل” الشعر على جوهره، فروضة التي تكتب بأشكالٍ ترى أنها مقدّسة، من أردأ من كتب الشعر بهذه الأشكال؛ فهو سطحي لدرجة تفوق الخيال (هنا فقط تكمن شعريّتها) يعتمد على اللعب اللغوي، أما عن الصور فحدث ولا حرج. لم تجد روضة، خلال مسيرتها، من يُنقذها من الشعر، أو يُنقذ الشعر منها، وعندما فازت في ما يُسمّى بأمير الشعراء (من أسوأ الجوائز الشعرية العربية بالمناسبة) نالتها بالمدح الذي يُشبه الذم؛ التباكي على “العروبة” بتبطينٍ مَدحيٍّ دفع باللجنة إلى انتخابها. حسنٌ، تعتبر روضة أن الاشتراك في المسابقات الشعرية والأدبية هو البوابة المناسبة لكلّ الشعراء لكي يُصبحوا أماجد –كما قالت في الحوار- والمجد الشعري عندها مرتبطٌ بالشهرة للأسف. الشكل الشعري الذي فتح الباب لعاطلي الموهبة – حسبها – هو ما سمّاه النقاد بـ(قصيدة النثر)! وكأن قصائد التفعيلة والشعر العمودي لم تمتلئ بعاطلي موهبة مُعجزين في “عَطَلتهم”، ألم تكن روضة نفسها بوابةً كبيرة لعاطلي الموهبة؟ فبدل أن تتحدَّث عن شعراء بعينهم قامت بتعميمٍ لا يصدر إلا مِمَّن ظنَّ في نفسه التفوق وعلو الكعب، وهذه هي المصيبة. كمتذوّق للشعر لم يلفتني بيت شعرٍ واحدٍ لها، ولا أستطيع تذكر اسم كتابٍ أصدرته. بالنسبة لي تمثّل روضة التعطل الحقيقي عن الموهبة. هكذا: (ذوقي وأنا حرّ فيه) كما يتغنّى المصريون. إن الذي يحدث ببساطة هو ثورة في الكتابة، وجدت روضة نفسها خارج حدائقها وقد تجاوزها الشعراء ولم يعودوا يأخذونها على محمل الجد. اليوم، بتصريحاتها الأخيرة، تدعونا، نحن مُحبّي الشعر، إلى عدم أخذها بمحمل الجد فعلاً، هذا الشعور الذي أحاطني تماماً وأنا أقرأ تصريحاتها للزميلة (الرأي العام) في حوارٍ مع الشاعر محمد نجيب محمد علي: لقد ضحكت بصوتٍ عالٍ جداً.).
(3)
أقول، إن هؤلاء الشباب والشابات يكتبون في مساحاتٍ ضيّقة، بعيداً عن جماهير الشعب، الفقراء والأغنياء، الذين يشاهدون الأستاذة إسراء في صباحات الفضائيّات التلفزيونيّة، تقرأ أشعارها بما يُذكِّر بما كَتَبه الكاتب محمد حمد قائلاً: (هنالك فرقٌ واضح بين “الكتابة الأدبيّة” والشجاعة الأدبيّة)؛ إنها لا تكتفي بذلك، بل تتسلَّل –بعد كل شهرتها- إلى الصفحات الشخصيّة لهؤلاء الكتاب على صفحات موقع فيسبوك، والتي لا يعلّق عليها ويشاهدها سوى أصدقائهم، ولا تتعدَّى اللايكات في البوست الواحد الخمسين لايكاً، تاركةً جميع المجلات والإصدارات والترجمات والمدونات، وتحسدهم على هذه الصفوة الشخصيّة الجميلة من محبّي الأدب المتأمّل، والفنّ الإنساني.
إن من يقرأون لهم في صفحاتهم الشخصيّة -الساخرة جدّاً في بعض الأحيان، وبِمُتعة-صفوة من الكتاب ومحبي الأدب، حيثُ يجدون عوالم مختلفة غير التي تعوّدوا عليها، المكرَّرة والمسيخة، لكنّ الفرق بين الماضي السحيق؛ حيث كان يتم تجاوز آرثر رامبو –مثلاً- ولا يجدُ الأدب الحديث –القديم بوجوده- مناصراً؛ الفرق بين ذلك وحاضرنا اليوم أن الصفوة قد تمدّدت، ومفهومها قد أخذ يتخذُ شكلاً تنبّأ بسيادته الروائي الألماني هيرمان هيسه، والذي سأعتمده كتعريف لصفوة اليوم الإسفيريّة المتّصلة والمتداخلة، عكس ما كان من تفرّقٍ وتوحّدٍ وانزواءٍ في الماضي، حيث يتم اكتشاف الشاعر وتعظيمه ورؤية أثره على الشعر العالمي بعد موته بعشرات ومئات السنوات. يقول هيسه في روايته (دُميان) الصادرة في 1919م: [“التجمّع الأصيل” قال دُميان: “شيءٌ جميل. ولكن ما نراه يزدهر في كل مكانٍ شيءٌ مُختلف، الروح الحقيقيّة ستبرز من المعرفة التي يملكها الأفراد المنفصلون كلٌّ منهم عن الآخر. وبعد حينٍ من الزمن سوف تحوّل العالم. أما روح التجمّع الآن فما هي إلا من تجليّات غريزة القطيع”].
لقد بدأت باتخاذ أشكالٍ متحدةٍ، وحتى ولو بقيت في نضاقٍ يبدو ضيِّقاً، إلا أن لكلّ فردٍ من هؤلاء الذين يمتلكون المعرفة، ويختلفون عن بعضهم بصورةٍ خلاقة، قوَّة “الكتابة” المشبّعة بالمعرفة التي لا تمتّ بصلةٍ لكتابٍ مثل إسراء، فهي تخاف من كل شيء: فبينما ترى أن العالم سوف ينهار فقط لهذا التأثير الضئيل (قُل 50 ألف شخص) بالحكم أخلاقيّاً على الحياة الشخصيّة والكتابة ذات الطابع الشخصي نسبةً لطبيعة موقع تواصل اجتماعي كـ(فيسبوك)، فهو يشير أن الاضمحلال الذي يشعرون به، والتراجع المريع في إيمانهم بفرادتهم في مواجهة جواهر معرفيّة مُشرَّدة في أرض الله الواسعة، فلن يبقى سوى (الاتهامات الأخلاقيّة)، مهما ألحقتها الكاتبة باتهامات سطحيّة للساسة ورجال الدين. المصيبة أنها لا تُدرك أن الويل قد هبطَ على هذا العالم منذ أمدٍ بعيد، وأن فهمها لعبارة (ابن خلدون) كان –كما هو شأن كلّ فقيرِ خيالاً- سطحيّاً وشكليّاً كما هو حال أسلافها.
(4)
يقول البروفيسور منتصر الطيّب، رئيس معهد الأمراض المتوطّنة بجامعة الخرطوم في الحوار المنشور ضمن هذا العدد، ما يُشير إلى الفن الذي سيسود في النهاية. يقول منتصر: (ماذا سيفعل الأدب؟ يأتي الأدب من مَن هم خارج السياق وليس من أشخاص السياق العام. لا أعلَم من أين يأتي الأدباء بهذه الرغبة في التعبير عن أشياءٍ بعينها؛ من أين تنبع في روح الفرد أو ضميره؟، لكنني أؤمن بأن الأدباء هم من أفضل الأمثلة على الطبيعة البشرية في أحسن أحوالها – بغض النظر عما يعنيه ذلك “الطبيعة البشرية”-.. لأنه، مثلاً، إذا أخذتَ عينةً إحصائيةً من مائة أديب، كم منهم ستجده يشجِّع الفاشية؟ أو التعصب؟ ربما لا أحد. يستطيع الأدب أن يلفِتَ انتباه البشر إلى مناطق مجهولة وعميقة من ذواتهم تم غَمرُهَا باليومي وأحواله. ويستطيع الأدب، أيضاً، أن يُثري الحقل الذي قد تنبع منه التصنيفات؛ نحن نعلم أن التصنيفات هي جزء من عقلية العِلم، ولكن، وكما قال ماركس: الحقيقة جافة وشجرة الحياة نَضِرَة”! هذا ما يفعَله الأدب، هذا العمق الذي يمنحه لمظاهر الحياة المحكومة بمعايير اجتماعية أو غيرها.. مثلاً بدأنا كلامنا عن وجود عائلات لغوية في السودان، ربما من خلال الأدب تكون هنالك خمس عائلات أو أكثر. إن الأدب يجعلني أنظر للعالم بعيداً عن رمادية نظرة العين العادية والحياة اليومية، سيجعل الأدبُ العلمَ يخرج من التصنيفات الصارمة الثنائية وغيرها إلى التعقيد الحقيقي للحياة، وذلك خصوصاً في علم الأحياء؛ علم الأحياء الذي، باستيعابه لتعقيد ظاهرة الحياة، سيُنقذ الكثير من العلوم الأخرى كالفيزياء مثلاً). انتهى.
هل تستطيع إسراء وأدبها، ومن خلفها أشعار داليا وروضة، من استيعاب هذا التعقيد؟ هل يفهمن أنهن، في المستقبل، بتصريحاتهن ومهاجمتهن لهذه الجواهر الفريدة، سيبدين كمن شتمن فرعاً كاملاً في العلوم غير مُكتَشَف؟ قيل هذا الكلام من قبل، ونحن نعلم أن علم اكتشاف الأدب الذي يُسمَّى “أدباً غامضاً” لم يخرج للوجود بعد، ربما لأنه يُعالج بسطحيّة التصنيفات الشكليّة التي لا تستطيع روضة الحياة من دونها.
(5)
نصيحتي أن عليهن بالركون إلى الشعبيّة الهائلة التي يتمتّعن بها، ويتركن “الأدب الجديد” ينمو دون وصايةٍ أخلاقيّة وتجسس على حيوات الناس؛ إذ ما يحدث هو غيرةٌ من النضرة وحب الحياة والناس في عيونِ شبابٍ مشبّعٍ بالمعرفة والحب والجمال، وما يُنتجه ذلك من آدابٍ وفنونٍ وترجماتٍ ونبوغٍ ومعرفة. لقد ترك هؤلاء الكتّاب والكاتبات البلاد بحثاً عن شروط حياةٍ مبدئيّة أفضل -أكل وشرب ومسكن وهكذا- وستتعب هذه العقول النيّرة، الذكيّة، والتي تستفيد منها دول الاغتراب في الخليج، وأمريكا البعيدة جداً جدّاً، ستتعب وسط الوحدة والثلوج والبعد عن الأحباء، ولكن من العيب إن تملَّكتك غيرةٌ أدبيّةٌ من تأثيرهم الكتابي والفنّي والحياتي على مجموعة واسعة وشاسعة من العقول الذكية المستقلِّة في تفكيرها، هؤلاء الأفراد المنفصلين عن بعضهم البعض ويمتلكون معرفةً واسعةً بالعلوم والفلسفات والآداب من جميع أنحاء العالم؛ وتركوا لكم البلد بما فيها، تنتشرون في صحفها وتظهرون في تلفزيوناتها وتحظون بحب الجميع بلا فَرز، من العيب أن تلجأ روضة الحاج لحذفِ أبوابٍ واسعة في الآداب والمعرفة الإنسانيّة، وتصنيفها بتسميتها (قصيدة نثر) وترمي بالجميع من الشبّاك بسلطتها “التلفزيونيّة العربيّة” الهائلة؟ ولماذا تلجأ إسراء الشاهر للتشهير بمن لم تُسَمّهم، وتركت الاحتمالات مفتوحة لسوء الظن، والاتهام؟. أو قول داليا الياس في الأسافير إن اعتراضهم يعني أن إسراء وأصدقائها يسيرون في الطريق الصحيح إذ أخرجت “الزبالة” التي بداخلهم –بتعبير داليا-. ولكن هل سيعيشُ الأدباء والشعراء ما عاشه بودلير من خلال (أزهار الشرّ) في فرنسا القرن التاسع عشر مثلاً؟ لا أعتقد ذلك، الفضاء انفتح يا سادة، لا الصحف ولا التلفزيونات والراديوهات ولا مؤسسات لقادرة على إيقاف الفن والأدب بعد اليوم. لقد حَشَرت إسراء نفسها في مكانٍ ضيّق تحتلّه عقولٌ جبّارةٌ ذات خيّال وخِفَّة دم، وقد تحوّلت هي إلى “الأديبة” التي تُمارس سلطتها التي قلت عنها: (إن الأجيال دائماً تتأثر بها وتعتقد بأنها معصومة من الخطأ”)؛ أقول، لو تَدري أن لا واحد منهم يحمل ضغينةً أو أي مشاعرٍ سلبيّة، بل لم يتعرضوا، من قبل، إلى ما تكتبينه ولن يهمّهم في يومٍ من الأيام. لو تدري أنه من المستحيل أن تتملّكهم أيّ غيرةٍ أو حسدٍ من جماهيريّتها الطاغية، إذ إننا لا نرى اسمكَ، أصلاً، في تلك المساحات الضيّقة الرصينة والمهتمّة بنشر المعرفة وكلّ ما هو مفيد، فما الذي يمكن أن يُفيد عقلاً ذكيّاً مثقّفاً من ما تكتبينه؟ بل مُبدعاً وفناناً؟ ما الذي ستضيفينه؟ أرجوك، عليك بالاكتفاء بالتعليق على ما يَقُمنَ به الفتيات في الحفلات الجماهيريَّة من تقبيلٍ للفنانين، وواصلي حربك ضدّ الفتيات المراهقات الصغار، في عالمٍ لن يدمّره “الأدباء الجدد” بما أسميتيه (أنحرافاً) (كذا، بهمزة فوق الألف في العنوان!)، بل تدمّره الحروب، وينهشه الفقر، وتنهار مؤسساته واحدةً تلوَ الأخرى، بما فيها المؤسسات التي تنتمين أنتِ إليها، كالأديبة الكبيرة روضة الحاج، ويا لها من مؤسسة!.
ـــــــــ
نُشرَ بـ(الممر)، جريدة السوداني، 11 أغسطس 2017م