في معارك التاريخ هناك نصر يُكتَب على الأرض وهناك نصر يُصان في العقول، ما حققته قوات الدعم السريع في العامين الماضيين لم يكن مجرد تقدّم عسكري، بل كان تحريراً سياسياً من قبضة الأيديولوجيا المتشددة التي حكمت البلاد باسم الدين ودفعت الملايين إلى المقابر أو المنافي..
لكنّ أخطر ما يواجهنا اليوم لا يأتي من الجبهات، بل من الظلال..
من بين ركام الهزيمة، يطلّ علينا بعض من رموز المشروع الإسلاموي القديم، متنكرين، مهادنين، محاولين التسلل إلى مراكز القرار في المناطق المحررة.. هؤلاء لا يحملون سلاحاً، بل يستبطنون الفكر الذي قاتلناه: فكر التكفير، والتقسيم، والفتنة..
فاليوم: بعد تحرير مساحات واسعة من السودان من قبضة الجيش المتشبّع بأيديولوجيا الجبهة الإسلامية، اتضح أن النصر ليس فقط بالسلاح.. ننتصر حقاً حين نؤسس لمجتمع حر.. آمن، لا تحكمه ذات الأفكار التي نحاربها.. لأن مرحلة التحرير الحقيقية تبدأ بعد سقوط الرصاص ببناء مؤسسات لا تُخترق، وقرارات لا تُلوّى، ومستقبلاً لا يُهدد من داخلنا..
دارفور اليوم، في هدوءها وتعايشها بعد زوال القبضة العسكرية القديمة، تقدم لنا نموذجاً لبلد ممكن: بلا صراعات قبلية مفتعلة، بلا إمارات دينية، بلا تسييس للهوية والدين..
ولكن ما وراء الشمس، حيث لا يرى الناس بوضوح، يتحرك الخطر..
منظومات قديمة، بأوجه جديدة، تحاول إعادة إنتاج نفس الخراب باسم “الواقعية السياسية” أو “الضرورة الإدارية”.. فليس مقبولاً بعد كل هذه التضحيات، أن يعود الفكر المتشدد ليحكم مناطقنا من جديد عبر وكلاء متنكرين، ولا سلام حقيقي ما لم يُمنع الفكر التكفيري من بث سُمه من جديد والتحكم على رقاب مجتمعات عانت طويلاً من التفرقة..
وإن كانت هنالك من مهمة عاجلة بعد التحرير، فهي وضع أسس جديدة للحكم المحلي تقوم على قيم مدنية، تحفظ كرامة الناس، وتبني سوداناً يليق بتضحياتهم..
وإن كانت لنا رسالة بإسم الواقعية والضرورة الإدارية في مناطق سيطرة الدعم السريع:
(من أراد أن يخدم السودان فعليه أن يخلع عنه عباءة المشروع الإسلاموي ويتبرأ منها في العلن كشرط من شروط البقاء في ظلال أمان التحرير، لا أن يخبئها تحت بدلته)..
قوات الدعم السريع الآن ليست قوة عسكرية فقط، بل مشروع وطني.. وإن أرادت أن تضمن استقرار ما بعد النصر، فعليها أن تطهر جهازها التنفيذي والتشريعي من أصحاب الفكر القديم، مهما بدّلوا وجوههم..
لأن المعركة القادمة، كما نعرف جميعاً، ليست في ميدان القتال.. بل فيما وراء الشمس..