محمد صالح البشر تريكو
تحولات مؤسسة المركز نحو القبائل في السودان أمر لا يخضع للمنطق، ففي العام 1997م، كانت الإنقاذ تحابي قبيلة الزغاوة وتعادي قبيلة الرزيقات لخلفيتها الأنصارية، وفي العام 2003م بَدل المركز الزغاوة بالرزيقات.
تطور الشد والجذب بين الرزيقات والدولة إلى مواجهة باعتراض الناظر “سعيد مادبو” عليه الرحمة في مؤتمر في نيالا بصفته “سير النظار” على تديين السياسة بقوله “نحن مسلمون ولا نحتاج إلى من يدخلنا في الدين من جديد”، وذلك بحضور الزبير محمد صالح. غضب الزبير ثم غادر نيالا دون إكمال المؤتمر، وفي نفس الوقت وجه محافظ الضعين، عبدالله سيد أحمد، لمعرفة اتجاهات الرزيقات، هل هذا رأي الناظر وحده أم القبيلة؟ في تلك الظروف الملتهبة وقعت مشكلة قبلية مؤسفة بين قبيلتي الزغاوة والرزيقات، ليطير الزبير مرة أخرى إلى الضعين ولبدو في المنتصف، هبطت طائرته في مكان تجمع المقاتلين، لأول مرة، تعمد المسلحين إشهار أسلحتهم أمام الحكومة، قال الزبير معلقاً “الناس (ديل) أقوى من الجيش السوداني، وأن تسليحهم غير موجود لدى الجيش” في إشارة إلى سلاح الجيم 3 سيد الموقف.
تدبر الرزيقات أمرهم حينها، ووضعوا خيار مواجهة الدولة على الطاولة، بالتحالف مع الجيش عبر نافذة الدينكا، وذلك في حال تنفيذ نائب الرئيس، الزبير محمد صالح، تهديده بعزل الناظر سعيد مادبو.
ويقول شاعرهم الملقب بالجميل الغلب باللوح:
“بشكر نفرنا والشكر بستاهلنا،
نحن عيال رزيق دولة غنية فوق قعر شدرنا،
نشرب في لبن بقرنا ونأكل من عسلنا،
ما لينا شغلة غير دواسنا وانتصرنا،
بلا الدود والمرفعين مافي شغل بِسألنا”.
مواجهة القوات النظامية عند أهلنا أمر شائع في حالة الصراع، في العام 2013م حدثت توترات بين بادية الرزيقات في المصايف -جنوب بحر العرب- والجيش الشعبي لدولة الجنوب، إذ شعر جنود الجيش في معسكر بلبلة إنهم دولة وبالمقابل يرون الرزيقات قبيلة ضعيفة، يوم بعد يوم تزداد استفزازات جنود الجيش الشعبي ولكن من وجهة نظر قادة البادية يجب تجنب الاحتكاك مع الجيش، ليس خوفًا من القتال ولكن خشية من تأثير الحرب على المرعى والمشرب.
استسلام الرزيقات أغرى جنديًا جنوبيًا بالاستحمام في حوض مياه لشرب الأبقار (تبريب) في تلك اللحظة استخرج شاب بندقيته المخفية بعناية وأطلق النار على الجندي، قام عساكر حامية بلبلة بردة فعل سريعة قتلوا على إثرها سبعة من الرزيقات من بينهم مهدي جمعة وزوجته فاطمة محمود التي هجمت بفأس على عساكر الجيش لحظة إطلاق النار على زوجها، ليضطروا لإطلاق النار عليها وقتلها، لاحقًا امتدح أفرادا من الجيش شجاعتها.
واصلوا في حملتهم الانتقامية حتى خطفوا ثلاث فتيات من الرزيقات. أبلبيس وحكومة الإنقاذ اتفقا على نفخ نار الحرب، بالمقابل تحركنا نحن مثقفو القبيلة على العمل لتجنب الحرب مع دولة، في اجتماع مصغر في بيت العمدة المرحوم “محمود خالد” قال لنا أمير حرب “يا أساتذة نحن بنقطعها عوجة ويعدلها الله”.
انتهت الحرب بدخول معسكر “كدكي” وقتل معظم الجنود وأسر 170 امرأة، في النهاية تم تبادل المخطوفات بين الرزيقات وحكومة الجنوب.
في حرب الدعم السريع والجيش، أظهر جنود الدعم السريع وغالبيتهم من القبائل الرعوية شجاعة فوق تخييل قادة الجيش، على الرغم من أن قادة الجيش يدركون أن الشجاعة في الكتائب الغربية طوال حرب الجنوب، بل ظلوا يرددون مرارًا أن الكتيبة الغربية “بتنتصر بأقل تسليح”. لو قلنا إن الشجاعة صفة محصورة في قبائلنا نكون مخطئين، وهي صفة غالبة على رجال قبائل غرب السودان.
ولكن كل مقاتلي الدعم السريع المليون و(دقاقة) يتميزون بشجاعة لا تقل عن بسالة “التجاني محمود بشير” الشهير بماني خايف.
أذكر أنني كنت في نيالا قبل سقوط قيادة الجيش، في ضيافة “عيال بناني” من أهلنا الفلاتة في حي المطار، وكان ذلك في يوم فيه أصيب أصغرهم يسمى دردار في يده لدرجة لا يستطيع رفعها، لم يمكث في الفراش سوى يومين فقط، ثم واصل المعارك. قلت له يا ابني أنت لا تستطيع حمل السلاح، أقعد معنا في البيت، رد قائلا: “بمشي مع أخواني لأكون شاهدًا على طريقة موتهم، ما يحكوها لي الرجال” بخ بخ يا بطل!! ظل مواصلًا القتال، حتى أصيب بقناص قطع أذنه بالمرة، ولما فرغ الأطباء من علاج الجرح، استفسره الشقيق النقيب فتحي بناني عن سمع الأذن، فقال نعم تسمع ، وعلق ساخرًا “الجلدة بتسويها شنو؟”.
في الطبية نيالا، شاهدت أحد شباب بني هلبة مكسور الرجل، ولما حاول الطبيب عمل جبيرة للكسر رفض بحجة أنها ستمنعه من قيادة العربة في المعارك، وأنه “لن يرقد وأبلدة في الفرقة 16 مشاة”.
لهذه المشاهد لم اندهش مثل غيري من الذين تعجبوا من فيديو أسر البطل “التجاني محمود بشير” لما وقع أسيرًا بين يدي كتائب البراء قائلاً لهم بدارجة “ماني خايف”، في وقت يرتجف عجائز الجيش حينما يقعون في الأسر.
وجد الشاب إشادة منقطة النظير كما وجد تعاطف لدرجة أبكى مذيعة في فضائية عالمية. وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي الفيديو، لتعلن ثلاث فتيات نيتهن الزواج من التجاني إن خرج من الأسر.
وأبدى قادة في الدعم السريع استعدادهم لاستبدال التجاني بأكثر من ألف ضابط من ضباط الجيش الأسرى.
في بيئتنا المجتمعية نؤمن بأن السمعة أفضل من طول العمر، فيا التجاني إن قُتِلتَ فتكفيك السمعة، وندعو الله صادقين يحفظك من كل شر وهو على ذلك لقدير.