
ذهنيا، يعبر الناس عن همومهم وتصوراتهم وطموحاتهم بالمفاهيم، والتي تظل موحدة في المعنى والمحتوى، وإن إختلفت إشاراتها الرمزية في اللغة، والتي دائما ما تتجسد في أشكال ملموسة يحددها الواقع المعين. فمثلا، أصبح همّ العيش اليومي هو القضية المشتركة والموحدة، ذهنيا، التي تشغل بال الناس جميعا في السودان. لكن، هل يتساوى همّ الذي يحلم بقطعة خبز جافة مع هم الذي يحلم بوجبة شهية تبتدئ بالمقبلات ثم الطبق الرئيسي من اللحم والسمك والفراخ، وتنتهي بالتحلية، وكل ذلك في ردهة مطعم تصدح فيه موسيقى عطرة لا تدري من أين تأتيك؟
وإذا كانت الصورة الذهنية للحرب هي البشاعة المرفوضة، والتي تهيج جروح الروح ومعاناتها بين شعب يفخر محدثو تاريخه بأنه يعشق التسامح وعاشه لأكثر من مئة عام، لكنه قضى، ولا يزال، معظم سنوات عمر استقلاله في حرب أهلية ضروس…، فهل يستوي هم الذي يكتوي بنار الحرب يوميا، وبالملموس، في جسمه وبيته وأهله وحلمه، مع هم البعيد عن موقع النيران، والذي تظل الحرب عنده مجرد صورة ذهنية ينفعل معها ضميره عبر مشاهداته لفداحتها في شاشات الإعلام؟ قطعا لا… ولكن ما بين الهامشي الموجوع بخراب حياته أو عبثيتها بسبب الحرب، وبين قاطن المركز الذى يشكو تردي حياته ويحمل الحرب جزءا من المسؤولية، ترتسم عشرات التفريعات الصغيرة والمتعرجة، محدثة تقاطعات رئيسية تدفع بقراءات مختلفة ومتعددة بتعدد أشكال تجلي الهم الواحد. وإذا حاولنا دراسة ثلاثية الموقف من الحرب، والتمسك بالسودان كوطن، وأساليب العيش بالمناطق المتضررة من الحرب وموقعها من المركز، ستكون لدينا خريطة واضحة لمشهد الأزمة التى نعيشها اليوم في وطننا المكلوم:
أولا، كلما ابتعدنا عن المركز اقتربنا من المواجع، مناطق القتال التي تمتد على شكل هلال دام، يشتعل بفعل حرب لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، وتتاخمه مناطق قلقة هلوعة. أما المركز، فهو يغلي كمرجل أم الأطفال الجياع فى عهد غاب عنه عدل الخليفة عمر بن الخطاب، كما يحدثنا رواة السيرة. والانفعال بأخبار الحرب المصورة والمنقولة عبر أجهزة الإعلام، ليس كمعايشة الحرب فعليا. فخبر مثل اشتبكت القوات المسلحة مع فلول المتمردين فى منطقة كذا….، لا يحدث الأثر نفسه لمشهد القرى المحروقة، وصرخات الأطفال والنساء وهم يحشرون حشرا فى حفر وكهوف صممت بفعل الحاجة للاحتماء من القصف الجوي. وهكذا، وعلى عكس ما توقعت مناطق الهلال الدامي، لم تنفعل الخرطوم انفعالا يتطابق مع درجة القسوة والبشاعة التي تحكم وتسيطر على مناطق الحرب. نقول هذا دون أي تقليل من صرخات النشطاء القوية ضد الحرب، ولكنها ظلت مجرد صرخات ووقفات، دون أن تحقق فعلا رادعا.
ثانيا، إذا انتقلنا من مشهد الحرب الفعلي إلى انعكاساته، سيبتدئ الجدل من اختيار اللغة وحيرتها بين مفردات من نوع: فلول، قوى منظمة، قوات دعم، عصابات، مجموعات نهب، متمردون، ثوار…الخ، ولن ينتهي فى مفردات حل سياسي، مفاوضات، انتفاضة شعبية، أم حل عسكري. سيحتدم الجدل ويستمر، دون أن يلتفت إلى مناطق الحرب التي تكتوي بالنيران المشتعلة، وبالتالي ستفتقد مناطق الحرب هذه أيادي الشعب في الخرطوم.
من زاوية أخرى، فإن من ينفذ فعليا عملية الحرب ويدير آلتها، هم القوات المسلحة، الحكومية والمعارضة. أما المواطنون في مناطق الحرب، فيعيشون تنازعا مفهوما ومبررا، بين الميل الطبيعي لرفض الحرب والاقتتال، وميلهم الآخر المدفوع بغريزة البقاء والحياة. لذلك، هم لا يعيشون ترف الاختيار، بل كتب عليهم خوض الحرب طوعا أو كرها، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن الإكراه ليس بالضرورة من فعل البشر.
أما بالنسبة لتلك الأفكار من نوع التمسك بوحدة السودان، والروح الوطنية… فكلها تبدو في إتون الحرب غير مهمة فى حد ذاتها، وغير ذات معنى، وربما تكتسب الأهمية والمعنى بعد انتهاء المعركة.
وإذا عرجنا على المناطق المتاخمة لمناطق الحرب وهلالها الدامي، فسنلحظ التأرجح البيّن والتذبذب الواضح تجاه تأييد أو رفض الحرب، كما سنلحظ أيضا دوامة الاستقطاب الحاد للوقوف في صف النظام أو صف المعارضة المسلحة.
أما فكرة، أو أطروحة، الحفاظ على السودان الواحد المتوحد، فسنجد أن سكان المناطق المتاخمة يستشعرون صعوبة تبنيها المطلق، رغم أنهم يتمسكون بها، دون أدنى شك. وإذا ابتعدنا عن أتون الحرب وتوجهنا إلى المناطق الآمنة، المناطق البعيدة عن ميادين المعارك والاقتتال، كالخرطوم مثلا، أو المركز بصورة عامة، فسنجدها، قطعا، ضد الحرب وتتمسك بفكرة السودان الموحد، بل وتدعو لإسقاط النظام الذى يؤجج الحرب، وينتهجها تاكتيكا لبقائه في كراسي الحكم وتشبثه بها.
وهذه الصورة، ورغم وضوحها بدرجة كبيرة في الأذهان، إلا أنها لم تشكل علة لإحداث فعل ملموس يهزم دعاة الحرب ويوقفهم عند حدهم، ويكشف للآخرين قصورهم الذي لن يؤدي إلا إلى دمار البلد وخرابها.
وإذا رجعنا إلى تلك التفريعات الصغيرة والمتعرجة، والتي تدفع بقراءات متعددة للمشهد السياسي حسب تعدد أشكال تجلي الهم الواحد، فستواجهنا صعوبة رسم المشهد بخلفية ثابتة ومحددة، مثلما ستواجهنا صعوبة إنزال الستار بين الفصل الأول والفصل الثاني.
وفي الغالب سنجد أنفسنا متورطين فى دهاليز قضية، لا تفضي إلى مخارج واضحة المعالم، وسيظل التحدي الرئيس الذي يواجهنا هو ألا نعلق في أي من هذه الدهاليز، بل نجتهد في أن نستبين طريقنا إلى المخارج، والذي يبدأ برفض الحرب، وتحويل هذا الرفض إلى فعل ملموس، يخاطب الجميع، في المركز والأطراف، فعل يحمل في ثناياه أسس علاج أسباب الحرب وأسس منع تجددها، فعل عنوانه أن ما يفتح بوابات الخروج من أزمة الوطن، ويصنع التقدم هو تلاقي الأضداد وتجذير المراجعات وإعادة النظر في القناعات التي تفترض إضمحلال الآخر، فعل جوهره إعادة بناء الدولة الوطنية في السودان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ