
خلصنا في الحلقة الأولي إلي أن الإئتلاف الحكومي الذي تشكل من حزبي الأمة والشعب الديمقراطي تتويجاً للقاء إمام الأنصار السيد عبدالرحمن المهدي وراعي الطريقة الختمية السيد على الميرغني المعروف تاريخياً بـ(لقاء السيدين) تأسس لمجابهة الحزب الوطني الإتحادي ورئيسه الوزرا ء إسماعيل الأزهري وأشرنا لإظهار نتائج إنتخابات 1958م فشلهما في إخراج الوطني الإتحادي من المشهد السياسي ولعل نتيجة تلك الانتخابات إرتبطت بمعطيات تعامل معها الأزهري بدهاء شديد مكنته من إزعاج الإئتلاف الحكومي وإرباك غريمه حزب الشعب الديمقراطي.
أول الجزئيات المثيرة للإنتباه حيال إئتلاف السيدين الذي تشكلت بمقتضاه حكومة عبدالله خليل بعد الإستقلال ولاحقاً إنتخابات 1958م هو الإختلاف الجوهري ما بين مكونيه الأساسيين تجاه العلاقة مع مصر، والتي كانت بمثابة حجر زاوية العمل السياسي قبل إستقلال السودان وتأسس على ضوئها الحزبين الكبيرين ممثلين في حزبي الأمة المسنود بإمام الأنصار الامام عبدالرحمن المهدي والمنادي بإستقلال السودان التام عن بيرطانيا ومصر، والحزب الوطني الإتحادي الذي توحدت فيه التيارات المنادية بالوحدة مع مصر والمتحالفة مع الطائفة الختنمية ومرشدها السيد على الميرغني برعاية مصرية.
(…) هكذا إلتف عبدالله خليل على قرار مساندة السودان لمصر في حرب 1956م
نتيجة للتحولات الداخلية في صفوف الوطني الإتحادي بقيادة رئيس الحزب إسماعيل الأزهري وتخليهم عن شعار الوحدة مع مصر وإنتقالهم لدعم إستقلال السودان حدث إضطراب في صفوف الوطني الإتحادي وباتت الساحة الداخلية للحزب مسرحاً لشد وجذب بين التيارين وإنتهي هذا الأمر بتكوين الختمية لحزبهم الجديد تحت مسمي (حزب الشعب الديمقراطي)، وبعد تكوينه بأسابيع تم سحب الثقة من الأزهري وتكوين الحكومة الإئتلافية مع حزب الأمة التي ترأسها السكرتير العام لحزب الأمة عبدالله خليل.
خبر سعيد
لم تقتصر سعادة خروج الأزهري من رئاسة الوزراء على حزبي السيدين وإنما إمتدت لمصر خاصة وسط النخبة الحاكمة وقتها سيما الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان غاضباً من التحولات السياسية للأزهري وحزبه إنتقالهم لخانة الإستقلاليين وتخليهم عن موقفهم السابق المساندة للوحدة مع مصر، خاصة أن القاهرة بخلاف إسهامهم ورعايتها لتشكيل وتأسيس الحزب الوطني الإتحادي فإنها لعبت دوراً محورياً في إسناد الحزب في أول إنتخابات عامة بالبلاد في 1953م بشكل مكنه من تحقيق الأغلبية منفرداً وشكل على أساسها الأزهري أول حكومة بالبلاد.
كيف وقع حزب الشعب للوقوع في فخ الأزهري وأضعف إئتلافه الحاكم ؟!!
من الواضح أن التقديرات المصرية والرئيس المصري جمال عبدالناصر وقتها تأسست على تقديرات وفرضيات شبيهه لمكونات الإئتلاف الحكومي الجديد عموماً وحزب الشعب وراعيه على وجه الخصوص من خلال التعويل على إمكانية هزيمة أزهري وحزبه والقضاء عليهما في أول إنتخابات عامة ستنظم بالبلاد نظراً لخوضها دون سند مصري وفي ظل وتزعزع موقفه الجماهيري بعد سحب غطاء الطريقة الختمية عنه مما يجعله مكشوفاً ويسهل الإنقضاض والإجهاز عليه سياسياً في تلك الإنتخابات ويتم بعدها التفرغ لخوض الصراع ضد العدو التاريخي المتمثل في حزب الأمة.
(الشعب) داخل الفخ
كما أسلفنا في الحلقة السابقة فإن نتيجة إنتخابات 1958م كانت مفاجئة وغير متوقعة وترتب عليها عدة نتائج أولها زيادة مقاعد حزب الأمة لـ63 مقعداً مقارنة بـ24 مقعداً أما حزب الشعب فحصل على 27 مقعداً بزيادة 10 مقاعد عن كتلته في البرلمان السابق وبالنسبة للحزب الوطني الإتحادي بقيادة أزهري فقد تمكن من زيادة مقاعده من 31 مقعداً إلي 45 مقعداً وهي النتيجة التي كانت تعني عملياً بأن الأزهري بات رقم لا يمكن تجاوزه، أما التأثير الثاني لتلك النتيجة فكانت في رؤية وتقييم رئيس الوزراء عبدالله خليل لشركائه بالحكم بعدما أظهرت تلك الانتخابات ضعفهم أمام خصمهم اللدود الأزهري الذي وضح تمتعه بثقل شعبي وجماهيري أكبر من شريكه بالحكم.
منذ تكوين الحكومة الإئتلافية الأولي منتصف العام 1956م كان واضحاً للعيان تحركات حزب الأمة ومواقفه المختلفة من شريكه حيال العديد من الملفات، وإن بدت على إستحياء، وفي ذات تزايد الضغط على حزب الشعب من قبل غريمه الوطني الإتحادي مستغلاً الدهاء الشديد للأزهري الذي وجه ضربات مزدوجة بنقد مواقف الحكومة التي يرأسها عبدالله خليل من جهة وإظهار تناقض غريمه حزب الشعب وضعفه خاصة في ما يتصل بمساندة ودعم المواقف المصرية وكأنه يقول للقاهرة “هؤلاء حلفائكم الذين أعتقدتم أنهم سيساندونكم في الحكومة ولكنهم عوضاً عن ذلك يقفون بلا حول أو قوة أمام حزب الأمة ورئيس الوزراء عبدالله خليل”.
توافقت رؤى عبد الناصر مع الإئتلاف الحكومى تجاه الوطني الإتحادي في (…)
نتيجة لهذا الوضع وجد حزب الشعب نفسه مجبراً بسبب مناورات الأزهري لإتخاذ مواقف تميزه عن شريكه بسبب معطياته الداخلية وعلاقاتها التاريخية بالقاهرة مما أدي لخلق تصدعات إضافية على إئتلافه المتباين في الرؤى، وبذلك وقعوا في الفخ الذي نصبه لهم الأزهري وقادة الوطني الإتحادي الذين نجحوا في تعلية رصيدهم الشعبي على حساب غريمهم وفرضوا أنفسهم على الساحة السياسية سواء كان لحزب الأمة أو حتي للرئيس جمال عبدالناصر مما دفع القاهرة لمراجعة مواقفها الغاضبة السابقة حيالهم.
الإختبار الأول
جابهت الحكومة الإئتلافية للسيدين إختبارها الأول في ملف شائك جداً ومعقد لدى الحزبين يتمثل في التعامل مع العدوان الثلاثي على مصر التي بدأت في 29 أكتوبر 1956م بإنزال إسرائيل لقواتها غرب القناة بعد نجاح المصريين من إدارة قناة السويس في أعقاب إعلان الرئيس المصري جمال عبدالناصر تأميمها في 26 يوليو من ذات العام، وما تلاها من رفض مصري للإنذارين البيرطاني والفرنسي وبداية شن الحرب فعلياً على مصر في 31 أـكتوبر، وترتب على تلك الأحداث تصاعد وتيرة المظاهرات بالسودان المؤيدة لمصر منذ إعلان تأميم قناة السويس وطالبت تلك التظاهرات بعد إندلاع الحرب بإتخاذ إجراءات مؤيدة لمصر عبر إرسال مساعدات عسكرية عاجلة وقطع العلاقات مع دولتي بيرطانيا وفرنسا بإعتبارهما مساهمتين في العدوان على مصر.
إزاء تصاعد تلك التظاهرات أعلن رئيس الوزراء عبدالله خليل حالة الطوارئ بالبلاد في الرابع من نوفمبر وقرر فتح مراكز لتدريب المتطوعين ونقلهم لمصر وزيادة التجنيد للجيش السوداني وهي مطالب أقل من التي رفعتها تلك التظاهرات التي كانت تطالب بإرسال مساعدات عسكرية سودانية كبيرة وعاجلة لمصر وقطع العلاقات مع بيرطانيا وفرنسا بإعتبارهما الدولتين اللتين قامتا بالمشاركة في الإعتداء على مصر.
بالعودة لبرقية صادرة من السفير الأمريكي بالخرطوم لوزير الخارجية الأمريكي مؤرخة بتاريخ 22 نوفمبر 1956م فقد علق على الإجراءات التي إتخذها عبدالله خليل بقوله أن معللوماتهم تشير لعدم قيام السودان يقطع علاقاته مع بيرطانيا وفرنسا وتقديمه تفسيرات لإعلان الطوارئ بأنها “عمل إحتياطي أكثر من كونه توقعاً لتطورات خطيرة .. وتعاطي ذكي من عبدالله خليل بربط الطوارئ بخلق وضع مستقر يجعل مساعدة مصر فعالة ومثمرة .. أما السبب الحقيقي لإعلان الطوارئ فكان وقف التظاهرات وتنسيق المواصلات لنقل المواد العذائية في حال تأثر الأوضاع الإقتصادية جراء (حرب السويس)”.
مساندة شكلية
طبقاً لذات الوثيقة فإن إعلان خليل إستعداده نقل المتطوعين لمصر ناتج عن معرفته المسبقة لقلة عددهم، وذكرت أن قراره بزيادة التجنيد في الجيش بدأ العمل به فعلياً قبل إندلاع (حرب السويس)، وهذا يقودنا لنتيجة مفادها أن خليل تعاطي مع ملف حرب مصر في 1956م بقدر عالى من الدهاء والمكر أرضت حلفائه بالحكم وجلعته ينحني أمام الحراك الشعبي المنادى بمساندة مصر دون أن يترتب على ذلك مساندة فعلية للقاهرة التي ظلت رؤية حزب الأمة محكومة تجاهها بالكثير من المرارات والعدوات والشكوك والظنون، وبالتالي فإن دعم الحكومة السودانية كان في حقيقة الأمر “شكلياً لأعلى درجة” في الجانب العسكري أما على المستوي السياسي فقد تمسك خليل بإستمرار علاقات الخرطوم بكل من بيرطانيا وفرنسا.
(…) هذا الأمر ساهم في إنجاح الإستراتيجية الإنتخابية للأزهري حيال حزب الشعب
فطن الأزهري للمواقف الشكلية التي إتخذتها حكومة خليل في ما يتصل بمساندة مصر في حرب العدوان الثلاثي ولكنه إنتظار التوقيت المناسب لتوظيف هذه النقطة ضمن معركته السياسية التي يخوضها ضد الإئتلاف الحكومي عموماً وغريمه حزب الشعب وإختار لها الوقت السابق للإنتخابات والمقررة في أوائل 1957م –قبل أن يتم تأجيلها لمدة عام- وبعد يومين من إلقاء خليل لبيانه أمام البرلمان في العاشر من ديسمبر من ذات العام.
ووجه في الثاني عشر من ديسمبر نقداً عنيفاً لمواقف الحكومة السودانية تجاه مصر إبان العدوان الثلاثي واصفاً دعوة خليل في بيانه أمام البرلمان لتأسيس علاقات صادقة مع كل الدول بما في ذلك بيرطانيا وفرنسا اللتين شاركتا في العدوان على مصر بأنها “خيانة المصالح السودانية والمصرية وتناقض قول الحكومة بأنها تؤيد مصر” طبقاً لما جاء في برقية السفير الأمريكي بالسودان لوزير الخارجية الأمريكي المؤرخة بتاريخ 22 ديسمبر من ذات العام.
وجه الأزهري يومها خمس إنتقادات لخليل تلخصت في (رفض رفع إعلان حالة الطوارئ، الإصرار على علاقات مع بيرطانيا وفرنسا، إلغاء ذهاب فرق المتطوعين لمصر بعد إساءة الذين تطوعوا، السماح للسفير البيرطاني بتوزيع منشوارت في الخرطوم “وصفها الأزهري في حديثه بالسموم” ومنع عرض فيلم يصور جرائم القوات البيرطانية والفرنسية بعد إنزالها في بورسعيد).
كما ذكرنا سابقاً فإن الهدف من إثارة هذه القضايا تحقيق عدة أهداف مزدوجة فهيي تعزز موقف الوطني الاتحادي المعارض للإئتلاف الحكومي وتهز من صورة حزب الشعب وسط قواعده خاصة في المدن المتعاطفة مع مصر مما قد يترتب عليه تغيير ولائها الانتخابي تجاه مرشحي الحزب وكان واضحاً تخطيط الوطني الإتحادي للإطاحة برموز جزب الشعب في الدوائر الإنتخابية بالمدن على رأسهم رئيس الحزب الشيخ على عبدالرحمن وميرغني حمزة اللذين يخوضان الانتخابات في بحري وأمدرمان، بجانب رسالة أخرى للمصريين مقصدها بأن يعيدوا النظر في تحالفهم مع حزب الشعب نتيجة لضعف موقفهم حيال العدوان الذي تعرضت له مصر.
بالنظر للنتائج اللاحقة لانتخابات 1958م فيمكننا القول بأن إستراتيجية الوطني الإتحادي حققت نجاحاً في ما يتصل بالتعاطي مع الانتخابات إذ حصد الحزب 45 مقاعداً وتمكن مرشحوه من هزيمة أربعة من وزراء وقيادة حزب الشعب على رأسهم رئيس الحزب ووزير الداخلية الشيخ على عبدالرحمن، نائب رئيس الوزراء وزير الزراعة والري ميرغني حمزة ووزير التجارة حماد توفيق، ولم يفز من وزراء الحزب بالحكومة الإئتلافية سوى وزيري الحكومات المحلية محمد نوالدين والشؤون الإجتماعية محمد أبوسن.
السوداني