رأي

نظرة نقدية للأزمة داخل الحركة الشعبية .. مقاربة للخروج من الأزمة

 

د. محمد جلال هاشم
مقدمة نقدية

أدناه سوف نحاول أن نقوم بتحليل أوجه الصراع بمنهج غير خطي linear، بل بمنهج دائري circularr. يقال بأن الحقيقة بلّورية، لا في معنى أنها واضحة وضوحا بلوريّاً crystal clear، بل في معنى أنها تكعيبية الوجوه، أي سداسية؛ وبالتالي يمكن للمرء أن يرى جانباً من الحقيقة واضحاً متى ما انكفأ على واجهة واحدة. وهذا ما نسمّيه بالمنهج الأحادي كونه لا تتسع عدسته أو شبكته البصرية لأكثر من واجهة واحدة للحقيقة.

أما المنهج الدائري فيكتسب اسمه لأنه يبدأ بواجهة ثم ينطلق منها إلى الواجهة الأخرى، فالتي تليها إلى أن يكمل دائرته بالعودة إلى الدائرة التي بدأ منها. وإنما لهذا جعلوا من الدائرة رمزاً للكمال، بينما يشير الخط للنقص؛ فهو مهما تطاول وامتدّ ليس سوى خط يربط بين نقطتين لهما ما قبلهما وما وراءهما. هناك نزوع طاغٍ لدى قطاع كبير من الناس للنظر إلى الأمور عبر المنهج الخطي وهم معذورون في هذا. فالمنهج الخطي هو أحد أسلحة المركز وتكتيكاته الخطيرة كونه يحيل القضايا إلى ثنائية يفصل بينهما خط؛ مثلاً كتصوير الحياة أنها تنقسم إلى خير وشر، وبالتالي الخلاص هو أحادي يكمن في اتباع الخير، وإلا فإنها جهنم. وكما نرى، هذا منهج اختزالي اشتُهرت به الأديان كونها اختزالية.

إذن فالمنهج الخطي هو أحادي وهو من أخطر أسلحة المركز في إدارته للصراع. من ذلك تصوير الصراع في السودان على أنه بين شمال عربي مسلم ضد جنوب زنجي مسيحي وثني؛ وكذلك تصويره في سياقات أخرى على أنه بين الغرابة القادمين من دارفور وغرب حزام السودان الكبير في مواجهة أولاد البحر، أي الوسط الشمالي النيلي، أي أولاد البلد .. إلخ.

هناك المثيرون الذيم يعتقدون أنهم يناهضون المركز بينما هم ينتمون له ولو بغير علمٍ منهم كونهم يستخدمون ذات تكتيكات المركز ومناهجه. هؤلاء مهما خلصت عندهم النوايا سوف تنأى عنهم مرافئ الحلول كونهم لا يمثلون شيئاً أكثر من إعادة إنتاج الأزمة. في تحليلنا للأزمة سوف نستعرض الرأيين المتناقضين اللذين يذهب أحدهما إلى أنّ ما قام به مجلسا تحرير جبال النوبة والنيل الأزرق ليس سوى انقلاب ضد الشرعية، ثم بعده نستعرض الرأي القائل بأن ما تم هو ثورة تستمدّ شرعيتها من نفسها. في تحليلنا لن ننكفئ على مفاصل احتجاج حملة أيٍّ من الرأيين، بل سنقوم بحفر معرفي في جوهر الاحتجاج وتأسيساته. عليه، قد نستعرض جوانب فيه ربما لم تخطر على من يتبنونه. بعد ذلك نطرح لكل رؤية الحل العملي الذي يتفق والمنطق الداخلي لها. أخيرا، نترك للقارئ مهمة أن يقارن بينهما عسى أن يرى بصيص ضوء في آخر النفق.

في يوم 7 مارس 2017م أصدر عبد العزيز الحلو بياناً موجهاً لمجلس تحرير جبال النوبة وجنوب كردفان أعلن فيه استقالته تحت جملة أسباب. وقد تمخضت عن هذه الاستقالة قرارات أخرى من المجلس المعني رفض فيها الاستقالة، ثم توالت خلال شهر يونيو 2017م جملة قرارات قلبت الأمور ظهراً على بطن. الآن لدينا قرارات (انقلابية أو ثورية) صدرت أولا من مكتب تحرير جبال النوبة وجنوب كردفان ثم قام مجلس تحرير النيل الأزرق بتأييدها.

تمثلت القرارات في عزل رئيس الحركة الشعبية وقائد الجيش الشعبي مشفوعا كذلك بعزل الامين العام للحركة الشعبية. وقد أتبع مجلس تحرير جبال النوبة هذه القرارات بقرارات أخرى قام فيها بتعيين رئيس جديد مؤقت للحركة والجيش الشعبي، ثم قام بتسمية بعض الأسماء لمواقع قيادية خلت بموجب القرارات أعلاه، بما في ذلك تسمية وفد تفاوضي جديد، مع الوعد بالعمل الجاد لإكمال باقي المهام التي ظلت عالقة، بما في ذلك عقد المؤتمر العام للحركة وما يلزم من تصعيد ممثلي المكاتب، ثم وضع منافيستو ودستور للحركة.

وجهة نظر أولى: الشرعية الدستورية: هذا انقلاب!

أول ما يمكن أن يؤخذ على هذه القرارات بموجب ما رفعه المعترضون عليها هو أنها تقع خارج اختصاص المجلسين. فدائرة اختصاص مجلس جبال النوبة وجنوب كردفان هو محصور بموجب الاسم والاختصاص في دستور الحركة لدى تأسيس المجلس على جميع القضايا الواقعة داخل حدود المنطقة التي يطلق عليها جبال النوبة وجنوب كردفان.

وهذا ما ينطبق أيضا على مجلس تحرير النيل الأزرق. إن من يغالط في هذا كمن يغالط فيما إذا كانت الشمس تشرق من المشرق أم تشرق من المغرب.

هذه حقيقة لا مندوحة من قبولها. فهذا صحيح بحكم الدستور الذي بموجبه قد تم تأسيس هذين المجلسين بمثلما هو صحيح بموجب الفهم العام لحصرية أي جسم يتم تكوينه على أساس مناطقي. وعلى هذا يجوز لمن يرفضون هذه القرارات أن يصفوها بالانقلاب على الشرعية بحكم أن الشرعية هذ تلك الوضعية القائمة بموجب الدستور واللوائح، أو عرفياً ما تم التراضي عليه.

ولكن كل هذا لا ينفي حقيقة ماثلة للعيان، ألا وهي أن هذا الانقلاب قد أصبح أمراً واقعاً. وهذا أشبه بالانقلابات العسكرية التي تقع في الدول، حيث لا تغني الإدانة والاستنكار شيئاً عندما لا تجد الأطراف الرافضة بداً من التعامل مع النظام الانقلابي بوصفه أمراً واقعا. في هذه الحالة تتجه الأنظار لترى إذا ما كان الانقلاب يحمل في جعبته حلولاً للأزمة، ذلك لأنه في أغلب الأحيان لا يمكن أن يكون هناك انقلاب دون أن تكون هناك أزمة. وبعد، دعونا نتأمل في تشخيص الأزمة حسبما زعمت به قرارات مجلسي التحرير بجبال النوبة والنيل الأزرق في معرض التبرير لاتخاذها. يمكن تلخيص هذه العوامل والأسباب على النحو الآتي:

(1) عدم كفاءة القيادة في إدارة الحركة نسبة للمركزية وانعدام الديموقراطية لدرجة تصل حد تخوين القيادة؛ (2) انعدام الرؤية الفكرية والسياسية لدرجة تفكيك الحركة؛ (3) المحسوبية والمحاباة لذوي القربى وللموالين؛ (4) الاستبداد والاستفراد بالرأي والقرارات لدرجة الإقصاء لكل من يختلف في الرأي وتخوينه.؛ ثم (5) الفساد.

بافتراض أن جميع ما قيل صحيح، دعونا نرى الآن كيف جاءت المعالجات. في البدء تجدر الإشارة إلى أن الأدوات والمناهج التي أدت إلى خلق الأزمة، لا تصلح لمعالجة الأزمة مهما خلصت النوايا، كونها تصبح مجرد إعادة إنتاج للأزمة. من بين عوامل الفشل الأربعة المشار إليها أعلاه، يمكننا أن نشير بثقة كبير إلى ان العامل رقم أربعة هو أسّ المشكلة وما العوامل الثلاثة الأخريات إلا مترتّبات منطقية للعامل له.

الآن سوف نحاول أن نرى إذا ما كان هذا العوامل الأربعة موجودة في قرارات مجلس تحرير جبال النوبة أم لا. كما سبق منا القول، ودون الإحالة إلى أيّ مادة دستورية أو لائحية أو خلفية تاريخية، يشير الاسم بوضوح إلى أن دائرة الاختصاص area of jurisdiction لهذا المجلس تنحصر في جبال النوبة. إلا أن القرارات التي اتخذها هذا المجلس تنسحب على الحركة الشعبية في كل مكان، داخل السودان أو خارجه. وهذا استفراد بالرأي وإقصاء للآخرين (العامل رقم أربعة). ولا عبرة هنا بقرارات التأييد من داخل البلاد كانت أم من خارجه؛ فكل من لا يؤيد، سيتم تخوينه (توافر العامل الثاني).

وبالطبع لا بد أن يختلف الكثيرون مع هذه القرارات لأنها، بصرف النظر عن كونها صائبة أم خاطئة، تقوم على درجة عالية من المركزية وانعدام الديموقراطية. فجميع هذه القرارات قد صدرت من أحد الأجسام بالحركة دونما استشارة لباقي أعضاء الحركة ومكاتبها ودون وجه اختصاص (توافر العامل الأول).

ثم هناك ضبابية في الرؤية الجوهرية للحركة الشعبية وموقفها من وحدة السودان مقابل تفتيته؛ لقد أعطتنا تجربة تبنّي تقرير المصير لجنوب السودان نتيجة وخيمة تمثلت ليس فقط في فقدان السودان لثلث أراضيه، بل في فقدان الحركة لمصداقية خطها الوحدوي. وها هي القرارات تعيد إنتاج اتفاقية نيفاشا في مخرجاتها المضادة للخط الوحدوي الذي وضع قواعده الآباء المؤسسون مثل جون قرنق ويوسف كوة. فهذه القرارات لا تسندها أي رؤية فكرية تقوم بمراجعة حقيقة أن الدعوة إلى تقرير المصير قد انتهت إلى تفتيت السودان وتفكيك الحركة الشعبية وانقسامها، ثم إعطائنا أفشل تجربة في الحكم في القرن الحادي والعشرين (تجربة الحركة الشعبية جنوب في إدارة دولة جنوب السودان).

عليه، طالما لم يقم مجلسا جبال النوبة والنيل الأزرق بهذه المراجعة، فلا يمكن النظر إلى دعوتهما لتقرير مصير المنطقتين دون استصحاب تجربة انفصال الجنوب وفشلها الذريع. بجانب كل هذا تجدر الإشارة الى أنه برغم هذه القرارات، فالحركة لا تزال حتى الآن بدون منافيستو وبدون دستور وبدون هياكل (العامل الثاني مرة أخرى). ولا عبرة هنا بإزجاء الوعود بإنجاز هذه المسائل العالقة؛ فمن أين لأعضاء الحركة الضمانات بأنها لن تكون مثل الوعود التي بذلتها القيادة الثلاثية طيلة السبع سنوات الماضية دون نتيجة؟ كما يمكن الإشارة أن وفد التفاوض الذي كونه مجلس تحرير جبال النوبة يكشف بوضوح عن توافر العامل الثالث (المحسوبية وتعيين الموالين). وبالطبع، بموجب هذا التحليل، إن هي إلا مسألة وقت حتى يتضح أن العامل الخامس (الفساد) موجود ومتوافر في آلية المعالجة متى ما استمرّ الوضع وتطاولت أيامه.

لقد اشتمل خطاب عبد العزيز الحلو (8 يونيو 2017م) الذي قبل فيه تكليفه برئاسة الحركة والجيش الشعبي من قبل مجلس تحرير جبال النوبة على تأكيدات بأن مالك عقار وياسر عرمان ومن تبعهم هم مناضلون ولهم كامل الحق في المشاركة في إجراءات إعادة تأسيس الحركة ويدعوهم لاهتبال الفرصة. ولكن هذا يعني في البدء تسليمهم بفشلهم الذريع الذي بلغ حد خيانة الحركة. وبالطبع إنّ تسليمهم بهذا الأمر يعني انتحارا سياسيا وفكريا وتنظيميا، ما يعني أنّ قرارات مجلسي تحرير جبال النوبة والنيل الأزرق قد تمت صياغتها بحيث تحقق الإقصاء الكامل لمالك عقار وياسر عرمان، أو الاستسلام والحكم على الذات بالفشل، ما يعني بدوره تجريدهما من أي أهلية قيادية.

ويعني هذا أن القرارات الأخيرة، بما اشتملت عليه من إقصاء واستفراد بالرأي، لا تعدو كونها انعكاسا للأزمة وإعادة إنتاج لها. وليت الإقصاء وقف عند هذا الحد، بل لم يقم حتى الآن مجلس تحرير جبال النوبة بتكوين آلية إدارية يضمن بها مشاركة مجلس تحرير النيل الأزرق الذي أعلن ليس فقط تأييده لقرارات الأول، بل تبعها حذو النعل. وكذلك لم يقم مجلس تحرير جبال النوبة حتى بتكوين آلية إدارية يضمن بها مشاركة مكاتب الحركة داخل وخارج السودان التي أعلنت غالبيتها الكاسحة عن مباركتها لقرارات مجلس تحرير جبال النوبة.

فإذا كان هذا المجلس قد عجز عن تكوين آلية إدارية يضمن بها تمثيل ومشاركة من يؤيدونه، فالمنطق يقول بأنه سيكون أعجز عن أن يفعل هذا مع الجهات التي لم تعلن بعد تأييدها ومباركتها لمجمل قراراته.

ومع كل هذا أعطى المجلس نفسه حق تقرير مصير الحركة الشعبية كلها. كما فشل مجلسا تحرير جبال النوبة والنيل الأزرق، وكذلك فشل عبد العزيز الحلو، في توسيع نطاق آليتهم لإدارة الأزمة بحيث تسع أعضاء الحركة في الجبهة الداخلية برغم مباركة الأخيرة لمجمل الحراك الذي بادر به عبد العزيز الحلو ثم بعده المجلسان. ليس هذا فحسب، بل فشلوا حتى في مستوى إدارة لغة الخطاب، فنسبوا هذا القطاع (الذي ينبغي اعتباره جذع شجرة الحركة) إلى المؤتمر الوطني عندما خاطبوه بوصفه القطاع الذي يعيش داخل مناطق المؤتمر الوطني. وهذه درجة ولو صغرت لكنها تخوينية في جوهرها.

إذ ما الذي جعل هؤلاء يرضون بمهانة الحياة داخل المناطق التي يسيطر عليها المؤتمر الوطني بينما هناك أراضي محررة قام بتحريرها الجيش الشعبي! أوليست هي القيادة الثلاثية التي كان عبد العزيز واحداً منها طيلة السبع سنوات الماضية. فقد منعتهم هذه القيادة من المشاركة الميدانية المدنية والعسكرية في جبهات القتال.

فهذه تنميط ينبي عن نظرة تطفيفية وغير نقدية كون هؤلاء ظلوا بلا قيادة داخلية لسبع سنوات، خاضعين خلالها للقيادة الثلاثية بمثل ما ظل المقاتلون يخضعون لذات القيادة الثلاثية. والآن هناك حراك من أعضاء الحركة بالجبهة الداخلية تتساوق خطاه مع ما يقوم به المجلسان. كل هذا دون أن يبادر مجلسا تحرير المنطقتين لاتخاذ إجراءات تنظيمية عبرها يمكن أن يشارك جميع أعضاء الحركة الشعبي، بالمنطقتين وبالداخل والخارج.

إذن، نخلص من هذا إلى أنّ جميع ما تم حتى الآن ليس فقط غير كافٍ لطمأنة أعضاء الحركة الشعبية بأن مشاكل الحركة في سبيلها لتجد الحلول الناجعة والتخلص من كل الأدواء والعلل التي صاحبت القيادة القديمة. فجميع المؤشرات تنذر بأن ما تمّ ليس سوى إعادة إنتاج للأزمة، ما يعني أن الحركة الشعبية ربما لا تزال في حاجة لثورة داخلية حقيقية.

ولكن تكمن الأزمة في عمقها أنّ أي حركة مهما كانت قوية ومتماسكة قد لا تتحمل أكثر من ثورة داخلية. فدالة النضال الثورية في الحركات الثورية ينبغي أن تتجه نحو الأوضاع المراد تغييرها، أي خارج الحركة؛ لكن عندما تنحرف دالة النضال الثورية وتتجه نحو الداخل، فإنها لا تنبي فقط عن شر مستطير، بل قد تكون مؤشراً لانتهاء صلاحية الحركة نفسها ودخولها مرحلة الموت مع الفرفرة ريثما تدخل مرحلة الموت السريري عندما تكون موجودة اسماً وأعضاءً لكنها “لا تهشّ ولا تلزّ”!

الشرعية الدستورية: ما هو المخرج؟

في 5 يونيو أصدر مالك عقار بيانه الأول منذ نشوب الأزمة. اشتمل بيانه على عدة اقتراحات يمكن تلخيصها على النحو التالي:

(1) التأسيس للتخلص من القيادة الثلاثية من تلقاء نفسها.

(2) تكوين قيادة مؤقتة.

هذا وإن يكن البيان قد اقترح أسماء بعينها لتخدم كقيادة بديلة، إلا أنه لا اعتبار لتلك التسميات كونها أمراً ثانوياً مقابل تنازل القيادة الثلاثية. كما لا اعتبار لما حواه ذلك البيان وتوصيته بألاّ يترشح أيّ شخص من القيادة الثلاثية لأي منصب في المرحلة القادمة.

فهذا رأي غير حكيم كونه يصدر حكماً بانتهاء صلاحية القيادة الثلاثية. فهذه القيادة قد توفّرت على خبرة ضخمة عبر انتسابها للحركة الشعبية؛ وعليه لا بدّ أن تظلّ ناشطة كجزء من طاقم القيادة ولو لتمليك القيادة الجديدة خبراتها. كما لا اعتبار للمراجعات التي احتواها الخطاب، أكانت صائبة أم خاطئة. أخطر ما في ذلك البيان أنه يقدّم مخرجاً للأزمة عبر بوابة الشرعية.

فالذين ظلوا يحلمون أو يعملون في سبيل التخلص من القيادة الثلاثية (أو قل تحديدا من القيادة الثنائية، مالك عقار و ياسر عرمان، وأتباعهما)، لا يحتاجون إلى أي قرارات ثورية في سبيل تحقيق هدفهم، من قبيل ما قام به مجلسا تحرير جبال النوبة والنيل الأزرق. فخطاب مالك عقار هو بمثابة لف الحبل حول رقبة القيادة الثلاثية، وما على الذين يريدون التخلص منها غير شد الحبل. كيف؟ بتأسيس جميع خططهم على المقترح الأساسي لخطاب مالك عقار، ألا وهو تكوين قيادة بديلة.

كيف سيتم هذا التكوين؟

بالطبع ليس أكثر من السيناريوهات! من ذلك مثلاً أن تقوم كل دائرة من دوائر الحركة الأربع (الجبهتين العسكريتين بجبال الجنوب والنيل الأزرق ثم الدائرتين المدنيتين ممثلة في عضوية الداخل والخارج)، بتصعيد مناديبها بحيث لا يزيد عدد ممثلي كل جبهة عن عشرة أشخاص، ذلك لأن الجسم القيادي الذي سيتم تشكيله مؤقت. بمجرد تكوين المكتب القيادي المؤقت، يبدأ الشروع في إنجاز المهام التالية:
(11) الفراغ من منافيستو الحركة الشعبية بما يضمن مراجعة خطاب السودان الجديد بموجب ما ترتبة عن اتفاقية نيفاشا والتأكيد على أن مهمة التحرير لا تزال قائمة وتبعاً لذلك خطاب السودان الجديد؛
(2) الفراغ من وضع دستور الحركة وإدراجه للإجازة من قبل المؤتمر العام القادم؛
(33) الإشراف على تصعيد مناديب الحركة بالداخل والخارج وبالجبهتين لتصعيد المناديب لتمكينهم من المشاركة في المؤتمر العام القادم.
(4) عقد مؤتمر المؤتمر العام للحركة الشعبية لاختيار القيادة وباقي المكاتب.

بجانب العمل على إنجاز هذه المهام الثلاث، يواصل المكتب إدارته للأوضاع الحالية بالداخل والخارج ثم بالجبهات القتالية عبر طاقم القيادة العسكري بجانب تسيير العمل والشروع في الاتصال مع مبادرات المجتمع الدولي ونظام الخرطوم لشرح الوضع الانتقالي الحالي ريثما يتم تشكيل القيادة الشرعية الجديدة.

وجهة نظر ثانية: الشرعية الثورية: هذه ثورة!

في المقابل تنهض مناقشة مضادة سوف نقوم باستعراضها حتى لو غابت مفاصلها عن واعية من يؤيدون قرارات المجلسين. نبدأ المناقشة بالإشارة إلى أن الحركة الشعبية في أصلها ليست مؤسسة عاديّة ordinary institution، بل هي جسم ثوري، خرج ثائراً ضد الأوضاع العاديّة في السودان في سبيل أن يؤسس سودانا جديداً. وإلى ذلك الحين ستظلّ الحركة تعمل كجسم ثوري. وكما نعلم جميعاً، الأجسام الثورية تثور ضد الحكومات وضد قوانينها وضد دساتيرها. ولكن مآل أي جسم ثوري هو العودة إن عاجلاً أم آجلاً لدائرة الأوضاع العاديّة ordinary situations التي تحكمها المؤسسات التي تخضع بدورها للوائح ثم القوانين وبعدها الدساتير، كل ذلك عبر إجراءات روتينية وبيروقراطية كأبعد ما تكون عن الثورية.

ولهذا عادة ما تقوم الأجسام الثورية بابتناء هياكل ومكاتب لها؛ فالثورية لا تعني بأي حال العمل من غير هياكل، وإلا كانت هذه هي الفوضى بعينها. ويكون هذا الأمر ألزم في حال الحركات الثورية التي تطرح نفسها كحكومة افتراضية provisional في حال انتصارها، والحركة الشعبية لتحرير السودان من هذا النوع فيما يعلم عنها بالضرورة. وبالفعل ابتنت الحركة الشعبية كل الهياكل التنظيمية، المدنية والعسكرية، التي من شأنها أن تمكنها من تحقيق أهدافها. ومع هذه الهياكل واللجان والأفرع، جاء دستورها ومنه تنزلت الكثير من القوانين ثم اللوائح.

ويتحدد مصير مثل هذه الحركات الثورية بأحد ثلاثة احتمالات؛ الأول هو الانتصار المطلق ما يعني اجتياح قوات الحركة للعاصمة؛ والثاني هو انكسارها وهزيمتها وذهاب ريحها؛ والثالث هو جنوحها للمساومة عبر تسوية compromise، ما يعني أنها قد فشلت جزئياً بنسب تتراوح في تحقيق أهدافها التي ثارت من أجلها.

في هذا تقع الحركة الشعبية تحت طائلة الاحتمال الثالث إذ كلنا نعرف اتفاقية نيفاشا التي استمرت لمدة ست سنوات انتهت بفصل الجنوب واشتعال الحرب في السودانَيْن (بفتح النون). وعادة ما تصبح الحركات الثورية في مثل هذه الحالات عرضة لفقدان حسّها الثوري، خاصة إذا لازم الأمر انبهام في الرؤية عند القيادة. عندها قد تنحرف الحركة عن مسارها، لا عن خيانة بالضرورة، بل جرّاء انبهام الرؤية، جرّاء فقدان الحسّ الثوري في أفضل الأحوال. بجانب هذا، قد يظهر الاستبداد والطغيان. فضلا عن المحسوبية والفساد. ويتساوق مع هذه العلل ارتكاب الأخطاء القاتلة فيما هو تكتيكي وما هو إستراتيجي دون أن تكون القيادة منتبهة، ذلك لطول تحاميها النصح الممحوص من قبل الرفاق، إذ تكون قد أقصت منذ زمن العناصر الثورية المخلصة واستبدلتها بالعناصر الرخوة، فضلا عن الانتهازيين والمنافقين.

على هذا تصبح مثل هذه القيادة خطرا كبيرا على التنظيم الثوري نفسه، الأمر الذي يستدعي قيام ثورة داخلية أشبه بالثورة التي دشّنتها الحركة أول أمرها، فثارت ضد الدولة بقوانينها ودستورها، وضد جيشها وبوليسها، ثم ضد هياكلها ولوائحها.

إن أي مطالعة عابرة اليوم لمجمل القرارات التي صدرت من مجلسي جبال النوبة والنيل الأزرق وما تبع ذلك من بيانات تأييد، سوف يلاحظ أنّها جميعا تعبر عما شرحناه أعلاه. ويعني هذا عمليّاً أن القرارات الأخيرة، بما أنها ثورية، فمن العبث محاولة إخضاعها لأي دستور أو قوانين أو لوائح، وما السعي لمثل هذا إلا إثبات عملي بأن من يقومون بهذا قد فقدوا ثوريتهم، وبالتالي فقدوا أهليتهم في الانتماء لأي تنظيم ثوري. والغريب، ولنا جميعا أن نعجب، أن المجموعة الرافضة قد وصفت مجمل قرارات مجلسي التحرير تلك بالانقلاب. فلتكن انقلاباً! عادةً ما تصف الانقلابات نفسها بأنها ثورة.

وكذلك معروف عن الانقلابات أنها تتمكن من تسمية نفسها ثورة في حال نجاحها، بينما تصبح خيانة ومغامرة غير محسوبة العواقب في حال فشلها. لكن طبعاً تكتسب الانقلابات العسكرية داخل منظومة الدول شبهة الشرعيةً الدستوريةً لدى مقارنتها بالانقلابات داخل الحركات الثورية (إن جاز استخدام مصطلح انقلاب داخل جسم ثوري).

فالانقلاب العسكري يستخدم مؤسسات الدولة العسكرية وأسلحتها للاستيلاء على الدولة، بينما الحركة العسكرية المتمردة تعمل على تدمير مؤسسات الدولة في سبيل الاستيلاء على الدولة. وعليه، لا يجوز لأي شخص قيادي ينتمي لحركة ثورية عسكرية متمردة على الأوضاع القائمة أن يتحدث عن الانقلابات، خاصة عندما يثور ضده أتباعه. فالمسألة كلها تحكمها الثورية التي لا تجعل التنظيم الثوري قادراً لأن يعلن في أي لحظة أنه لا يعترف بأي دستور أو قانون أو هياكل.

فالتنظيم الثوري عندما يبتني له هياكل ودستور ولوائح لا يلتزم بها في الواقع إلا تراضيا انطلاقاً من نبل الثورة، وإلا فإنها الثورة على جميع هذا. ممّا هو معلوم بالضرورة أنه ما من قائد تمرّد عليه أتباعه إلا وكان يتحمّل المسئولية عن ذلك. فالتمرد على القيادة لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، ثمّ ربما قامت جهات خارجية بنفخ نار الثورة ضده وربما لا.

عليه، بموجب هذه المناقشة التي رفعها بعض المؤيدين لقرارات مجلسي التحرير، يمكن تلخيص المسالة على النحو التالي: عندما أصبح واقعا مسألة قبول الحركة الشعبية بخيار التسوية وفق اتفاقية نيفاشا، عملت على ان تجعل من خيار الوحدة هدفا تكتيكياً لها (بموجب كونه في البدء هدفاً إستراتيجياً) بترجيح خياره في الاستفتاء، ذلك على أمل الفوز بالانتخابات ومن ثم تفكيك دولة السودان القديم وبناء دولة السودان الجديد. ولكن مؤامرة موت جون قرنق المفاجئة بعد حوالي شهرين من توقيع الاتفاقية عام 2005م جعلت قيادة الحركة الشعبية تنحدر بانتظام تحسد عليه نحو نفق تقسيم السودان، الأمر الذي انتهى بفصل الجنوب، ما أعطانا أفشل تجربة حكم في العالم لدولة وليدة. في الشمال، انصاعت قيادة قطاع الشمال للخط القومي الجنوبي دون التمكن من إجراء أي مراجعة فكرية عبرها تهتدي لسواء السبيل حتى لا تضل عن الخط الثوري.

هذا في ظل تهم متصاعدة باستمرار بالفشل الذريع في انتهاج قيادة رشيدة من قبل ياسر عرمان قائد قطاع الشمال، فضلاً عن التسلط بالرأي والمحسوبية وإبعاد النيّرين والمخلصين حسبما هو معلوم فيما قال به الكثيرون.

أما المنطقتان (جبال النوبة وجنوب كردفان ثم النيل الأزرق)، فقد تم تهميشهما بتتبيعهما للجنوب بينما كانت الحركة الشعبية بالجنوب قد تم اختطافها تماماً من قبل الوطنيين الجنوبيين على قلتهم وضعف حجتهم، وبذلك ظلت تملأ أشرعتها رياح الانفصال دون أدنى اعتبار لما سينتهي إليه وضع المنطقتين عشية انفصال الجنوب. وبالفعل، ما إن أصبح الانفصال واقعاً معاشاً حتى قامت قيادة الحركة الشعبية الجنوبية، حيث كانت في شغلٍ شاغل عن السودان القديم، ذلك بعد أن نسيت منذ زمن مشروع السودان الجديد، بإصدار الأوامر بدمج المنطقتين داخل قطاع الشمال، وبهذا تكونت القيادة الثلاثية.

لقد فشلت القيادة الثلاثية للحركة الشعبية أول ما فشلت فكرياً، ذلك عندما عجزت عن تقديم أي تحليل فكري تساعد به جماهيرها في أن تفهم لماذا انحرفت الحركة ككل عن خطها الفكري والإستراتيجي المتمثل في بناء السودان الجديد الموحد، ما أدى إلى أن تنقسم البلاد إلى نصفين. ويتمثل هذا الفشل في أنها ظلت تعمل لسبع سنوات بلا منافيستو.

ثم فشلت القيادة الثلاثية تنظيمياً، ذلك عندما ظلت، أولا، تعمل طيلة هذه السنوات بلا دستور يحكم أداءها وأداء تنظيم في حجم الحركة الشعبية. ثم فشلت ثانياً إدارياً، ذلك عندما عجزت عن ابتناء هياكل للحركة، فظلت القيادة الثلاثية طيلة هذه السنوات تقود الحركة كما لو كانت قطيعا من الأغنام له ثلاثة رعاة، أحدهما بالخلف، والإثنان الآخران بجانبي القطيع.

ثم فشلت القيادة الثلاثية سياسياً، ذلك عندما سيطر على قطاع كبير من أعضائها المدنيين والعسكريين فكرة أن القيادة تحت الضغط الدولي والإقليمي بصدد التوصل مع النظام الحاكم بالخرطوم إلى تسوية جديدة ليست سوى إعادة إنتاج لاتفاقية نيفاشا، بل حتّى دون مستوى نيفاشا الفاشلة من حيث البنود والضمانات.

خذا بجانب فكرة أخرى زعزعت ثقة الجيش الشعبي في القيادة الثلاثية، الا وهي تفكيك الجيش الشعبي لصالح ما يسمى بالجيش القومي الذي استبدلته حكومته بمليشيات الجنجويد. ثم فشلت القيادة الثلاثية عسكريا ليس فقط عندما حصرت جبهة القتال في المنطقتين، بل عندما أصرت في عناد غريب في حصر الحرب على الإثنيات المتوطنة بالمنطقتين دون فتح فرص القتال لجميع منسوبي الحركة الشعبية تكريسا لخطها القومي. وقد كان من أثر هذا تصاعد الحسّ القومي بالمنطقتين عندما تأكد لهم أن قيادة الحركة تستخدمهم كمحرقة للضغط على نظام الخرطوم في سبيل الوصول لامتيازات أفضل للقادة دون باقي أعضاء الحركة، بالضبط كما حدث في نيفاشا.

ثم خامسا فشلت القيادة الثلاثية قيادياً عندما أصمّت أذنيها لنصائح قادة الحركة الذين يلونهم في المرتبة مدنياً وعسكرياً، إذ محصوهم النصح رخاءً رضاءً، لكن ليس فقط دون جدوى، بل كان جزاؤهم كجزاء سنّمار حيث تم تخوينهم وطردهم من الحركة شرّ طردة.

فكيف يمكن تحقيق اختراق من دائرة الفشل الجهنمية هذه بغير ثورة داخلية! وبالفعل تفجرت شرارة الثورة من داخل القيادة الثلاثية عندما تقدم عبد العزيز الحلو باستقالته المسببة.

لم يعترف عبد العزيز الحلو بمجمل مناحي الفشل التي استعرضناها أعلاه، بل ذهب اكثر من ذلك عندما أخضع نفسه للتيار القومي النوبي المتصاعد الذي كان من أسباب بروزه وتناميه فشل القيادة الثلاثية.

وهكذا إلتقط مجلس تحرير جبال النوبة وجنوب كردفان القفاز من عبد العزيز الحلو، فكانت جميع القرارات الثورية التي يعرفها الجميع، ثم انضمام مجلس تحرير النيل الأزرق وتأييده لقرارات مجلس جبال النوبة، وما تلا ذلك من تأييد شبه كامل من جميع مكاتب الحركة بالداخل والخارج.

الشرعية الثورية: ما هو المخرج؟

إذا خلصنا إلى أن هذه القرارات شرعية بحكم الشرعية الثورية التي هي نفسها مناط شرعية الحركة الشعبية، تبقى الإجابة على السؤال الملح: ثم ماذا بعد؟ فهذه هي انفجارة الثورة، ليس إلا! ثم ماذا بعد؟ ما هي الخطوات التي ينبغي اتخاذها حتى لا تصبح هذه الثورة الداخلية مجرد إعادة إنتاج للأزمة؟ يتمثل المخرج العملي في أن يسرع مجلسا تحرير جبال النوبة والنيل الأزرق (بوصفهما الجسمين التنظيميين الناشطين) في تكوين قيادة بديلة.

كيف سيتم هذا التكوين؟ بالطبع ليس أكثر من السيناريوهات! من ذلك مثلاً أن تقوم كل دائرة من دوائر الحركة الأربع (الجبهتان العسكريتان بجبال الجنوب والنيل الأزرق ثم الدائرتان المدنيتان ممثلة في عضوية الداخل والخارج)، بتصعيد مناديبها بحيث لا يزيد عدد ممثلي كل جبهة عن عشرة أشخاص، ذلك لأن الجسم القيادي الذي سيتم تشكيله مؤقت.بمجرد تكوين المكتب القيادي المؤقت، يبدأ الشروع في إنجاز المهام التالية:

(11) الفراغ من منافيستو الحركة الشعبية بما يضمن مراجعة خطاب السودان الجديد بموجب ما ترتبة عن اتفاقية نيفاشا والتأكيد على أن مهمة التحرير لا تزال قائمة وتبعاً لذلك خطاب السودان الجديد.

(2) الفراغ من وضع دستور الحركة وإدراجه للإجازة من قبل المؤتمر العام القادم.

(33) الإشراف على تصعيد مناديب الحركة بالداخل والخارج وبالجبهتين لتصعيد المناديب لتمكينهم من المشاركة في المؤتمر العام القادم.

(4) عقد مؤتمر المؤتمر العام للحركة الشعبية لاختيار القيادة وباقي المكاتب.

بجانب العمل على إنجاز هذه المهام الثلاث، يواصل المكتب إدارته للأوضاع الحالية بالداخل والخارج ثم بالجبهات القتالية عبر طاقم القيادة العسكري بجانب تسيير العمل والشروع في الاتصال مع مبادرات المجتمع الدولي ونظام الخرطوم لشرح الوضع الانتقالي الحالي ريثما يتم تشكيل القيادة الشرعية الجديدة.

خاتمة

كما ترون، في كلا الحالتين فإن الخطوات التي ينبغي اتخاذها للخروج من هذه الأزمة هي هي. ويعني هذا شيئاً خطيراً، أوله أن هذه الأزمة ذات أساس أدائي وليس أساساً فكرياً. وهذا في حد ذاته خبر مبشّر. أم ثانيهما فهو أن مفاصل الصراع الدائر الآن قد تكون ذاتية. وهذا أمر منطقي طالما كان مناط الأزمة أدائياً وليس فكرياً. فالأداء هو رفد الأشخاص مهما تباين ومهما كان محكوماً بإطار فكري عام. وليس أدلّ على هذا من أن جميع التهم المتبادلة في جوهرها متعلقة بالأشخاص وطريقة أدائهم لمهامهم التنظيمية والسياسية، دون الفكرية كون القيادة الثلاثية حتى الآن لم تتجرأ للدخول في حلبة الفكر وما يستلزم هذا من مراجعات فكرية لمشروع السودان الجديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى