الخرطوم: الجماهير
تبدو زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى روسيا- في ظاهرها- زيارة تستهدف ما أعلنته الحكومة السودانية على لسان مسؤوليها، وهو تحقيق (قفزة نوعية) في العلاقات السودانية الروسية، في محاورها العسكرية والاقتصادية.
لكن ما الذي تعنيه قفزة نوعية في ظل السياسة الخارجية الحالية للسودان؟
فالمواقف الروسية جلها لا تتفق مع سلسلة التحالفات التي يعقد السودان إقليميا، ولا تتسق مع مواقف حلفائه في الوقت الراهن.
وهو ما يعطي الزيارة معنى وعنوان واحدا: أن السودان يتبنى توجها جديدا في سياسته الخارجية .
قبل بداية الزيارة حملت إرهاصاتها رسائل عديدة، وُضِع النصيب الأعظم منها في بريد المملكة العربية السعودية، (الجار الُمكلف) وأكثر المؤثرين على السياسة الخارجية السودانية مؤخرا، ومعيار التصنيف الذي أصبح يعرف به موقع السودان.
أول تلك الرسائل أطلقها البشير من روسيا بشأن طلبه الحماية الروسية، وأبدى قلقه من الوضع في البحر الأحمر، ومن التدخل الأمريكي فيه.

ولم يكتفي البشير بأظهار الضيق بل قال: إن ذلك التدخل الأمريكي يمثل مشكلة، يود التباحث بشأنها مع الروس، وخصوصا من جانب استخدام القواعد العسكرية في البحر الأحمر”، بيد أن طلب البشير يبدو كمن فجّر غضبا مكتوما من سلوك جيرانه، وشركائه في سواحل وموانئ البحر الأحمر.
السعودية الحليف الأقرب في الفترة الأخيرة للبشير هي الجار المواجه للسودان على البحر، وتعد الآن اللاعب الرئيسي في إيواء البوارج الأمريكية.
و تستضيف السعودية بنحو متكرر أضخم حاملات الطائرات الأمريكية، كما أنها عمدت منذ بداية حربها في اليمن، استخدمت عدد من الموانئ والقواعد العسكرية المتاخمة للبحر الأحمر.
وتستخدم السعودية أيضا -بشكل مستفز- البر في دول شرق أفريقيا مثل جيبوتي، التي كانت الخرطوم قد توسطت لوجود قواعد سعودية على أراضيها، واريتريا، والصومال.
وتمثل القواعد الأمريكية او حتى الوجود السعودي فيها، خطرا وضغطاً على السودان بشكل مستمر.
حلف أم ضغوط

يشير طلب البشير لروسيا بحمايته من ناحية البحر، إلى أن ما ظنه الناس، حلف سوداني سعودي؛ لم يكن حقيقيا. وأن الحكومة السودانية، رضخت لضغوط في علاقتها مع السعودية.
ويشارك السودان، منذ مارس 2015، في التحالف العربي الذي تقوده السعودية بهدف مساندة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي ضد قوات الحوثيين وقوات حليفهم الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
وأطلق الجيش السعودي عمليتي “عاصفة الحزم” و”إعادة الأمل” العام 2015، بمشاركة عدة دول عربية، بعد سيطرة قوات الحوثيين وقوات الرئيس اليمني السابق، على عبدالله صالح، على العاصمة اليمنية صنعاء.
لاعب جديد في الخط

ويبدو أن الخرطوم تنوي الآن ادخال لاعب دولي يؤمن لها الحماية، والتوازن في القرار السياسي، بعد أن تخلت عن الوجود الإيراني نهاية العام ٢٠١١.
قال البشير: “إن خسارة سوريا كانت حتمية مع التدخل الأمريكي فيها، لكن تدخل روسيا في الوقت المناسب أنقذ سوريا”.
وفي حال أخرجنا السياق الجغرافي الذي انطلق منه التصريح، وهو وجود البشير في روسيا؛ فإن البشير يكون قد أعلن عن تبني رؤية جديدة، تخالف التنسيق الدولي والإقليمي مع أصدقائه السعوديين.
فالسعوديون أنفقوا مليارات الدولارات، لتغييب تلك الرؤية التي تبنّاها البشير اليوم ، مثلما أنفقوا اضعافها كي لا يصبح بشار الذي يتمتع بدعم من حلفائه الإيرانيين والروس.”جزء من اي مستقبل لسوريا”.
غير بعيد عن الملف السوري، ظهر البشير اليوم، أنه مخالف لسياسته التي انتهجها منذ العام 2012 وأدت إلى قطع علاقاته مع إيران والدخول في الحلف السعودي، وهو حلف يقاتل بضراوة في كل المحافل الدولية، لحشد أكبر عدد من الحلفاء وشن حرب على إيران، واستصدار قرارات تضعف المواقف الإيرانية، آخرها من اللجنة الثالثة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ورغم أن الدافع الرئيسي للسعودية في (شيطنة) إيران، مقاتلتها إلى جانب روسيا لدعم الرئيس السوري، وقبلها سيطرتها على العراق، ومؤخرا دعمها للحوثيين، لكن البشير لم يضع ذلك في حسبانه ابدا، وقال في حوار تلفزيوني سبق الزيارة: إن السودان “لا يرى حكمة من صراع أو مواجهة سعودية إيرانية”.
مؤشر آخر بدأ كاشفا، أن الرئيس البشير -الذي بدأ بصحة غير جيدة مع وصوله لروسيا- غير مسرور بسياساته الأخيرة التي قربته من المملكة في العام ،2012.
إذ قال البشير في حوار بثته قناة (روسيا اليوم) عشية الزيارة: “لست نادما على موقفنا في حرب العراق، ولو عاد الزمان بالموقف لعدت لذات الموقف”.
وموقف السودان أوان حرب العراق، أغضب السعوديين ودول الخليج.
ويبدو مفهوما من تلك الرسالة، أن البشير نادم على تبدل موقفه من حرب العراق، حيث تمر الآن مواقف شبيهة، شارك البشير في صناعتها، متسقة مع الرؤية السعودية. خصوصا في سوريا التي تحدث الآن -لأول مرة- حولها بشكل مختلف، ومشاركته بقواته في اليمن.
لم يتوقف البشير عند عض بنان الندم، لكنه أرسل اتهاما ضمنيا بأن دول المنطقة ساعدت على احتلال العراق، وساهمت في صنع الخيار الأمثل والسيناريو الأفضل، لتجد القوات الأمريكية الذريعة لادخال قواتها إلى الشرق الأوسط.
وبحسب زعمه فإن الولايات المتحدة كانت عاجزة عن إيجاد وسيلة لإدخال قواتها في الشرق الأوسط حتى العام 88 بسبب حساسية شعوب و دول المنطقة.

سبق الزيارة أيضا إعلان البشير أنه لا أحد باستطاعته حل الحركة الإسلامية، لكن الرسالة التي بدت عابرة، تضرب في أس ما وُصِف سابقا بأنها شروط خليجية، يتخلى بموجبها البشير عن الحركة الإسلامية، وتضمن له التقارب والدعم الاقتصادي الخليجي.
وتنقض الرسالة التي بثها البشير على نحو طرفه، غزل كان البشير قد نسجه أول التقارب مع السعودية والإمارات حين قال ” إن السعودية وبعض الدول الخليجية الأخرى تظن أن السودان له علاقة بالإخوان المسلمين.. وهذا غير صحيح إطلاقاً”.
ما الذي حمل البشير على التأكيد على أنه حركة إسلامية، وليس باستطاعة أحد اخراج الحركة عن الحكم إلا عبر انقلاب قبل الذهاب إلى روسيا؟
على الجانب الاقتصادية، وجه البشير اللوم بنحو واضح، سواء كان للسعوديين أو المحور الذي تقوده السعودية. ومع أن آيات الشكر لم تزل تٌتلى ليل نهار بأن السعودية هي التي ساعدت في رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، لكن البشير امتدح البشير الدور الروسي تجاه السودان في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، وقال: “إنه جنّب السودان الكثير جدا من المؤامرات،.
ومع أن البشير أرسل تلميحا، لكنه استهجن تصريحا مواقف المصارف والبنوك المركزية العربية، التي لاتزال تنتظر التوجيهات الأمريكية، ولم تسارع إلى العمل على رفع الحظر حتى الآن، مسارعتها لتنفيذه حين فرضته الولايات المتحدة أولا.
التصريحات الحكومية بشأن زيارة البشير إلى روسيا، تصفها بأنها (قفزة نوعية)، لكن هل ستجد في المنطقة من يصفق للبشير حين يقفز في الحلبة الروسية؟