
تأتي أهمية انتخابات 2020 لأكثر من ألف سبب وسبب على صدارتها اعتبارها فرصة لتفاوض الفرقاء السودانيين على عقد سياسي وإجتماعي جديد بعد ضياع فرص كتيرة منذ إنفصال جنوب السودان ،والذي كان يقف عقبة أمام جعل الانتخابات موضوعية بل إحراج حقيقي لكل فترات الحكم حتى التي تمت فيها انتخابات في ظل سلطة مدنية ،فالانتخابات السودانية ظلت دوماً محل خلاف بسبب قضية الجنوب والحروب التي كانت تجري فيها ،ففي 1965 إستدعت عقد مؤتمرمائدة مستديرة ولم يصل الفرقاء السودانيين الي توافق سياسي فجرت الأنتخابات وتم الإطاحة بحكومتها بانقلاب عسكري بعد أربعة سنوات في 1969،وكذلك الحال في الانتخابات التي جرت بعد ثورة مارس ابريل 85والتي كانت تجري مشاورات للتوافق السياسي على أساس قضايا المائدة المستديرة ولم يتحقق التوافق فاطاح إنقلاب عسكري بالحكومة التي جاءت بها بعد أربعة سنوات أيضاً في 1989.لذلك أعتقد أن ذات أجواء كل الحقب السياسية لا زالت مخيمة بل بصورة أكثر تعقيداً مما كانت مما يجعل من قضية جنوب السودان دين قائم واجب السداد ليس من باب أخذ العظة والأعتبار بل لأن أساس الترتيب لأي إنتخابات حقيقية لابد وأن تتأسس على خلفية المائدة المستديرة والأفق الذي كان سائداً ومستمراً حتى الآن ،وذلك لأن كل المشروعيات التى حكمت تأسست على الموقف من قضية جنوب السودان ومسألة الحرب ،لذلك لا يجب إعتبار قضية جنوب السودان قد إنتهت ،ليس لأن هناك أكثر من جنوب جديد جاء بعد الأنفصال أو إمتداد لمسألة الجنوب بسياقاتها السياسية والاجتماعية المتعلقة بأزمة نظام الحكم في السودان بشكل كامل ،ولكن لأن قضية جنوب السودان هي منصة جرد لحساباتتأسست عليها مشروعيات كل تجارب الحكم وعلى الأخص النظام الحاكم الآن الذي أسس مشروعية إنقلابه في 89 على قضية الحرب في جنوب السودان ،وأجرى أكثر من إنتخابات ولكن ظل صدى قضية جنوب السودان هو الأعلي ،ولعل المشروعية البارزة التى يحكم بها الجنرال البشير الآن هو إنتخابات 2010 التي جاءت عقب إتفاق السلام الشامل لوقف الحرب في جنوب السودان والذي قاد لإنفصاله لاحقاً ومن ثم إنتخابات 2015 الذي تم على أساس الدستور الإنتقالي الذي أرساه ويجيء انتخابات 2020على أساس نفس الدستور .
تواجه انتخابات 2020 إستحقاقات كبرى ،أولى هذه الاستحقاقات هي إستحقاق وقف الحرب أولاً ،فحالة الحرب التي يعيش فيها السودان طوال عقود ،ومالهذه العقود الممتدة من آثار تفوق كل تصور وتأثير يشهد عليه ماهو واقع الآن كعقاب صارم لأستمرار هذه الجريمة ،و ليس هناك ماسيقال ،فحالة وقف إطلاق النار الجارية وحدها لاتكفي لأننا نعني الحرب في ذاتها والفكرة المؤسسة لها ومشروعيتها ،والحرب المتطاولة هذه تشير الى غياب التوافق السياسي بين السودانيين وفقدان الأجماع الوطنى الضروريين.
الأستحقاق الدستوري ثاني استحقاقات انتخابات 2020،القفز على حقيقه أن الدستور الانتقالي الذي ارساه اتفاق السلام الشامل ينتهى أجله بانفصال الجنوب ،كان خطأ كبيراً ،فبعد أن تمت عملية الانفصال كان يجب أن يتأسس توافق على ترتيبات دستورية جديدة ،ولكن كل ذلك لم يتم وسارت الأمور هكذا إعتباطاً وإرتجالاً في الممارسة من جانب السلطة الحاكمة وإستهانةً وإستسهالاً من جانب المعارضة،وهو من مظاهر عدم عقلانية الحياة السياسية في السودان ،فالمنطق يشهد ويقول أن هناك فراغ دستوري منذ 2011وهو أجل إنتهاء الدستور الإنتقالي لعام 2005 حتى لو لم ينص على ذلك صراحة .بالأضافة الي أن واقع الحرب في ثلاثة أرباع السودان وواقع تعقُد الأزمة السودانية الحالية والإنهيار الاقتصادي كل ذلك يجعل من الأنتخابات ترف وعبث كبيرينوعملية شكلانية لستر الجزء الأعلى من الجسد ،فلو لم تتأسس الأنتخابات القادمة على مداخل دستورية تضمن التوافق االسياسي على ترتيبات الحكم منذ البداية فإن إنتخابات 2020ستأسس للضربة القاضية لوضعية الدولة الراهنة.
ما العمل :على ضؤ الرهانات والتوقعات والتحديات التي أشرنا إليها ،فاننا نتجرأ على بلورة الخطاب الجديد الذي نأمل أن يرمي بقفاز تعبيد الطريق للتغيير عبر مداخل دستورية .وتأسيساً على ما قلناه أعلاه ،فانه من الواجب الوفاء بالأستحقاق الدستوري بأن يتم التوافق على وثيقة دستورية جديدة تأسس للأنتقال الديمقراطي ،فليس له أي معنى ولا منطق أن تجرى الانتخابات بدون عهد دستوري جديد ،وإلا فإن ستكون إمعاناً وتعنتاً في السير على طريق الإنهيار الشامل ،فالعهد الدستوري الجديد الذي نتحدث عنه ليس عقبة نضعها في طريق الانتخابات بقدر ماهي رافعة تسند العملية السياسية وتعميق لعملية الحوار حول مصير البلاد ،وتأكيداً على أن أكثر مانحتاجه في الوقت الراهن هو التوافق السياسي الجاد لإنهاء حالة العبث الراهن وفرصة لأنقاذ الوطن ،ولأنها الفرصة التى تلائم كل الأطراف ،فالحكومة هي في أمس الحاجة لذلك لأنها مهما بلغت من دكتاتورية وجبروت فعليها أن تعلم بأن كل فرصها في المناورة قد أنتهت ،وحرقت كل كروت لعبها ،والواقع يشير الى أنها تسير على طريق صعب سينتهي بها الى مآل لا يحمد عقباه ،وبحق فإن الحوار على أساس عقد دستوري جديد يمكن أن يحقق ضمانات جيدة لكل الأطراف قبل الانتخابات هو عرض الفرصة الأخيرة ،أما المعارضة بأشكالها المتعددة مدنية ومسلحة فعليها الأعتراف بأن مسيرتها في معارضة الإنقاذ قد إنتهت الى الدوران في حلقة مفرغة ولم تستطيع أن تحدث أي إختراق وأنتهت الي درك سحيق في الأبتعاد عن تحقيق هدف إسقاط النظام أو تبني قضايا الجماهير وتقديم الحلول للمشكلات التى تواجهها ،ونتيجة لكل ذلك فأنها لن تجد فرصة أفضل من الحوار المبدئي الجاد والعمل الدؤوب الحاسم حول قضية الدستور ،ويمكن ـأن تتبناها كبرنامج سياسي إنتخابي يمكن أن تمهد به للدخول الى حلبة الأنتخابات ،وعليها ألا ترتكب خطيئة تجاوز مسألة الدستور والدخول الى الأنتخابات بدون أن تعالجها معالجة جادة ،ليس من باب المناورة بل من باب واجب التصدي .فهل تتعقلن الحياة السياسية في السودان في آخر لحظة .