رأي

سواكن (جوكر) السودان المجهول

عوض غفران

في خضم الجدل الذي صاحب اتفاق الخرطوم وأنقرة، بشان جزيرة سواكن، برز سؤال رئيسي تبدو الإجابة عليه تفكيك للمواقف المنثورة بكثافة من قبل الأطراف المتضررة والمستفيدة. ما نوع الاتفاق في حقيقته، ولماذا أغضب كل من القاهرة والرياض؟!.

حتى اليوم لم تعلن الخرطوم ولا أنقرة شكل الاتفاق، وما إذا كان يشمل تواجد عسكري تركي في الجزيرة التي تمد لسانها في البحر الأحمر.

الرئيسان البشير وأردوغان التزما بتصريح مشترك، وإن بدت صياغته مختلفة؛ بأن ما تم: “اتفاق استثماري تضع بموجبه الخرطوم، المدينة الأثرية تحت التصرف التركي؛ لإعادة ترميمها”.

لكن كلا من الرياض والقاهرة سارعتا بشكل غير رسمي إلى بث رسائل إعلامية -استخدمتا فيها القنوات والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي- تصور قلقهما مما تم، وتصفان من خلالها الاتفاقية بأنها” عودة للأطماع التركية في السودان، فضلا عن انها تمثل تهديدا صريحًا للأمن الوطني العربي. وبدا للرياض والقاهرة أن السودان الذي يجاورهما حديقة خلفية، يمكن أن تفشي عورتهما، ويتوجب عليهما، وقف ذلك.

ليست ثمة تصريح رسمي من المملكة ولا مصر، لكن صمتهما على اشتعال الحملة في منصات وصحف وقنوات، محرم عليها استعداء الحلفاء و الجيران، يفسر رؤيتهما للأمر، كما أنها وسائط لم يعتد الناس على أنها (تقدح من رأسها) أبدا.

لكن تاريخ ارتفاع وتيرة قلق كلا البدين -مع غرابة اتفاقهما على القلق معا- يعود إلى نوفمبر الماضي، حين زار الرئيس البشير روسيا وطلب حماية روسية لبلاده، وتحدث بقلق شديد عن أن حدوده على البحر الأحمر باتت مهددة، وهو التصريح الذي جعل السؤال يمشي بين العواصم، من المهدد؟ لكن مجريات الأحداث سرعان ما فسرت و أجلت الغموض.

التوقيت يقول ان زيارة البشير إلى روسيا كانت غداة اتفاق مصري/سعودي على ترسيم حدودهما المشتركة، حمل الاتفاق شروطا مصرية بأن: “على السعودية أن تعترف بأن حدود مصر الجنوبية الشرقية أدنى خط 22، لتحصل على جزيرتي تيران وصنافير المطلتان على شرق خليج العقبة”. أغضب ذلك الاتفاق الخرطوم التي تقاتل إلى جانب السعودية بجيش قوامه 10 آلاف جندي في حرب شرسة في اليمن.

لكن ما الذي تريده الخرطوم من اتفاق يُمكّن تركيا من إدارة الجزيرة؟ وما الذي تريده تركيا في بحر القلزم المليء بالتقاطعات؟

الإجابة على هذا السؤال أيضا مرتبطة بزيارة البشير إلى روسيا؛ فتركيا جزء من حلف روسي في المنطقة، وجاء وصول اردوغان للسودان عقب زيارة البشير لروسيا، ترجمة حقيقية لما طمح له السودان، وطلبه من روسيا؛ وتنفذه تركيا كمتعاقد ثاني ضمن التزاماتها بهذا الحلف.

فهم السعوديون والمصريون سريعا، ما الذي يجري في الجوار، أو ربما لديهما معلومات استخباراتية موكدة بأن الأمر، جزء من سباق التحالفات في المنطقة، وكلا البلدان تتقاطع مصالحه مع روسيا وتركيا، لقربهما من إيران العدو الأول للسعودية، كما أن تركيا منفردة مُتَهمة من قبل مصر، بأنها ضد الانقلاب على حكومة الإخوان وصعود السيسي للحكم.
بالنسبة للسودانيين أو المصريين والسعوديين، مع اختلاف شكل استقبال الوجود التركي في البحر الأحمر، و حتى بعد نعتهم له بأنه مضر، ويخدم مصالح حكومة البشير؛ يجب ان لا تسقط قراءتهم أنها خطوة صحيحة في سياقها الزماني، وسياق الأفعال وردودها، وبالمقابل لا يمكن- بالتأكيد- أن تُسقط حقيقة خطورة هذه الخطوة، حال كانت الأمور تجري على نحو طبيعي، في وضع غير الراهن.

فخطوة إدخال تركيا في اللعبة، كان لتدارك المأزق، وشبيهة بسلوك أحدهم في لعبة الشطرنج حين يحاول الخروج من مأزق (ملكه) الذي تحاصره البيادق والأفيال. فيجنح لعدم تفويت الفرصة متى ما سنحت لتوريط (ملك) الخصم.

إذ أنها المرة الأولى أيضا التي تفكر فيها الخرطوم باستخدام (الجوكر)، وهو موقعها الاستراتيجي لقلب موازيين اللعبة. وهي المرة الأولى التي تقرأ فيها بعمق ما كتبه روبرت كابلان وتنتقم من خصمائها بعامل الجغرافيا فقط.

تعد عملية إدخال تركيا في ملعب البحر الأحمر قطع للطريق لوقف تقدم مصر جنوبا أكثر مما أوغلت جيشها، وتوقعته الخرطوم، إذ بات واقعا مشهودا بعد التهام حلايب وشلاتين، خصوصا أن سواكن تبعد عن حلايب أقل من 350 كلم، كما يشكل الوجود التركي ردع لمصر التي تبحث منذ فترة لذريعة للاستيلاء على الأراضي السودانية، والضغط علي الخرطوم لكسب ملفات إقليمية، أبرزها ملف وقف إنشاء سد النهضة الذي تتعاون الخرطوم فيه مع جارتها أديس أبابا.

ومنذ وصول اردوغان للخرطوم بدت الرؤية المصرية التي وزعت لما عرف بمجموعة المحللين والخبراء، رافضة للوجود التركي وللاجتماعات التي ضمت رؤساء أركان تركيا والسودان وقطر، ومن ثم زيارة عسكري روسي رفيع، ووصف ذلك بالـ”مُقلق للغاية”. ويعد تغييرًا جوهريًا في البحر الأحمر يؤثر على الأمن القومي المصري.

على الصعيد السعودي فإن دخول الأتراك للجزيرة سيضع الرياض في حرج وقلق دائمين، خصوصا أن ذلك الحلف الذي يضم روسيا وتركيا وقطر هو الأقرب لعدوها الأول في المنطقة، وربما يعيد البوارج الإيرانية لتمخر في البحر صوب الموانئ السودانية، بعد أن هجرتها منذ خمسة أعوام خلت، غير ذلك ستجد الخرطوم ما يحملها على دفع الرياض للكف من تقديم أي مطالب مذلة مرة أخرى.

ليس هناك معيار حتى الآن لتحديد نوع وكم المصالح، التي جناها حكام الخرطوم أو (الغازي) اردوغان من هذه الاتفاقية، لكنها بالحسابات الجيوسياسية كانت حركة بيدق تمت التضحية به ليبقى الملك، والملك هنا هذه المرة، بالتأكيد السودان ذات نفسه.

فاتفاقية الحدود البحرية بين الرياض والقاهرة، لم تجد الخرطوم سوى إدانتها وكتابة خطاب بشأنها للأمم المتحدة. أما مصر والسعودية لم تتوقف شهيتهما عن تزوير مزيد من الأوراق لاستقلال الحدود البحرية وانتهاكها طالما أن السودان بهذا الضعف ورئيسه بهذه المذلة.

إنها المرة الأولى التي يفطن فيه السودان إلى أن موقعه الجغرافي على البحر الأحمر يشكل جيشا لوحده، فهو يتوسط ساحة صراع واسعة في الشرق الأوسط. صراع متعدد الأطراف والأجندة، وذاك يمنح موقع السودان رغبة ورهبة، فهو مناسب لأمريكا في محاربة الإرهاب، في ذات الوقت في تحالفاتها لبسط مصالحها في المنطقة، ومهم للسعودية، مثلما هو مرعب لها في حربها في اليمن، ومفيد لمصر في حربها ضد الإخوان، ومقلق لها-كالعادة- لأنه يحد من نشاطاتها التوسعية، وسباقها للفوز برضاء المملكة السعودية، في ذات الوقت وقف أي تقارب بين الخرطوم والرياض مبني على مصالح رشيدة وسياسة مبينة على المصالح المشتركة، وليس على العطاء والهبات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى