
على الرغم من الهدف الواحد للنضال ضد حكم المستعمر، وهو جلاء المستعمر لكن ذلك لم يمنع وجود التيارات داخل التنظيمات المختلفة التي تكافح لتحقيق الهدف. وفي نضال الشعب السوداني من أجل استقلاله الوطني حدثت خلافات كثيرة بين مكوناته بسبب التكتلات أو طرق النضال ووسائله في فترات معينة ضد حكومة المستعمر. وهذا الطريق أو ذاك محل الاختلاف يعود بالدرجة الأولى لامكانيات وقدرات التيارات المرتبطة تماماً بالمنشأ الاجتماعي. فصراع التيارات هو صراع الفئات الاجتماعية.
وبعد انقضاء ستين عاماً منذ نيلنا للاستقلال نحاول أن نتعلم من تجارب الماضي من خلال عرض انقسام جمعية الاتحاد السوداني والدروس المستفادة. فقد عرفت الحركة الوطنية في السودان التنظيم في العام ١٩٢٠ تأثراً بما يجري في البلاد ودول العالم المختلفة (المستعمرات) وبالذات الحركة الوطنية المصرية وأحداث ١٩١٩.
نشأت جمعية الاتحاد السوداني في ام درمان كأول حزب سياسي (بالضرورة غير مسجل!!) في الساحة السياسية السودانية، وأول تنظيم سياسي حديث. وقام صغار موظفي الحكومة بتكوين الجمعية بهدف معارضة سلطة الحكم الثنائي. وكانت وسيلة المعارضة الرئيسية النشاط الأدبي (الشعر/المسرح/صحف الحائط..الخ) عشرات الأشكال ومع ذلك كان تنظيم الجمعية سرياً.
وتكوين تنظيم جمعية الاتحاد السوداني من خلايا، كل خلية من خمسة أفراد، وبذلك لا يعرف العضوية الكاملة إلا المؤسسين أي أول خلية خماسية والتي تكونت من:
(١) عبيد حاج الأمين (٢) توفيق صالح جبريل (٣) محيي الدين جمال أبو سيف (٤) إبراهيم بدري (٥) سليمان كشة
وأربعة منهم من خريجي كلية غردون. وشغل توفيق وبدري وظيفة (مساعد مأمور) وكان عبيد يعمل بمصلحة البوستة. وأبو سيف بمصلحة الأشغال وكشة تاجراً.
وانضم لجمعية الاتحاد السوداني عشرات الأفراد والشخصيات التي كانت ذات وزن كبير في تلك الحقبة، أبرزهم:
محمد صالح الشنقيطي (نائب مأمور)، خليل فرح (الفنان والموسيقي الأول) وخلف الله خالد (نائب المأمور) والأمين علي مدني (مدرس وناقد ادبي) وعبد الله خليل (ضابط في الجيش) ومكاوي يعقوب (موظف وشاعر) وبابكر القباني (موظف بالبوستة) ومحمد عمرابي (خريج معهد ام درمان العلمي). واهتمت الجمعية بالكفاح المشترك للشعبين السوداني والمصري.
وبعد ثلاث سنوات برز في الجمعية تياران. وتضمن الخلاف مسألتين:
الأولى: الانتقال من السرية الى العلنية والعمل السياسي المباشر.
الثانية: من الذي يخول له الحديث باسم الشعب السوداني.
ورؤية التيار الأول (الأقلية) أن النضال ضد المستعمر بأشكاله القديمة قد استنفذ اغراضه. وأنه آن أوان التخلي عن التنظيم السري، والتحول الى العلنية بالانتقال للعمل السياسي المباشر، وأنه من حق جماهير الشعب التعبير عن نفسها وعن حقها في القيادة. ومثل هذا التيار أقلية بل إنه في خلية المؤسسين مثله فرد واحد (عبيد حاج الأمين) أما الأربعة الآخرون فقد مثلوا مجتمعين التيار الثاني.
أما رؤية التيار الثاني (الأغلبية) فقد كانت الاستمرار في النضال بالأشكال القائمة وسرية التنظيم ورفض ممثلي هذا التيار تصعيد النضال ضد الاحتلال بالعمل العلني. مع تأكيد تمسك التيار بقبول إدعاء الزعماء القبليين والدينيين بأنهم من يخول لهم الحديث باسم السوداني.
وفي ١٩٢٣ انشق التيار الأول الداعي للعمل السياسي المباشر في مواجهة حكومة المستعمر وأقام هذا التيار تنظيمه بتأسيس جمعية اللواء الأبيض في أبريل ١٩٢٤ بعشرات من العضوية والآلف المناصرين وكان مقرها أيضاً مدينة أم درمان.
وقاد التنظيم: (١) علي عبد اللطيف (٢) عبيد حاج الأمين (٣) صالح عبد القادر (٤) حسن شريف (٥) حسن صالح المطبعجي.
ونلاحظ:
١- حافظت الجمعية على سرية التنظيم لمدة شهر.
٢- اهتمت في التجنيد بموظفي مصلحة البريد والبرق للاستفادة منهم في تواصلها مع فروعها في مدن السودان الأخرى ومنها: مدني/بورتسودان/عطبرة/شندي والابيض.
٣- وعملت بنشاط في تجنيد طلاب كلية غردون ومعهد أم درمان العلمي (الطلاب).
٤- وكسبت الجمعية عضوية كبيرة من العمال والمدرسين والحرفيين (الخياطين والنجارين والحدادين..الخ) وكذلك الجنود وصغار الضباط والطلبة الحربيين.
٥- مع علانية النشاط احتفظت الجمعية بنظام الخلايا الذي كان معمولاً به في جمعية الاتحاد السوداني التي قامت اللواء الأبيض على أنقاضها. ونظام الخلايا كان لحماية العضوية من رقابة رجال الأمن ومخابرات الإدارة البريطانية ولتسهيل الاتصال بالجماهير السودانية.
ومن تجربة جمعية الاتحاد السوداني (١٩٢٠-١٩٢٣) وجمعية اللواء الابيض (١٩٢٣-١٩٢٤) نتوصل إلى:
(١) ليس كل انقسام هو شر مستطير وبالذات في القضايا الرئيسية والمبدئية، بدلالة اندثار جمعية الاتحاد السوداني في وقت وجيز واتساع وتنوع عضوية جمعية اللواء الأبيض ومنهم أعضاء الاتحاد السوداني (خليل فرح نموذجاً) مثلما انضمت الى اللواء الأبيض شخصيات قوية (محمد الخليفة عبد الله التعايشي وعبد الفضيل ألماظ نموذجاً).
(٢) ان العددية غير ذات أثر فالتيار الذي انشق بدأ (أقلية) وانتهى (أغلبية) خلال فترة قصيرة. وغطت فروعه المدن الكبيرة ورئاسات المراكز.
(٣) خلال مظاهرات ١٩٢٣ والتي استمرت لخمسة أشهر، ظل التقليد الثابت أن تقود كل مظاهرة خلية واحدة (موظف وأربعة آخرين) ودائماً ما يتم إلقاء القبض على الخلية القائدة بعد نهاية المظاهرة ويحاكمون بالسجن ومع اتساع الحركة تبرز القيادات من داخلها وعلى نطاق الوطن.
(٤) النضال الجماهيري واليومي لا يستثني القيادات، بل تخوضعه مع الخائضين، ولا تتم قسمة الكادر الى (مفكرين) و(منفذين) لذلك نلاحظ مشاركة عبيد حاج الأمين وخليته في المظاهرات وجرى عليه ما جرى على الآخرين.
وكتب الاستاذ/ بابكر فيصل (نوفمبر ٢٠١٥):
“لقد جسد عبيد حاج الأمين ورفاقه نموذج القيادة المرتبطة بجماهيرها، الحاملة لتطلعاتها والساعية لتحقيقها من وسط صفوف ذات الجماهير. وقد عاشوا ظروف الفصل من العمل والتشريد والسجن والنفي، فاستحقوا عن جدار قيادة الجماهير وتقدم الصفوف ولم ينشغلوا بالمنافسة الشخصية على الزعامة. فعندما انتقل عبيد حاج الأمين من جمعية الاتحاد السوداني كان رئيسها دون منازع ولم يثنه ذلك عن قبول العمل تحت رئاسة علي عبد اللطيف”.
(٥) توجد علاقة قوية ووثيقة بين شكل التنظيم (الخط التنظيمي) واتساع وتنوع النشاط الجماهيري (الخط السياسي) وأكدت التجربة التاريخية للنضال الوطني ضد المستعمر وكذلك النضال ضد الحكم العسكري الثاني (١٩٦٩-١٩٨٥) فشل التنظيمات الهرمية في تحقيق النتائج التي تفرزها الممارسة:
انظر: الخلايا الخماسية لجمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الأبيض.
انظر: مئات الجان الأحياء والمربعات والقرى والمكاتب والمصانع مع تجربة انتفاضة ١٩٨٥
أنظر: تكوين خلايا اللواء الأبيض بالفئات: الطلاب، العمال، الموظفين، المدرسين الحرفيين، صغار التجار.. الخ (يعرفون بعضهم) لتيسير الحماية والتأمين وسرعة الاتصال والانتقال.
٦- من فوائد اتساع العمل الجماهيري وعلانية النشاط كشف الواقع والتعرف على الأصدقاء والأعداء. وأكدت التجربة أن سرية التنظيم شيء والعمل الجماهيري أمر مختلف وأن حماية التنظيم في عمله (العلني) و(الجماهيري) وهذا ثابت أيضاً عبر التجربة الوطنية.
والنشاط العملي المتواصل للواء الأبيض كشف حقيقة أن أعداء التنظيم ليس فقط حكومة المستعمر ولكن ايضاً (قوى وطنية): كبار التجار وكبار الموظفين وزعماء القبائل والعمد والشيوخ والقضاة ومفتشو المحاكم فهم يدافعون عن مكتسباتهم التي جنوها من خلال حكومة المستعمر التي يعلنون أحياناً أنهم ضدها..!!
٧- ان التغيير الذي حدث في نوعية عضوية تنظيم اللواء الأبيض وخروجه من تحت عباءة صغار الموظفين هي أول اشارة لفكرة (العاملين) كقوة أساسية فاعلة في الساحة السياسية السودانية، وقبل قيام الأحزاب. وقد كانت (الجبهة الواسعة) خلال فترة الحكم العسكري الأول (١٩٥٨-١٩٦٤) هي من الدروس المستفادة من تجارب الحركة الوطنية السودانية.
حكومة الأزهري:
تلغي قانون قمع النشاط الهدام
١- قامت حكومة المستعمر البريطاني بوضع مشروع قانون مكافحة النشاط الهدام في أبريل ١٩٥٢ وعرضته على الجمعية التشريعية. وأجاز المجلس التنفيذي التابع للجمعية التشريعية المشروع باسم القانون رقم ٢٢-١٩٥٣
٢- بعد اجراء الانتخابات العامة في آخر ١٩٥٣ نظمت حملات متصلة مطالبة بالغاء القانون، شاركت فيها فئات عديدة: المحامون، الموظفون، العمال، الصحافيون، التجار وغيرهم. وكانت أول دعوة مطالبة بالغاء القانون قد صدرت من (مؤتمر الدفاع عن الحريات) يوم ٤ نوفمبر ١٩٥٣.
٣- وقاد اتحاد نقابات عمال السودان بالاشتراك مع (الجبهة المتحدة لتحرير السودان) حملة قوية وواسعة أوضحت مخاطر القانون على الحريات العامة وفضحت أهدافه.
وبحسب المذكرة التفسيرية للقانون فإنه قد وضع أساساً لقمع الشيوعية وتحريم اتصال اتحاد نقابات عمال السودان بالاتحادات النقابية الأخرى وكان المقصود الاتحاد العالمي لنقابات العمال.
٤- الهيئة الشعبية الدائمة للدفاع عن الحريات:
رفعت الهيئة الشعبية الدائمة للدفاع عن الحريات المذكرة أدناه الى رئيس مجلس الوزراء (إسماعيل الأزهري):
حضرة المحترم السيد رئيس مجلس الوزراء
تحية طيبة وبعد
لقد رأى الموقعون أدناه ان يرفعوا الى سيادتكم هذه العريضة طالبين أن تعملوا على إلغاء القانون رقم ٢٢ (١٩٥٣) المعروف بقانون النشاط الهدام بعد أن وضحت رغبة أغلبية الهيئات الشعبية في ضرورة إلغائه فوراً لتعارضه مع مبدأ الحريات الأساسية التي كفلها دستور السودان المؤقت ولتعارضه مع الحريات الشخصية والفكرية.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
الإمضاء:
د. محيي الدين صابر-محرر بجريدة العلم
د. عز الدين علي عامر-اتحاد الجامعيين
عابدين اسماعيل-رئيس نقابة المحامين
حسن الطاهر زروق-عضو مجلس النواب
محجوب محمد صالح-سكرتير اتحاد الصحافة
احمد مالك-رئيس تحرير جريدة الصراحة
حسن محجوب-رئيس تحرير جريدة الأمة
علي الشيخ بشير-نائب رئيس تحرير جريدة الاتحاد
فضل بشير-عضو مجلس بلدي الخرطوم
الطاهر عبد الباسط-سكرتير تحرير جيدة الطليعة
أحمد يوسف هاشم-رئيس اتحاد الصحافة
محمد السيد سلام-رئيس اتحاد نقابات العمال
محمد خير عثمان-رئيس اتحاد الكلية الجامعية
بشير محمد سعيد-رئيس تحرير جريدة الأيام
عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة-سكرتير الجبهة المعادية للاستعمار
الأمين محمد الأمين-رئيس اتحاد مزارعي الجزيرة
حسن قسم السيد-رئيس نقابة موظفي ومستخدمي البريد والبرق
محمد أحمد عمر-وكالة الصحافة السودانية وجريدة النيل
احمد سليمان-محامي
جعفر حامد البشير-محرر جريدة صوت الأمة
٥- وقررت الهيئة البرلمانية للحزب الوطني الاتحادي يوم ٢٢ مارس ١٩٥٤، الغاء القانون حيث أوضح السيد حسن عوض الله-نائب ام درمان غرب لجريدة الصراحة أن القانون سيقدم الى البرلمان على هذا الأساس.
٦- حسن الطاهر زروق:
ألقى حسن الطاهر زروق (دائرة الخريجين) كلمة في البرلمان في جلسة ٣٠ مارس ١٩٥٤ ومما جاء في تلك الكلمة.
* في السنين الأخيرة بدأ ظل الاستعمار ينحسر عن البلاد التي اغتصب حريتها، فلم يتبق له من المستعمرات في غير افريقيا إلا القليل، ولذا لجأ الاستعمار لسن مثل هذه القوانين لتكميم أفواه المناضلين ضده، فهو إذن مستورد من الخارج، ولم ينبع من حاجات هذه البلاد.
* أما الذين قيل انهم شيوعيون فليسوا إلا هذه الأحزاب الوطنية والنقابات العمالية التي اتهمت جميعاً بالشيوعية أو تحت سيطرة الشيوعيين، والناظر الى الطريقة المطاطة التي وضع بها هذا القانون يفهم أنه إنما وضع لمحاربة كل حر لا لمحاربة الشيوعيين وحدهم، ويكفي ان هذا القانون قد جعل من قراءة كتاب أو الرحلة الى الخارج جريمة يعاقب عليها بالسجن ١٤ عاماً ولذا عارضه كل الناس من أول يوم وضع فيه.
* سيدي الرئيس
.. انني أقول اننا بالغائنا هذا القانون نكون قد ساهمنا بنصيب في خدمة الحرية والديموقراطية والسلم في بلادنا.
٧- مبارك زروق نيابة عن الأزهري
وقف السيد مبارك زروق (وزير المواصلات) نيابة عن السيد اسماعيل الازهري وطلب من المجلس ان يؤيد الأمر المؤقت رقم ٢٢ لسنة ١٩٥٣ المقدم الى المجلس في ١٥ مارس (قمع النشاط الهدام) ولكنه استطرد يقول:
“عملاً بالمادتين ٥٧ و٥٨ من قانون الحكم الذاتي فإن جميع الأوامر المؤقتة يجب ان تقدم للتأيد، وهذا القانون كما هو معلوم قد شرع قبل أن تتألف الحكومة الحاضرة، ولذلك لم يكن لنا رأي او مسؤولية في اصداره كما هو ظاهر من ديباجته حيث تقول (عملاً بنصوص قانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية سنة ١٩٤٨ يسن بموجب هذا ما يأتي.. الخ)..”
٨- اتحاد العمال يشيد بحكومة الأزهري
بعث محمد السيد سلام رئيس اتحاد نقابات العمال بمذكرتين الى رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب يشيد فيهما بالغاء قانون النشاط الهدام ومما جاء في الأولى:
السيد رئيس مجلس الوزراء
تحية طيبة
إن موقفكم من قضية الحريات الديموقراطية لهذا الشعب ذلك الموقف الذي بدأت طلائعه في الغائكم قانون قمع النشاط الهدام لهو موقف جدير بحكومة جاءت الى الحكم برغبة شعب متطلع الى الحرية والكرامة.
ان اتحاد العمال الذي كان في طليعة الهيئات التي عارضت ذلك القانون وعبأت جهود جميع المواطنين للوقوف ضده ليسره ان يعبر لكم عن عميق تقديره لذلك العمل المجيد..
اننا نتطلع وكلنا ثقة في أن الحكومة السودانية والبرلمان السوداني لن يدخرا وسعاً لإزالة كافة القوانين وموادها المقيدة للحريات تلك القوانين التي سنها الاستعمار ليحتمي خلفها ويعطل بواسطتها اندفاع شعبنا نحو التحرر والسلم. اننا إذ نعبر عن تقدير شعبنا لموقفكم الوطني الرائع بإبعاد قانون قمع النشاط الهدام الذي يمثل حلقة من سلسلة القيود المضروبة على شعبنا. نطلب منكم باسم الشعب ان تزيلوا كافة القوانين الأخرى المقيدة للحريات الى الأمام نحو حكم وطني نظيف. وإننا نؤكد لكم بأن الطبقة العاملة السودانية تقف بقوة وعزم بجانبكم ما دمت تقفون بجانب الشعب.