عبد الله علي إبراهيم

أزهري … منتهي الأسف

عبد الله علي إبراهيم

نشرت هذه الكلمة في 31 أغسطس 1965 بجريدة الميدان ببابي “الحياة تبدأ غداً”. ونظرت فيها إلى تسنم الزعيم الأزهري الرئاسة الدائمة لمجلس السيادة في مساومة سياسة مع حزب الأمة، جناح الإمام. فقد رغب جناح الأمام في الائتلاف مع الحزب الوطني الاتحادي (أزهريون وولم يدخل الختمية-حزب الشعب الديمقراطي البرلمان لمقاطعتهم إياه) واقتضى ذلك تعديلاً للدستور لأنه منصوص فيه أن رئاسة المجلس تكون دورية تتحول من عضو لآخر على رأس كل شهر. ونقدت فساد هذا الترتيب ناظراً إلى كتاب الأزهري نفسه المسمى “الطريق إلى البرلمان”. والمقال ثاني اثنين كان عنوان الآخر “محجوب . . . أسف جداً” من عنوان مستفاد من “توينبي (أرنولد): آسف جداً” لزميلنا يوسف عيدابي آنذاك يعلق على خيبته بعد حضوره إحدى محاضرات المؤرخ البريطاني في الخرطوم. ونظرت في نقدي للمحجوب إلى كتابه “موت دنيا” مع عبد الحليم محمد. والمقالان محاولة كانت لتأسيس نقد دقيق لأداء طلائع المتعلمين في الحكم والمعارضة على ضوء مشروعات لهم تبنوها خلال الحركة الوطنية: وعد حر عليه. وفي خطة المقال اثر من “طبقات ود ضيف الله” وكنت أولعت به أيامها لطراوة قراءتي له. كما سترى العقيدة القديمة التي تواضعت على أن حزب الأمة رجعي استعماري والاتحادي الديمقراطي تقدمي.

(المقال ليس القديم بل جرى تحريره لبؤس النص الأصلي وتمزق أطراف منه).
“بطاقة إلي السيد إسماعيل الأزهري. .. يصل ويسلم. بدوح لا يروح 682 “
في كتاب “الطريق إلى البرلمان ” الذي كتبه إسماعيل الأزهري ليجعله مرجعاً أو مرشداً ودليلا لتكوين الجمعيات والاتحادات والاندية لتؤدي مهامها بطريق نظامي مختصر. جاء في ذلك الكتاب وتحت عنوان جانبي عن كيفية مخاطبة الرئيس ما يلي: “يخاطب الرئيس بعبارة: حضرة الرئيس أو سيدي حضرة الرئيس”. وأنا حين أسوق هذا الحديث إلي السيد إسماعيل الأزهري أقول مقتدياً:
حضرة الرئيس، سيدي حضرة الرئيس:
لو تأملت سيدي جمهرة مستقبليك ذات مساء من عام 1957 عند مشارف مدينة عطبرة، وقد تراصت صفوفهم من عند مشارف الأتبراوي علي طول قضيب السكة حديد، لرأيت صبياً علي أعتاب الحياة تحمل لفح الشمس والرمضاء في انتظار مقدمك الميمون. لرأيته ملء جوانحه ابتهاج وتعلق بك يخر العرق من علي وجهه وهو يخوض مع الخائضين في هتاف متساوق مطرد” حررت الناس: يا إسماعيل الكانو عبيد.. يا إسماعيل الخ”. ولرأيته ما ينفك يدنو من عربتك فتنأى به عنها أمواج البشر المتلاطمة.
لو تأملت ذلك الجمهور الذي خف ليحتضنك الي قلب المدينة لرأيت-وبتواضع جم- شخصي الضعيف الذي يكتب إليك هذه الرسالة وفي القلب منه حسرات. ولا أحسبك-سيدي-تعبأ أن ينسلخ من جمهورك إنسان مثلي عاطل من الحسب والنسب والجاه ليبحث عن اليقين، وعمن يفك أغلال عبوديته، في دروب أخر. ولكن “الجمرة تحرق الواطيها”. فتلك لحظات شجن وشغف وتطلع في تاريخي لشخصكم الكريم لا أقوى على اسقاطها منه بمثل السرعة التي تسقط بها أمثالي من حسابك.
ولقد عشت-سيدي-بعد ذلك أحداث بلادنا بوجدان مرهف. وتأملت مواقف الرجال وقلبت قدراتهم على التصدي للدفاع عن حرماتنا وخبزنا وكرامتنا-وأصدقك القول سيدي-فما أعرف لحظات أكثر ضيعة ووحشة من تلك اللحظات التي وقفت فيها عند باب مدينة عطبرة استقبل ركبك الميمون يخر العرق من على وجهي، وتضيق أنفاسي وسط الزحام، واهتف بأشد مما يهتف الناس ابتهاجا بك. ولا أعرف لحظات-سيدي-وددت لو لم أعشها، ولو تختفي من ذاكرتي، أو تمضي نسيًا منسيا مثل تلك اللحظات. ولا أعرف لحظات في عمري أنكرها مثلما أنكر تلك اللحظات لأنني-سيدي وببساطة-لم اقبض فيها إلا الريح، ولم أطارد إلا السراب. وأنا هنا في هذه الرسالة أحمل إليك تمرد جيلنا على التفكير التقليدي في الحياة السياسية في بلادنا، وأعلن إليك كفره بالأسلوب البائخ الذي تساس به بلادنا، وزهد جيلنا في أن تعبروا عنه. فلقد استودعكم شعبنا أشواقه منذ عام 1954 فلم نشهد منكم إلا انصرافاً عنها. وأمّنكم على مصيره فما نعرف تفريطاً أكثر من تفريطكم فيه. والآن. هلا رددتم الأمانات إلى أهلها؟
يعدل الدستور ليلائم تطورات ومقتضيات الزمن:
سيدي-هل لي أن أطمع في أن تصحبني إلى مشوار عبر كتابكم “الطريق إلى البرلمان” نتأمل فيه الأسس والنظم والملاحظات التي بسطتها فيه لكي تنشأ عليها الأجيال في بلادنا على سليقة تتمشى “مع النظم البرلمانية حتى تختلط بالدم وتمتزج بالروح وتصبح جزءاً من النفس لا يتجزأ، فتنشأ مجبولة على تقديس القوانين مفطورة علي حب النظام”. فلو سمحت-سيدي-تفضل:
 جاء في الكتاب وتحت العنوان الفرعي “الدستور اساس الحكم البرلماني” ما يلي:
“وقد يكون الدستور مسطوراً أو غير مسطور، وفي كلتا الحالتين يجب صيانته من العبث، وخير كفيل لذلك تربية الامة الدستورية، التي إذا رسخت وتوطدت، كانت الحافز لها لتهب في وجه العابث. ولا ضير في تعديل الدستور بالطرق المنصوص عنها فيه ليلائم تطورات ومقتضيات الزمن”.
 سيدي-وقد أصبحت الآن رأساً للدولة بعد تعديل في الدستور، هل تشعر بأن ذلك التعديل قد تم ليلائم الدستور تطورات ومقتضيات الزمن؟ كلنا نعرف -سيدي-المساومة التي تم على أساسها التعديل في الجمعية التأسيسية. ونعرف أنك لم تحتل مجلس السيادة إلا لخاطر توقيع الائتلاف (مع حزب الأمة جناح الإمام لاستبعاد جناح السيد الصادق). فلم يقتض الزمن شيئاً، ولم يفرض التطور تعديلاً كالذي جري في بلادنا. لقد كانت إرادة ومشيئة الجهتين المؤتلفتين أن تكون لك مداراة مجلس السيادة، وأن يكون لغيرك مداراة مجلس الوزراء في عصر يقتضي الزمن فيه أن تكون الإرادة للشعب، ويتطور الزمن فيه ليضع مشيئة الشعب فوق كل مشيئة.
  ولقد قلبت -سيدي-أمر قبولكم الرئاسة الدائمة من كل وجه، ووقفت عند سؤال هام: ما الذي يغري في بلد كالسودان ليسعى إنسان ما ليكون رئيسه الدائم فيجترئ على الدستور بالتعديل؟ إن كان لرفع شقاء الشعب، وجوع الشعب، وألم الشعب، فهذا أوضح وأرسخ وأظهر من أن يحتاج لرئيس دائم او غير دائم: وكل مؤهلات الراغب في رفعه وتبديله بحياة أبهج وأكثر بشاشة أن يتوافر بالخ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى