أخبار

تحرير الوقود وانتظار الوعود (1)

تحرير الوقود وانتظار الوعود (1)
د.قاسم الفكي علي
جامعة السودان للعلوم والتكنولجيا
كلية الدراسات التجارية
قسم الإقتصاد التطبيقي
الأربعاء 14 يوليو 2021م
التوطئة:
إنّ المعلوم بالضروره للكثيرين كمسببات جوهرية للتراجع التنموي والتدهور المعيشي في السودان عبر السنين اجمالاً، هو عدم الأخذ بالتخطيط التنموي الشامل بمنهجيته العلمية في اعداد الخطط مع
الزامية تنفيذها بواسطة كل الحكومات المتعاقبه، فترتب على ذلك إتباع مناهج بتقديرات شخصية من قبل البعض، بل أحياناً أسلوب خبط العشواء وفق مرجعات الايديولوجيات والمعتقدات المتعلقة بالمجموعات الحاكمة، وذلك لحماية المصالح الخاصة او الحزبية الضاغطة في إدارة الشئون المتعددة للبلاد، لذا تسود المزاجية والهوي النفسي ونزعة الجهوية القبلية والمحاصصات السياسي، والاعتماد علي الأجانب والأقارب لخدمة الأغراض الشخصية وتجاهل الكفاءات الوطنية وحرمانها من المساهمة بكسبها المعرفي التخصصي وخبراتها العملية في إدارة الجوانب المتعلقة بمجالاتها، وفي المقابل ايلاء إدارة العمل لعناصر متواضعة في كسبها المعرفي وضعيفه في قدراتها الذهنية وعاجزة عن إشاعة روح الاعتماد علي الذات بالتحريك الفاعل والشامل للمتاح من الثروات للمعالجة الجذرية للمشكلات، ضعف المسائلة والتطبيق الصارم للقوانين والضوابط بعدالة علي الجميع وبلا تمييز ومحاباة تحت أي غطاء، إستشراء أمراض النفوس، ومنها، الفساد المالي والإداري بجوانبه المتعدده وسط فئات بعض نشاذ المجتمع السوداني المحافظ والمعروف بعفة الأيادي ومكارم الأخلاق وحفظ الفضل، وطيب العشره، والتسامح والتسامي فوق الجراحات بالعفو والصفح واصلاح ذات البين، كسمات متفرده وميزات تفضيلية لجمهور السودانيين بالداخل، ومحل فخر للوطن في حسن التعامل والمعاملة للمغتربين في مهاجرهم بالخارج، ربط تحقيق التنمية بالقروض والاعانات المادية الخارجية كشرط أوحد، يبرر بفرضية غير منطقية وواقعية، تنفي إمكانية وجود بدائل وطنية قابلة للتطبيق تحقق النجاحات التنموية من الداخل وبالداخل وبالمتاح من الموارد المادية والبشرية، واقتبس هنا تعبير من متداول القول (أنّ حواء السودان بتفردها وتنوعها وفي كل الاتجاهات الواسعة الشاسعة والدة الكثير من المبدعين).
أثبتت التجارب التنموية التاريخية لكثيرٍ من الدول، أنّ الفوائد المركبة والمرهقة للديون الخارجية حين حلول أجلها والعجز عن سدادها تتراكم فتضخم حجم الدين العام بإستمرار، وبعدها يستحيل للدول الفقيره سداد أصله الإبتدائي، حين تواجه بالصدمات المحلية والدولية، ناهيك عن مضاعفاته من الفوائد التي قد تصل إلى أربعة او خمسة اضاف مبلغ الدين الاصل بمرور الزمن، لذا، ابتدعت الدول صاحبة مال الدين، فكرة مبادرة لأخذ حقها المالي المستحق كأصل وذلك بإعادة جدولته ليحقق في المقابل أضعافه من مزيد الأرباح وفوقها فوائد أخري معلنة او خفية بطريقة مباشرة او غير مباشرة، ويتم الحصول علي كل ذلك عبر اعفاء الفوائد المتراكمة علي أصل الديون، وبشروط قاسية تصب ٱخيراً في مصالح هذه الدول الدائنة لتعويض المبلغ المستحق والذي سيتم اعفائه بقرار جماعي من هذه الدول من خلال تجمع تعاوني سمي (الهبيك) أي، الدول الفقيرة والمثقلة بالديون، فوضعت في المبادرة شروط متطلبات وإجراءات لازمة التطبيق وسابقة للاعفاء، وفي طبيعتها غاية في القساوة علي معايش الناس وكارثية في الأداء الإقتصادي العام.
لمساعدة الدول المدينه لدخول الدائرة السوداء للاعفاء بإستيفاء شرط الحصول علي الأهلية، يتم تقديم قروض بنكية إسمية غير مقبوضه (القروض التجسيرية) لان هدفها هو إجراء التسويات الحسابية الدفترية، لفك القيود المفروضة على هذه الدول لإستيفاء شروط التعامل المالي والاستفادة من خدمات الهيبك، لذلك فإنّ الحقيقة الفعلية للقروض التجسيرية هي منها وإليها.
بجانب عاليه يتم منح القليل من الهبات والمساعدات المالية تفضلاً على المجتمعات المحلية (برنامج ثمرات) وذلك كله، بمثابة حوافز ترغيب للشعوب الفقيرة لجذبها ودفعها في إتجاه تبني تنفيذ تفاصيل خطط الاعفاء بشروطها الصعبة المعجزّة، وبذا، يتم إيقاع الدول الفقيرة في فخ شراك دائرة الديون المفرغة والفارغة من اولويات المشروع القومي، لتستمر في عملية البحث عن شراب السراب، فتهدر بذلك ثمين الأوقات وقليل المتاح من الطاقات والامكانيات الذاتية المتوفرة محلياً، بتبديدها في متابعة رحلة الاعفاء الطويلة الأمد بتعرجاتها وهاوياتها واستحالة تجاوز عقباتها وبلوغ منتهاها وتحقيق مطلوب الإعفاء، وذلك، لعدم كفاية الزاد لمواجهة صعاب السياسات، نتيجة الفرق الكبير ما بين حقيقة قساوة السوء في أحوال المعايش للناس، وقليل المقدم من المساعدات لمعالجتها، أو علي أقل تقدير تخفيف أثر ضررها ومن نماذجها في واقعنا المحلي، مبالغ الدعم المقدم عبر برنامج ثمرات ( 5 دولار في الشهر للفرد) وهي تعادل 2250 جنيه بسعر الصرف الجاري وبمتوسط 75 جنيهاً يومياً.
ألم السياسات وتواضع المعالجات:
نسبة لتواضع وضعف مبلغ الدعم المقدم كمتوسط يومي (75 جنيه) عبر برنامج ثمرات، فحقيقة ضعف قوته الشرائية تتمثل في عدم تمكين الفرد من شراء بيضة واحدة مسلوقه لان سعرها بلغ 100 جنيه، فإذا افترضنا أنها المكون الوحيد لوجبة أسرة بعدد5 أشخاص وبمعدل بيضة واحدة للفرد في الوجبة الواحدة ومعها قطعتين خبز مدعوم بسعر 5 جنيه × 2 قطعة خبز × 3 وجبات 30 × يوم = 900 جنيه في الشهر للفرد الواحد × 5 أفراد = 4500 جنيهاً شهرياً، ولاستكمال مكونات وجبات اليوم، يحتاج الفرد لعدد 3 بيضات × 3 وجبات يومية = 300 جنيه في اليوم × 30 يوم = 9000 جنيهاً شهرياً × 5 أفراد = 45000 جنيهاً شهرياً، كتكلفة شهرية لشراء بيض الوجبات اليومية لهذه الأسرة + 4500 جنيه تكلفة الخبز الشهرية = 49500 جنيه وهي التكلفة الاجمالية للميزانية الشهرية المطلوبة لتوفير الوجبات اليومية من الصنف المذكور لأسرة تتكون من 5 أفراد، وذلك بفرضية ثبات الاحتياجات الأخرى وغياب الصرف فيها، والمتمثلة في المسكن والعلاج والتعليم وأخري تعلمونها.. وفوق هذا وذاك، الصرف علي المواصلات العامة والتي بلغت تعريفة حدها الأدني 100 جنيه بمضاعفاتها حسب بعد المسافات.
ضعف الأجور وقساوة المعيشة:
إنّ الميزانية الشهرية لنموذج التقدير المذكور للتكلفة الكلية لمطلوب الصرف الشهري للوجبات اليومية فقط ولأسرة من 5 أشخاص كما في المثال عاليه = (495000 جنيه= 110) بسعر الصرف الجاري، هذا المبلغ الكبير اسماً والمتواضع قدراً في قوته الشرائية، يمثل في الواقع مرتب شهري لاستاذ جامعي يحمل درجة الدكتوراة وبدرجة بروفسيور، وهي درجة تعادل في الخدمة المدنية الدرجة الأولي الخاصة أو رتبة لواء في الجيش.. عليه، قياساً، كيف بحال مستويات أجور الدرجات الوظيفية دونها، بل كل الفئات العمالية في الهيكل الوظيفي للخدمة العامة في السودان فكيف يدبرون معيشتهم اليومية من الطعام فقط، بفرضية تجميد كامل للمتطلبات الحياتية الأخري؟، نأمل وقفات من أولي الأمر لمراجعة إيجابية ما يطبقون من سياسات ويتخذون من قرارت، بتقديم تفسير تحليلي حسابي دقيق وبجداول زمنية تبين الكيفية التي ستحقق بها هذه القرارات النقلات التنموية والرفاهية المعيشية المرتجاة في البعد الزمني للمستقبل القريب والبعيد، وبذلك سيتم إزالة الغبش الذي غطي الأبصار واليأس الذي طغي علي النفوس انتظاراً لوعود الفرج من سياسات التحرير المطبقة بقراراتها المتخذة، في حقيقة تلاشي تام لامل المنتظر من معالجاتها للمشكلات بمرور الايام وفق مؤشرات تراجع الأداء الإقتصادي والضيق المعيشي الماثل، فحتي متي وكيف؟.
فمستويات الأجور السائدة حالياً، تعتبر كارثية لضعفها المخل، لانّ تكاليف الوصول لمواقع العمل وتناول وجبة فطور فيه فقط، وبأي مكوّن طعام، تفوق التكاليف الكلية الشهرية، مبلغ المرتب الشهري المقبوض من قبل جل العاملين في الخدمة العامة وفق درجاتهم في الهيكل الوظيفي، بدايةً من الدرجة الخامسة إلى الدرجة 17 العمالية، ما افضي إلى تقلص حجم العمل بسبب الغياب الكبير والتسرب التدريجي للكثيرين بترك العمل نهائياً أو أخذ إجازات طويلة الأمد بدون مرتب وفق قانون الخدمة المدنية، وهذا الوضع بمثابة إنذار مبكر لتوقف نشاط العمل العام بالكلية وفي القريب العاجل طوعاً أو كرهاً، ما لم يتم تدارك المشكلة بحجمها وتقديم حل عاجل وفاعل يتوافق قدراً معها، وليس الإكتفاء بالتعاطي معها بحلول إسمية وشكلية مؤقتة.
المعالجة الواقعية لكتلة المشكلة الإقتصادية الكليه الحالية، ليس بتخفيف ضررها بالزيادات الاسمية والرقمية في الأجور، لأن الأجور السائدة حالياً، فقدت فعلياً اكثر من 95٪ من قوتها الشرائية، مقارنة بقوتها في قليل السنين السابقة (لتفاصيل أوفي يمكن الرجوع للورقة العلمية المنشورة للكاتب عن الاجور وتكلفة المعيشة 2012 – 2021م).
عليه، فإنّ قرار زيادة الأجور وبنسبة محددة ليس بحل مطلقاً، حتي ولو بلغت الزيادة 10 أضعاف مستواها الحالي وذلك لمترتباتها التضخمية وجذبها من قبل السوق بالأسعار الجديدة والمتصاعدة للسلع بعد تطبيق الزيادة مباشرةً، فيزداد حال الناس المعيشي سوءً فوق سوء، بدلاً من توقع تحسنه بالزيادة، وذلك ما لم يتم معالجة جذور المشكلة وصولاً لتغطية تكاليف مطلوب الحد الأدني من الاحتياجات الأساسية والمعيشية للمواطنين في جوانبها المتعددة، تزامناً مع أسعار السلع الجارية حالياً، وجارية حالاً في السوق وفي إتجاة التصاعد المستمر بلا توقف، حتي لو تطلب الأمر تقديم دعم عيني ومجاني وكافي من الاحتياجات المعيشية وإيقاف الدعم النقدي والذي يعلم مقدموه سلفاً بأنه لا يساعد الفقراء علي شراء ما يسد رمقهم ويطفئ لهيب جوع بطونهم، فما الفائدة من تقديمه إذن؟.
جذور المسببات ومطلوب المعالجات:
الحل العملي لحالة التردي الماثل في واقع الحال، تكمن في إيجاد بدائل سياسات وأزالة جذور مسببات التدهور الماثل من القرارات المتخذة وتقديم معالجات مادية او عينية فاعلة وكافية لها؟.
يؤكد ويبرر المقترح المنطقي المذكور، قدر المأساة المعيشيه المتسبب فيها بالسياسات، من خلال اسقاط مبالغ الأجور الشهرية الحالية التي يتقاضاه جميع فئات العاملين بالخدمة العامة في السودان علي تكلفة المعيشة بمطلوب إحتياج واحد فقط من قائمة الاحتياجات الضرورية المتعددة، وهو الطعام ولا غيره، بوجباته اليومية مع تغييب الصرف في جميع جوانب الاحتياجات الأخرى الضرورية كما ورد في المثال الحسابي آنفاً.
بتفاصيل السرد عاليه، أحسب انّ المقال وفق إلى حد كبير في عكس الصورة الحقيقية لواقع الحال الماثل والمعاش وبحساباته السالبة، والذي أدخل فيه الواقع الاقتصادي والمعيشي قسراً، بقرارات تحرير الوقود دون أن تسبقها دراسات تحليلية علمية حسابية لمترتباتها السالبة ووضع معالجات فعلية وواقعية تتسق مع حجمهاً زماناً ومكاناً، نأمل من أولي الأمر الوقوف علي هذه الحقائق إن كانت غائبة عنهم، بغية درء الأضرار وتعظيم المنافع إن وجدت، لما يصرون عليه من سياسات و يتخذون من قرارات متجنبين السماع والأخذ بما يقدم إليهم من النصائح ومقترحات بدائل المعالجات للمشكلات من قبل شتي صنوف الناصحين، معتمدين فقط علي نصف الرأي الذي معهم تاركين باقيه المكمل له بحوزة الآخرين، وكما قيل (نصف رأيك مع أخيك) عليه، ونسبة لعدم أخذه والاستنارة به، جاءت كل قرارات تحرير الوقود المتخذة بنتائج كارثية وبإمتياز وتلاشت وعود معالجاتها المتوقعة، وفي مقابل ذلك نجد التعامل مع كتلة إفرازاتها السالبة من المشكلات بتقديم حلول ومعالجات جزئية غاية في التواضع، مع تجاهل احتواء متبقي حجم الأثر والضرر الواسع النطاق بالمعالجات المطلوبة لجوانب اسقاطاتها السالبة علي المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والامنية، وذلك بالتركيز فقط علي الجوانب المشار إليه من الدعم النقدي المباشر والضعيف في كمه عبر برنامج (ثمرات) والدعم غير المباشر من خلال الخدمات المقدمة عبر برنامج (سلعتي) والذي يحتوي علي تخفيض طفيف في أسعار مجموعة قائمة قصيرة من السلع الاستهلاكية، لذلك، فإن الدعم الإجتماعي للمعيشة، وفي أجماله، أتي بتقدير حسابي غير واقعي ودقيق، بحقيقة الحالة المأساوية المعاشه، وبحجم أثرها وضررها الكبير الواقع على كاهل غالبية الضعفاء نتيجة تنفيذ وصفات مطلوبات الاعفاء من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين والتي قال فيها مهندس نهضة ماليزيا الرئيس الأسبق مهاتير مقولته المشهوره، نقتبس ترجمتها هنا، بغرض الاستشهاد للرشيد من القرارات، وقوله مفاده، ( لم أفعل شيئاً لنهضة ماليزيا سوى كوني خالفت نصائح صندوق النقد الدولي والذي كان يسعى الى افقارنا وهدر مواردنا)، وأضاف انّ صندوق النقد والبنك الدولي يزيدان الدول فقراً وفشلاً.
إنّ ما حدث في واقعنا الإقتصادي والحياتي المحلي ومازل مستمراً بنتائجه المعاشة يعكس تماماً ما تخوّف منه مهاتير، وذلك بسبب عدم المخالفة لسياسات الصندوق ،بل، الإصرار علي تبني الوصفة كاملة كما هي، بفرض قراراتها قسراً علي الناس، ما افضي إلى تبدل حال الواقع الإقتصادي والمعيشي إلى المستوي الماثل من السوء، والمزيد من باقيه آت في الطريق، وبذلك افقرت البلاد واهدرت مواردها وساءت أحوال المعيشيه فيها كما اشير، وغدا قمّة طموح الجماهير الفوز بوجبة طعام واحدة يومياً، بصرف النظر عن مكوناتها، فشاع الفقر واتسعت ظاهرة الجوع وسط الملايين من الاطفال والنساء والشيب والشباب لضيق ذات اليد وتقاصرها عن بلوغ مستويات الارتفاعات المتصاعدة لأسعار السلع في الأسواق، بسبب تطبيق حزمة السياسات بقراراتها التي تتخذ بتتابع وتواصل، وتنفذ كرها رغم اعترض الغالبية عليها، بجانب الكثير من النصائح المقدمة كمقترحات معالجات بديلة من قبل الناصحين المتخصصين لتجنب السير في اتجاهات هذه السياسات بغية درء أثر ضررها.
بما أنّ منظومة الاقتصاد القومي بشمولها، تعتبر ملك عام للجميع، فتتطلب قراراتها المصيرية ذات الأثر والتأثير الواسع والضرر البليغ والمسؤولية التاريخية أمام القادمين من الاجيال، الحكمة والروية وعدم اتخاذها مكتبياً ونقلها مباشرة بخطابات توجيهات للتنفيذ، فالاحري أن تطرح في استفتاء عام لاجازتها عبر ممثليهم في المجالس البرلمانية بالانتخاب ديمقراطياً أو من قبل القاعدة الجماهيرية مباشرة لتحميل الجميع المسؤولية، وهي الممارسة المطلبية التي تتطلع إليها جماهير المفوضين لادارة الفترة الانتقالية بعد إنقضاء أجلها، فكيف يتحقق هذا المطلب الجماهيري ويسود به الحكم الراشد والتداول السلمي للسلطة، ما لم تمارس تمارين اختباراته القبلية أثناء الجاري من الفترة الانتقالية؟. عليه، فمن أين يستمد أولي الأمر السند والدعم الإيجابي من الجماهير وحال الواقع المحلي تسوده معطيات ظاهرة الجوع العام المستشري في وسط الأكثرية من سكان البلاد بسبب القرارات الاقتصادية الفردية المستعجلة، بلا بصيص أمل لتحقيقها للمعالجات الجذرية الفاعلة للماثل من المشكلات ،لان السند الجماهيري لازم وضروري، ومطلوب من اصحاب أصل التفويض من الجماهير لتأمين الاستقرار والإستمرار في الحكم بالإدارة الرشيدة لإنجاز وإنجاح الفترة الانتقالية، وبذلك يمكن تهيئة البيئة بمعالجات حقيقية تتسق مع حجم الأثر والضرر الواقع بسبب الجديد من السياسات، بغية مواصلة الرحلة لبلوغ نهاياتها وتحقيق الفوز بجائزة الاعفاء الثمينة بالرغم من انها ستكون رقماً علي الورق (50 مليار دولار) ، ليس لها أثر إيجابي مباشر عاجل ومؤكد الحدوث، بل، احتمالي وكلامي وفق ما يقدم من مخرجات وعود منها، إنسياب التمويل بالقروض الجديدة، والانفتاح علي العالم وجذب الاستثمارات الأجنبية للمجالات عدة لنقل السودان بخيالنا التنموي الواسع ومن قبل آخرين دوننا كمواطنين إلى مصاف الشمول التنموي والرفاه المعيشي، فالاوطان، بني وطني، كما تعلمون، لا تبني الا بأيدي بنيها(اهل الحارة) وبلوغ العلا من الطموحات لا يتأتي الا بالتخطيط العلمي ووحدة الصف والهدف والاعتماد علي الذات بحشد الموارد الذاتية والجدية في العمل وسهر الليالي، لذا، فإن إعفاء الديون السابقة مع أهميتها ليست بأولوية وطنية وحيدة تقبع علي قمة الترتيب، مقارنة مع بقية كل الأولويات والماثل والعاجل من المشكلات، لكي تتطلب عاجل الاهتمام والمعالجة ويقدم في سبيلها كل هذه التضحيات ويحمل كل عبء معاناتها علي ضعفاء المجتمع، دون سواهم من القلة القليلة من الأثرياء واصحاب الطائل من الأموال.
تحرير الوقود وتلاشي الوعود:
رغم حقيقية عاليه، وواقع سوء الحال السائد والذي يتزايد بوتيرة يومية، بسبب الغلاء الفاحش والشح في ابسط متطلبات الحياة الكريمة، مازال الدفع مستمراً بقوة وبلا شفقة لسماع انين الفقراء، اصراراً علي تكملة الرحلة وقطع مسافات ظلام غيب السنين الفاصلة ما بين نقطة القرار ومستقبل نقطة الإنجاز المحجوبة بتفاصيل غيبها عنا، تزامناً مع حالة البؤس العام المتمدد وسط المواطنين في كل الاتجاهات ساعة بعد ساعة، في حقيقة أنّ اعفاء الديون يتطلب انتظاراً ولفترة ثلاث سنوات عجاف بأيامها ولياليها ولا احد يدري ما سيكون فيها من الاقدار الحتمية الحدوث، فأن أتت مترتبات غيبها حلوةً، ونزلت برداً وسلاماً علينا، ستستكمل متطلبات نقطة الإنجاز إسمياً، وببلوغها بعون العليم سنكون في انتظار نقطة الاعفاء كإنجاز فعلي، وحتماً حينها، وقبل الحصول عليه، ستبدأ رحلة البرنامج الجديد والمعد سلفاً من قبل الدائنين أعضاء الهيبك بسماته من (الجرجره والتسويف) المتعمد والممتد عبر السنين في عمق المستقبل البعيد للوفاء بوعد الاعفاء للديون ليتحقق لنا التحلل معنوياً عنها، ولنا عبره في نماذج السابقين (الجارة تشاد خير شاهد ودليل بطول انتظارها 20 عاماً حالياً بعد تحقيقها لنقطة القرار في العام 2001م، ومازالت تجري وراء استكمال مطلوبات نقطة الإنجاز من أجل إعفاء مبلغ دين لم يتجاوز نصف مليار دولار فقط).
خلاصة الخاتمة ومقترح المعالجة:
إنْ نقطة قرار أهلية إعفاء الديون التي انجزها السودان قبل أيام، تعاظمت من أجلها التضحيات وانحبست فيها انفاس الناس بسبب حدة معاناتها، وبلغت القلوب الحناجر بالصبر والجلد علي مر قساوة مطلوباتها، ولكن، بعد اعلان نيلها، تركت أثراً طيباً وفرحاً كبيراً وعميقاً في نفوس اولي الأمر والمواطنين عامة، لانّ ما قدم من تضحيات جسام في سبيلها لم تذهب هدراً وتضيع سدىً، فنأمل الا يكون الفرح بها في نهاية المطاف فرحاً كاذباً لان فقاعة (الهيبك) أن صح وتناسب التعبير عنها بالمفردة، هي جسم تكوّن من مجموعة الدول الدائنة بغرض إعفاء ديونها علي الدول الفقيرة والمثقلة بالديون، وذلك ليس حباً فيها او إشفاقاً علي معاناتها وبؤس حالها، بل، لغرض خدمة مصالحها الخفية،. لذا، كان لزاماً علي الدائنين صرف أنظار المدينين بعدم الانتباه لشراك الديون وعدم إتخاذ قرارات وطنية جريئة بالاعتماد علي ذاتها وتحريك المتاح لديها من الثروات والموارد الداخلية لحل مشكلاتها وبلوغ الشمول التنموي، للوفاء بديونها، والا فإن لم يكن ما ذهبنا اليه كذلك، وعين الحقيقه، فلم لا تتفق هذه الدول علي تجميد مبالغ ديونها كاملة وبأرباحها الي أجل مسمي يرتبط بتقوية الدول الفقيرة اقتصادياً عبر تحويل الهيبك إلى منظمة نقدية تطوعية استثمارية تنموية لا ربحية، تساعد الدول الفقيرة إنسانياً في النهضة التنموية الشاملة عبر تمويل مشروعات استثمارية ضخمه بمنح نقدية وعينية غير مستردة، تغطي شتي جوانب الموارد المتاحة للدول الفقيرة، بهدف معالجة الفقر المجتمعي في هذه الدول الضعيفة بتوفير الاحتياجات الأساسية لشريحة الفقراء، وفي المقابل أيضاً دعم الحكومات الديمقراطية في هذه الدول بمنح نقدية ومعدات تقنية مجانية تساعدها علي تحقيق الإنطلاقة التنموية لتتمكن بعدها من البدء في سداد مبالغ ديونها المجمدة بجدولة زمنية محددة من أرباح هذه الاستثمارات عبر الحقب وفق ما يتفق عليه ، وبذلك، تصبح الديون المستحقة حيّة ينتظر سدادها، بدلاً من إعتبارها ديون هالكة لا يرجي سدادها وتتطلب الاعفاء بمبررات منطق الشفقة والصدقة من قبل اثرياء الدول الدائنة للفقيرة المدينة، وبلا مقابل، كمنطق لا يستوي ويستوعب عقلاً، لتعقبة مباشرة عملية الأرتهان الكامل و المبرمج في قراراتها الوطنية وبتبيعة للدول الأجنبية صاحبة الفضل وذلك في كل الأبعاد الإقتصادية التنموية، الاجتماعية الثقافية، السياسية الأمنية، والعقدية الدينية، فماذا تبقي لهذه الدول بعد سلبها كل هذا، لتطلق علي نفسها دولة ذات سيادة؟.
حسبي أنّ مقترحي المذكور لتسوية ديون الدول الفقيرة بتجميدها بدلاً عن اعفائها، لتمكين هذه الدول من سدادها عبر أرباح الاستثمارات كمساعدات انسانية لا ربحية وغير مستردة، لهو منطق النفع الإنساني كبديل مناسب لجراحات عملية الاعفاء بخطواتها المتطاولة واجراءات إستيفاء شروطها الصعبة، وصولاً للشطب الدفتري للديون والذي كحقيقة معلومة للجميع لن ينقل الدول الفقيرة بين صبح الاعفاء ومسائه الي مصاف النهضة الشاملة ورفاهية العيش.
لذا ينبغي أن يكون هدفنا الوطني العاجل وشغلنا الشاغل كسودانيين ليس هدو الأوقات وتبديد الطاقات في طلب إعفاء الديون، بل المطلب القومي العاجل هو تحقيق النهضة الشاملة ورفاهية العيش للجميع، كمشروع قومي اوحد يحتل قمة سلم أولويات الترتيب لقضايا الوطن تخطيطاً وتخصيصاً للموارد وتنفيذاً، ولا يعلوه شئ في الأهمية، ليحتل السودان عاجلاً موقعه الطليعي المستحق بين الأمم الناهضة، وذلك بالاستفادة القصوي من هبات الكريم لنا، من الموارد والثروات البشرية والمادية والتي قل ما تتمتع به دوله في محيطنا الإقليمي بل جل دول العالم والتي تجاوزتنا في النهضة بقرون ونحن ما نزال بسلحفائية حركتنا التنموية، وقد تجاوز عمر الأمة حالياً 65 عاماً منذ الاستقلال في العام 1956م ومازلنا قابعين في المربع الأول عاجزين عن توفير المتطلبات التقليدية للعيش الكريم من خبز الطعام وماء الشرب والكهرباء فكيف بنا اللحاق بالسابقين من الأمم والتي بلغت منذ سنين خلت قمة التطور والشمول التنموي؟..
بهذه الكلمات نتوقف وندخر بقية مداد اليراع لمواصلة المقال في جزئه الثاني، أن منحنا طول أمد العيش وعافية البدن واستواء العقل من الكريم .
مع عمق ودي وجزيل شكري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى