فنون ومنوعات

افتحوا للعائد أبواب المدينة: رحلة الكتاب من أرصفة الشوارع إلى ارفف المكتبات

بقلم
عبدالله رزق
abusimazeh@yahoo.com
لا أعتقد أن مفردتي”العودة” و”الكتاب”، تخلوان من المغزي، إي مغزى، اوتفتقران إلى أي محمول دلالي. ومن ظلال المغزي الديني، ومحمولاته، خاصة، ومن بعد اسطوري، يمتد من يوليسيس إلى السندباد، وحتى ابي يزيد البسطامي. فالعودة، إلى زمان مضى، أو حتى زمان آت، كما صنعته السينما، وكذا العودة إلى مكان، البدء، الأصل، ك”العودة إلى سنار”، تخاطب نزوعا غامضا في مجاهل النفس الإنسانية. ففيما ارتبط “الكتاب” بالدين، في بعض الثقافات، وعبر التاريخ، وعرف بعض المؤمنين، في وقت ما بأهل الكتاب، والكتابيين، فإن العودة للكتاب، وإليه، (بافتراض ما قد يفعله حرفا الجر من فارق في المعنى) ، كشعار، للدورة الجديدة لمعرض الخرطوم الدولي للكتاب، ربما تنطوي على فعل مزدوج، للعودة، ثنائي الاتجاه، في الان، لعل أهمهما، هو عودة الكتاب من “أرصفة الشوارع” المعتمة، إلى “ارفف المكتبات” المكسوة بالبريق.
تشكل “مكتبات الأرصفة”، التي ازدهرت في تسعينات القرن الماضي، واغتنت، خاصة، بذخيرة من الكتب القيمة والنادرة، التي اضطر أصحابها للتخلص منها بالبيع، لمقابلة متطلبات حياة شاقة، وقتئذ، معلما بارزا للمكانة التي انحدر إليها الكتاب، عنوانا لما يمكن تشخيصه ب”محنةالكتاب” . فقد فضلت العديد من المحلات تجارة الرصيد واكسيوارات الموبايل، على عرض الكتب، الذي ماعاد يفي بقيمة إيجار المحل.
اندثرت مكتبة مضوي، والمكتبة الأهلية وافريكانا وسودان بوكشوب، واخلت المكان والوقت للكافتيريات وروادها،واحتياجاتهم الملحة.
بموازاة ذلك، تراجع، بالمثل، موقع الكتاب في أولويات موازنة المعيشة،وحاجات الاسرة. لم يعد الكتاب والجريدة والجملة، كما كانت في زمن مضى، يرجا استعادته، بعضا من مقتنيات العامل والطالب والافندي، لدى عودة كل منهم للبيت، في نهاية يوم عمل أو يوم دراسي. أصبح من النادر الان رؤية شخص يحمل صحيفة في المواصلات العامة، أو يقلب صفحات كتاب ما. لقد تراجع فعل القراءة تراجعا مريعا، أن لم يكن قد اندثر، هو الآخر، باندثار خزائن المعرفة. ربما يكون للإنترنت، لثورة تكنولوجيا الاتصال، إثر أو بعض إثر في ذلك. لكن هذه الوسائل الثورية الحديثة، قد دعمت، من ناحية أخرى، عادة القراءة ومهارة الاطلاع، بجانب تقنيات جديدة للكتابة والتدوين. فوق ذلك، وفرت سوقا للكتاب، وفضاء شاسعا للاطلاع، المجاني، على أمهات الكتب بصيغة” بي. دي. اف”، واسعة الانتشار. غير أن عادات وتقاليد السرعة في القراءة، والأختزال في الكتابة، المرافقة للمثاقفة على الإنترنت، والسوشال ميديا، ربما لن تسمح، في المستقبل المنظور، ببروز كاتب مثل فيودور دوستويفسكي، مع قارئ، طويل البال، ممهول، للاطلاع على رواية بحجم “الأخوة كرامازوف”..!
فازدهار منصة تويتر، على عهد نجمها الأول، الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ربما كان ينذر بنهاية عهد المعلقات في الشعر، والمطولات في السرد، أسوة بالخطاب السياسي. ما يرشح ساكن البيت الأبيض، السابق، لريادة مايمكن التواضع عليه باسم” الأدب البديل”
فالعودة إلى الكتاب، قد تكون رحلة اوديسية، في اتجاهين، لما قد يظن، سودانيا، انه “الزمن الجميل”، ستينيات وسبعينات القرن الماضي، والي المستقبل، الحلم، حيث الخرطوم تكتب، وتطبع وتقرأ… في الان.الخرطوم، المتعددة ثقافيا،التي تمارس نفسها في الوحدة، عبر الحوار بين مكوناتها.. … الخ
يحدث ذلك، في وقت غيرت الأمكنة التي كانت تسوق الكتاب أغراضها التجارية ولافتاتها، بعد أن أصبح إنتاج الكتاب” عملا غير صالح” ، اقصد، غير مجز للكاتب والناشر، معا. ولم يعد ممكنا تصور وجود انسان يكسب قوت يومه من الشعر، مثل نزار قباني أو محمود درويش، أو من كتابة الرواية، مثل نجيب محفوظ أو غادة السمان. لكل ذلك، تلح الحاجة لحفز الإبداع وتحفيز المبدعين، وتشجيع صناعة الكتاب، وإشاعة عادات القراءة والاطلاع والتعلم كسلوك حضاري، من خلال عودة جماعية للكتاب.
سأعود اليوم يا سنَّار ، حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً
تعرّى فى خريفى وشتائي
ثم تهتزّ بنار الأرض، ترفَضُّ لهيباً أخضر الرّيش لكى
تنضج فى ليل دمائي
ثمراً أحمر فى صيفى ، مرايا جسدٍ أحلامه تصعد فى
الصّمتِ نجوماً فى سمائى
سأعودُ اليوم ، ياسنّارُ ، حيث الرمزُ خيط’’،
من بريقٍ أسودٍ ، بين الذرى والسّفح ،
والغابةِ والصحراء ، والثمر النّاضج والجذر القديمْ.
لغتى أنتِ. وينبوعى الذى يأوى نجومى ،
وعرق الذَّهب المبرق فى صخرتىَ الزرقاءِ ،
والنّار التى فيها تجاسرت على الحبِّ العظيمْ
فافتحوا ، حرَّاسَ سنّارَ ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
افتحوا للعائد الليلة أبوابَ المدينة
افتحوا الليلة أبواب المدينة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى