في خطوة مفاجئة سيطر ثوار البجا بمدينة بورتسودان صباح اليوم على مبنى «الإذاعة والتلفزيون» بعد حادثة الاستعلاء الثقافي التي قام بها مدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون الكوز إبراهيم البزعي تجاه الصحفية زينب ايرا، وهو ما يعد مسلكًا وديدنًا لتوجهات العاملين في الإذاعة على مدار تاريخهم الطويل منذ سيطرة التنظيم الظلامي عليها في ليل بهيم في أعقاب انقلاب 30 يونيو 1989.
ويأتي تحرير المبنى والسيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون بعد يوم واحد، بعد أن أمهل المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة وتنسيقية مكونات شرق السودان، وزير الإعلام السوداني جرهام عبدالقادر، 24 ساعة لإقالة مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون إبراهيم البزعي قبيل أن يصفه بالمعتوه.
وقال المجلس في بيان صدر أمس، إن رفض مدير أهم المؤسسات الإعلامية لـ «الزي» البجاوي الأصيل، يؤكد أن هذه العقلية تدعوا إلى التفرقة والشتات ولا تمثل إلا نفسها ونحن لها.
وتحمل عملية السيطرة على مبنى الإذاعة رسالة قوية فحواها أن عهد السيطرة على الشعوب السودانية بالإعلام الكذوب قد ولى وأن فرض ثقافة ونمط محدد على الآخرين مرفوض، ولا خيار سوى أن يرى الجميع أنفسهم وثقافاتهم ولغاتهم وتنوعهم في وسائل الإعلام القومية، والتي من الواضح أنها لا تحمل من صفة القومية إلا الاسم.
وقالت الصحفية التي تعمل بالتلفزيون زينب ايرا، في منشور عبر صفحتها الشخصية على «فيس بوك»: “أثناء تواجدي باستوديوهات تلفزيون السودان والذي يفترض أن يُعبر عن كافة أطياف المجتمع السوداني بتعدّدنا المميز، دار بيني وبين السيد البزعي مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون حديثاً أعرب فيه عن غضبه من ارتدائي الزي «البجاوي» بالقناة وتحدث بأسلوب تفاجأت به وهدّد بطردي فقط لهويتي”.
وأضافت: الحديث دار بحضور بعض الزملاء الذين حاولوا احتواء الموقف وتجميل كلامه بأنه لا يقصد ولكنه أصر على ذلك وعموماً كان ردي: «هذا الزي هو هويتي ولن أتنازل عنه، مضيفةً «لم أتوقع أن استمع لحديث مِمن يشغل منصب حساس كإدارة الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون».
وفي أعقاب ذلك راجت أنباء عن منع مدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون إبراهيم البزعي للمذيعة زينب ايرا من دخول الاستديو الرئيس للأخبار لارتدائها الزي البجاوي الذي يمثل هوية المكونات القبيلة بشرق السودان.
واتهم مجلس البجا “البزعي” ببث سمومه المريضة من خلال هذا الموقع الحساس بحسب البيان، ما يدعو إلى التفرقة بين تقاليد وأعراف مكونات السودان.
وما قام به البزعي ليس جديداً فحسب بل في وقت سابق قام هذا المعتوه بإبداء ملاحظة حول التحية باللغة البجاوية في الأخبار لهذه الصحفية، وهذا يؤكد إصرار الإدارة على إقصاء الثقافات واللغات السودانية الأخرى.
وقد ظلت إذاعة أم درمان هي القبلة الأولى لكلّ انقلاب عسكري شهده السودان طوال سنواته السابقة، بل هي المقياس الأول لنجاح الانقلاب، أو الحركة التصحيحية، والثورة، وغيرها من المسميات التي كان يطلقها قادة الجيش الانقلابيون عند استيلائهم على الحكم في البلاد. فالمارشات العسكرية و”البيان الأول”، الآتيان من الإذاعة، كانا المؤشر الأول الذي يدل السودانيون على حدوث تغيير سياسي في البلاد ونظام الحكم. ومن بين عشرات الانقلابات العسكرية -بعضها أذاع بيانه الأول وأسمع الناس موسيقاه- نجحت ثلاثة انقلابات كبرى، حكمت البلاد لأكثر من نصف قرن من الزمان، دمرت خلاله الاقتصاد وأرجعت السودان وناسه قرونا إلى الوراء.
وطوال هذه السنوات العسكرية المأساوية، ظلت “هنا أم درمان” تعمل نشطة، محروسة بالدبابات والعسكر، تتوقع ميكروفوناتها كل فجر صوت مغامر جديد يعلن ثورته، بينما تستمر استديوهاتها في بث الأغاني والبرامج المتنوعة، منقادة إلى السلطة الجديدة أيا كانت، من أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
وطوال عمرها عمل القائمين على الإذاعة على إقصاء ثقافات وهويات الشعوب السودانية المختلفة، مركزة على الأغنية الأم درمانية، وتلك الأغنيات التي تمثل ثقافة وسط السودان من حيث اللغة واللحن، والأداء وأسلوب تناول الموضوعات، سواء العاطفية أم الوطنية، وهو ما جعل ثقافات عديدة وأغاني وتراث لم تجد حظها من النشر والتداول.
حان الوقت لإحداث تحول كامل وبشكل جذري في السودان، ويجب أن تحطم تلك العقلية الخربة التي أخرجت أمثال البزعي وغيره، والانتقال إلى دولة الحرية والسلام والعدل والتنوع السوداني الفريد، ويجب أن ننتقل إلى بناء الجديد على أنقاض القديم.