تقارير وتحقيقاتثقافة

«الحكامة».. سيف التراث الشعبي البتار الذي يهابه الرجال

تقرير: الجماهير

يعتبر التراث الشعبي أحد أهم سمات الموروث الثقافي لدى كثير من المجتمعات السكانية، وقد لعبت فئات مهمة في المجتمع دوراً محورياً في توريث ونشر كثير من الثقافات والعادات والتقاليد، وتعد «الحكامة» العنوان الأبرز في ثقافة مجتمع العرب الرحل في دارفور.

والحكامة هي مغنية شعبية لديها موهبة شعرية وغنائية اكتسبتها من بيئتها الرعوية وفي الغالب الأعم تكون الحكامة غير متعلمة، وتنظم الشعر في قوالب مختلفة.

ومن أشهر اللعبات “الرقصات” التي تلقي فيها الحكامة أشعارها، هي «الكاتم، العريج، الجار، الجراري، العريس، السنجك، والنقارة». 

وتتميز الحكامة بلبس مميز، تتحلق حولها النساء والفتيات في مظهر بديع، وتنتشر أغانيها بسرعة وسط البوادي، ويتم ترديدها في المناسبات من قبل الفتيات، اللائي يحفظن الأشعار بالاستماع. 

وأشهر الحكامات في دارفور: «الباتيل، وزهراء عيسى، والاندرين، وفطومة حسين (الدهيباية) والذخيرة»، وأخريات.

وتكتسب الحكامة مكانة ونفوذاً كبيراً في المجتمعات المحلية، فهي مصدر فخر وعزة ومهابة، تدفع بالرجال إلى تقديرها وكسب ودها ورضاها خوفاً من غضبها وهجاءها، وشعرها يعتبر ذو حدين؛ إما أن يرفع شأنك وسط المجتمع إذا مدحتك، أو ينفر الناس من حولك، وتكون مذموماً إذا تم هجاءك.

أدوار تاريخية متجددة:

ويقول أستاذ الإعلام بجامعة أفريقيا العالمية الدكتور “مصطفى عبد الله الجميل”، إن الحكامات هن إحدى ركائز الشعر الشعبي منذ قديم الزمان، وارتبط دورهن بالحروب.

وأشار إلى أن حرب القبائل منذ قديم الزمان لعبت فيها الحكامات دوراً بارزاً في الحشد والتعبئة وحسم المعارك بالأشعار والأناشيد الملهبة، والمحفزة للمقاتلين.

وزاد: “بالمقابل سيكون لهن دوراً بارزاً في بناء السلام إذا استغلت امكانياتهن، التي وصفها بالسلاح الفتاك نحو السلام، ومحاربة العادات الضارة، والسلوكيات المهددة للسلم الاجتماعي”.

وكشف “الجميل” عن دورهن في الحفاظ على التراث وعادات المجموعات الاجتماعية والثقافية.

 وقطع “الجميل” بأن دور الحكامات لن يتلاشى قريباً، لتمسك المجتمع السوداني بعاداته وثقافاته وقبائله.

وذكر أن دورهن يمكن أن يكون إيجابياً، إذا استطاعت المنظومات السياسية خلق برامج يتم التخطيط لها بشكل سليم تستوعب سلاح الحكامات بالغ الخطورة لصالح البناء والتعمير. 

ونبه “الجميل” إلى أن الحكامات يتحاشاهن جميع أفراد المجتمع في المنطقة، خوفاً من الهجاء. 

وأضاف: “إحدى الحكامات في إحدى الحروب كانت لها ورقة تسجل فيها اسم كل من عاد من ساحة المعركة. ولا يستطيع أي جندي – مهما كانت الأسباب – أن يعود من أرض المعركة، لخوفه من الهجاء. كون الهجاء أمر يورث أسرياً، وربما طال أجيالاً قادمة من منسل الذي تم هجائه).

«الحكامة» كمرآة للثقافة:

في الأثناء يقول عضو تنسيقية الرعاة والرحل بغرب دارفور الأستاذ “مسعود تور اللاد”، إن دور الحكامات في بناء السلام يكون من خلال الغناء ومحاربة الحرب، والتشجيع على السلام والتنمية وإنهاء الحروب.

 وأشار إلى أن الحكامات يرسمن لوحة اجتماعية بديعة تعبر عن التماسك الاجتماعي القبلي، وتوضح بجلاء دور المرأة وتأثيرها في محيطها المجتمعي، والمحافظة على الموروث الشعبي والثقافي، والتمسك بالعادات، لافتاً النظر إلى أن للحكامات دور كبير ومؤثر في حث الشباب على الثأر، وتشجيعهم على الحروب والاستعداد لها، وهجاء المتخاذلين. وأضاف: “من يتم هجاءه تمنع مجالسته والأكل معه”.

وفي ذات الصعيد قال عميد كلية الإعلام السابق بجامعة الجنينة الدكتور “فاروق أحمد يحي”، إن “الحكامات” شريحة مهمة في المجتمع السوداني بصفة عامة، ومجتمع دارفور بصورة خاصة، لا سيما الرحل والرعاة.

وأشار إلى أنهن يمثلن انعكاساً ثقافياً واجتماعياً للبيئة المحيطة، في الجانب الفني والترفيهي. 

وأضاف: “تعالج الحكامات من خلال تناولهن للقضايا في قالب الأغاني والرقصات، قضايا اجتماعية كبيرة، في جانب الشجاعة والكرم والمروءة”.

بين الحرب والسلام:

وذكر فاروق إن للحكامات أدواراً مهمة في حالات الحرب والسلم، حيث يتمحور دورهن في السلم على تعزيز ثقافة الكرم والضيافة والشهامة.  أما في الحرب، فيكون دورهن هو الحشد والتعبئة الحربية لمقاتلي القبيلة، وإعلاء شأن الرجل الجسور المقاتل، الذي لا يهاب الوغى.

وتتفاعل “الحكامة” سلباً أو إيجاباً مع المجتمع، ويبرز دورها ويتمظهر من خلال تطور المجتمع، وتعاطيه مع القضايا.

وأكد أن الحكامات لعبن أدواراً مهمة في نبذ القبلية والكراهية، وإشاعة ثقافة المحبة، وكان هذا نتاج لتوجه اجتماعي كبير، ينادي بالسلام بعد الحرب التي عاشتها دارفور في السنوات الماضية. 

وكذلك تتفاعل “الحكامة” مع محيطها السياسي والاجتماعي، باعتبارها طرف اجتماعي مهم، وظهر دورها في الحرب التي تشهدها البلاد حالياً حيث ظهرت فئة تنادي بالسلام، بينما هنالك فئة أخرى تناصر أحد طرفي النزاع، وتمجد قياداته.

ومازالت الحكامة تتبوأ مكانة مهمة في المجتمع، لجهة أن الحرب الحالية أعادت لها دورها في التعبئة والحشد.

وأشار فاروق إلى أن الحكامة ترسل رسائل لمجتمعها في الإطار التقليدي المحلي، لكن مع تطور التكنولوجيا ستتسع دائرة رسالتها من ساحة البث المحدودة إلى الفضاء الإسفيري. 

وقال فاروق: “يظل ما تنتجه الحكامة محتوىً يمكن تداوله رقمياً، ويمكن عبر الطريقة التقليدية. ولا أتوقع أن يندثر دور الحكامات مع تطور التكنولوجيا، وإنما ستظهر منصات تحتفي بتراث الحكامة تخليداً لموروثها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى