رأي

الطيب علي حسن يكتب: محمد جلال هاشم؛ قراءة في تناقضات يسوع النوبي

في 15 أبريل خرج شبح السودان الجديد ليسكنه شبح إيديولوجيا الدولة التي كان يدعو إلى تقويضها تماما ويسميها بالدولة الإسلاموعروبية أو السودان القديم. ولعل ما يدلل على أن “هاشم” مسكون بشبح أيديولوجيا الدولة هو  أن معظم حججه، في الدفاع عنها وعن مؤسساتها، هي في الأساس حجج تستند إلى عقائد ومسلمات مثل كل الحجج الأيديولوجية، وهذا هو السبب الأساسي لتناقض يسوع الجلابي.

يتسائل مفكرنا الجهبذ محمد جلال هاشم أو يسوع النوبي، في مقال له بتاريخ 12 فبراير؛ هل تقف الحرب بانتصار الجيش على ميليشيات الجنجويد المجرمة وتفكيكه لها؟ وهو سؤال ضمن ثلاثة أسئلة تمثل الاحتمالات الثلاثة التي يطرحها مفكرنا الجهبذ على من يقولون لا للحرب، وهو السؤال الذي يحتوي على الاحتمال الذي يريد الشعب -الذي لا يوجد إلا في رأسه-  أن تنتهي عليه الحرب، ويقول في ذلك “وهذا هو مطلب الشعب ومطلب الثورة التي هتفت: “الجنجويد ينحل” ويواصل مفكرنا تقريراته العجائبية ويشرح لنا لماذا لا يجب على السودانيين أن يقولوا لا للحرب، وأنما يقاتلوا في صفوف الجيش، حيث يؤكد أن ذلك بهدف “مواصلة مشوار الثورة السلمية، المجيدة، وتحقيق باقي شعاراتها من عودة العسكر للثكنات وتفكيك التمكين .. إلخ”. والذي يقرأ مقال مفكرنا  هذا، يظن  أن الجيش كان عضوا في تجمع المهنيين، أو تلك الجهة الحريصة على الثورة، وليس هذا الجيش الذي ظل يتآمر على الثورة،  ويبدو أن محمد جلال يدرك جيدا، أنه إذا ما أراد أن يبرر دعمه الحالي للجيش، فعليه أولا أن يصور  لنا الجيش في خطابه الجديد بمظهر حارس الثور.

ولا يكتفي مفكرنا الجهبذ في أن يعرض علينا أفانينه في الحجاج والدفاع عن الجيش، بل حتى أنه قد أبدع فنا جديدا وهو يحاول تبرير دعمه للجيش، ومزايدته على من يقولون لا للحرب؛ واقترح أن يسمى هذا الفن الجديد بفن تنظيف التاريخ؛ فالرجل تفرغ لصياغة حجج يظهر فيها الجيش كمؤسسة قومية ووطنية ومهنية لا يجب دعمها فقط، بل والقتال في جانبها من قبل كل سوداني وطني – بحسبه-، لا هذه المؤسسة الجهوية وذات العقيدة القتالية الجهادية، والغير مهنية، والتي تسيطر عليها الحركة الإسلامية، والتي لها تاريخ مليء بالعار ودماء السودانيين، التي نراها تقطع الرؤوس وتبقر البطون ويقصف طيرانها المدنيين، وكل تلك الجرائم التي ارتكبتها بحق الشعب السوداني. ولعل الحجة الوحيدة التي يخرجها مفكرنا الجهبذ، ولكن بعدة صياغات، لتبرير دعمه للجيش عبر فن تنظيف التاريخ الذي دشنه مفكرنا عقب الحرب؛ ولتبرير مزايدته  الساذجة على أصحاب موقف (لا للحرب)، هي الحجة الواحدة والوحيدة “أنا لا أدعم الجيش في ذاته، وإنما أدعمه من أجل تكريس حالة نظامية الدولة order of State”، ولعل استخدام محمد جلال لحجة نظامية الدولة هذه لتبرير دعم الجيش، يشير إلى أنه يعي أن فن تنظيم التاريخ الذي يحاول عبره  تصوير الجيش كالملاك الحارس لدولة الشعب السوداني، لن ينجح مع الجيش؛ فتاريخه أوسخ من ينظف. والمثير للدهشة والسخرية، أن مفكرنا الجهبذ، وهربا من التناقض الذي يقع فيه دائما، يهرب طوعا إلى تناقض آخر أكثر كارثية، ذلك أنه يدعو إلى نظامية الدولة، وفي ذات الوقت يدعم الجيش في خيار حسم الحرب لصالحه، بل ويدعو الشعب إلى الاستنفار معه حتى حسم الحرب. وبعبارة أخرى، إن مفكرنا الجهبذ، مع نظامية الدولة، وفي الوقت نفسه، مع الحرب التي تُعرف: كغياب لنظامية الدولة، وهذا تناقض يراه الأعمى ويسمع ضجيجه من به صمم. وليس هذا فحسب بل ويقع في تناقض ثالث أكبر، وعندما يطابق بين موقف لا للحرب، وبين دعم قوات الدعم السريع؛ نكاية بتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، يكمن تناقضه في ألا مطابقة بين الإثنين، ذلك أن وقف الحرب هو أول شرط لعودة نظامية الدولة؛ لكنك عزيزي القارئ، إذا ما عرفت أن مفكرنا الجهبذ يرى أن هنالك مطابقة تماما -في رأسه فقط-  بين مواصلة الحرب حتى انتصار الجيش، ونظامية الدولة؛ فلن يصير محيرا أنه يطابق بين وقف الحرب ضد نظامية الدولة. 

 وحتى لا نقسو على مفكرنا الجهبذ، ونمضي في تفسيرات لا تليق عند الحديث عن مواقف رجل  يسوع النيلي الذي كان يبشر بإنجيل الأفريقانية والسوان الجديد، نكتفي بأن نقول أنه وفي 15 أبريل خرج شبح السودان الجديد ليسكنه شبح أيديولوجيا الدولة التي كان يدعو إلى تقويضها تماما ويسميها بالدولة الإسلاموعروبية أو السودان القديم. ولعل ما يدلل على أن “هاشم” مسكون بشبح أيديولوجيا الدولة -المصطلح الذي نستخدمه لتوصيف “الدولتيين”- هو  أن معظم حججه، في الدفاع عنها وعن مؤسساتها،  هي  في الأساس حجج تستند إلى عقائد ومسلمات مثل كل الحجج الأيديولوجية، وهذا هو السبب الأساسي لتناقض يسوع الجلابي. ويمكن أن نقول أيضا، أنها -الحجج-  ولهذا السبب بالذات، مجرد مواقف لا يمكن تبريرها، ذلك أنها أنها حجج لا تأخذ في اعتبارها الوقائع والأحداث، ولا تسند إلى تحليلات، وإنما رغبات وأماني أصحابها. 

وهنا إذا ما كان عمق العقل، يقاس بمدى تقبله للحقائق التي تتنافي مع قناعاته، فإنه يمكننا القول: إن مفكرنا الجهبذ، محمد جلال هاشم والذي أفنى عمره كله في صياغة نظرية اجتماعية تفسر الصراع السياسي في السودان؛ لم يستطع تحمل الحقائق القاسية التي فرضتها حرب 15 أبريل على قناعاته، وعلى نظريته الاجتماعية. وفي حين لم تصمد إلا بعض الخلاصات النظرية لمشروعه الفكري، إلا أن  محمد جلال هاشم، قد انهار كليًا، وتنكر لمشروعه الذي قضى عمره كله في تلفيقه وتلتيقه ولم يقوى على الصمود. ولعل أهم مثال على ادعائي هذا، هو هجران يسوع النيلي لأفكاره والتنكر لها؛ إضافة إلى  كفره -إن جاز قول ذلك- البواح بالسيناريو الشرق أفريقي الذي كان يبشر به عقودا طويلة؛ حيث عرفه في ندوة شهيرة رفقة الكومرد عبد الواحد محمد نور؛ بأنه، ذلك السيناريو الذي تأتي بمجموعات مسلحة من الهامش، وتنقض على الجيش الدولة المركزي، لتنهي الدولة الإسلاموعروبية وتبني دولة السودان الجديد بجيش جديد وهوية جديدة. 

 ولم يكن يسوع النوبي يبشر بالسيناريو الشرق أفريقي، بل إن مسيح السودان الجديد محمد جلال هاشم، كان يعده السيناريو الوحيد للتغيير في السودان. ولكن، لا بد أن سوء الطالع، ملازم دائما وأبدا لمفكرنا الجهبذ، كملازمته لكل الشخصيات العظيمة في التاريخ؛ فمثلما مات الرحالة البرتغالي الشهير كرستوفر كولومبوس وهو يصر مقدما أقوى الحجج والبراهين، على أن الأراضي التي وصلتها سفنه، ليست أراضي جديدة، وإنما هي الهند؛ ذلك أنه كان يؤمن بقين قاطع أنه متجه إلى الهند، ولم يكن يضع في حسبانه إمكان وجود أراضي غير معلومة لهم -كأوروبيين- في هذا العالم؛ مثلما مات الرحالة  كولومبوس جاهلا حتى بالإنجاز التاريخي الكبير الذي سيذكره التاريخ به؛ أخشى أن يموت -وبعد عمر طويل إن شاء الله-  مفكرنا الجهبذ دون أن يدرك، أو لنقل دون أن يعترف -لا أظنه يجهل-  أن حرب الخامس عشر من أبريل، هي ذلك السيناريو الشرق أفريقي الذي كان يبشر به. ولكن وللتشابه المأساوي بين الرجال العظام، ومثلما أن السبب في عدم اعتراف كولومبس بإنجازه، هو أن إمكان وجود أراضي لا يعلمها الأوروبيون، في المحيط الأطلسي بين قارة أفريقيا وأوروبا -نقطة إنطلاق كولومبس- وقارة أسيا أو الهند -الوجهة النهاية لكولمبس-،؛ كان أمرا لا مفكر فيه، بل إمكان مستبعد بالنسبة له؛  فإن السبب في تنكر محمد جلال هاشم للسيناريو الشرق أفريقي الذي حدث -ويحدث أمامه-،  هو أن إمكان أن يكون الدعم السريع هو قوى الهامش التي ستنجز السيناريو؛ أمر غير مفكر فيه، وبل ومستبعد بالنسبة لمحمد جلال مفكرنا الجهبذ.

إن رفض مفكرنا الجهبذ أن يعترف بأن الذي يحدث الآن هو السيناريو الشرق أفريقي بحسب تعريفه؛ فالدعم السريع قوى عسكرية من الهامش -جنودا وضابط- وهي الآن تنقض على الجيش المركزي والدولة، وكلاهما قد انهار؛ كما أن هنالك سودان جديد يتشكل؛ إن رفضه الاعتراف بما كان يدعو له؛  أحد أسبابه، أنه ظل يتخيل أن السيناريو الشرق أفريقي، والذي سيؤسس للسودان الجديد؛ سيكون من إنجاز الحركات المسلحة الأفريقانية التي هو جزء منها وأحد أبرز منظريها. وباختصار، إن ما حدث في حرب 15 أبريل، والتي يتقاتل فيها كل من الجيش والدعم السريع؛ أمتحن نظرية مفكرنا الجهبذ، لكنها لم تقوى على الثبات؛ ذلك أن يسوع النوبي، كان يعرف الصراع ضمن نظريته التفسيرية، على أنه صراع بين مجموعات إسلاموعروبية مهيمنة على الدولة، ومجموعات أفريقية مهمشة؛ كما أنه يعرف هذه المجموعات الأفريقية المهمشة على أنها الحامل للمشروع الثوري، أو مشروع السودان الجديد الأفريقاني؛ وهي تعريفات لا يمكنها أن تفسر الصراع الحالي في حرب 15 أبريل، ذلك أنه صراع بين جيش الدولة الإسلاموعروبية والمجتمعات المهيمنة من جهة، ومجموعة عسكرية -كانت جزءًا من الدولة- جذرها الاجتماعي من المجموعات العربية الرعوية  المهمشة والمعسكرة، وأصبحت عقب الحرب وجهة تستقطب المجتمعات المهمشة الأخرى وقيادات مثل “كيكل، أبو شوتال، البيشي و…إلخ،  تشير إلى أن الدعم السريع يتمدد في البوادي والمراحيل والقرى والحلال والفرقان. وليس هذا فحسب، بل إن قتال الحركات المسلحة الأفريقانية إلى جانب الجيش والدولة؛ يضع النموذج التفسيري ليسوع النوبي في مأزق كبير، ذلك أنها هي ذات الحركات الثورية الأفريقانية التي كان يعرفها: كتلك القوى الثورية الحاملة لمشروع السودان الجديد، والتي يعول عليها من أجل إنجاز السيناريو الشرق أفريقي الذي كان يبشر به. وبعبارة أدق فإن القوى التي كان يعول يسوع النوبي عليها في إنجاز السودان الجديد، أصبحت تقاتل إلى جانب الجيش من أجل حماية الدولة الإسلاموعروبية التي كانت تعرفها -وهو أيضا- على أنها ظالمة، والتي كانت تنادي وتعمل على تقويضها وبناء وتأسيس السودان الجديد الذي سينشأ من ركامها. ولعله من الواضح، أن عجز النموذج التفسيري الذي يقرأ به مفكرنا الجهبذ -يستند إلى منهج التحليل الثقافي-  حرب 15 أبريل، هو الذي دفعه إلى الانتقال من مشروع تقويض الدولة الإسلاموعروبية، بحجة أنها ظالمة ومهددة لوحدة السودان، إلى ضرورة حماية ذات الدولة الإسلاموعروبية،  وبحجة نظامية الدولة وأنها دولة كل السودانيين، وأن انهيارها يهدد وحدة السودان وشعبه. وما يجب تقريره هنا، أن يسوع النوبي، كلما تقدم في تحليلاته، وجد “شرك أمزريدوه” الذي للتناقض مكجوجا له.

إن الأشاوس وعبر تقويضهم لدولة (56)، لم يتركوا شيئا لمحمد جلال أو يسوع النوبي سوى البكاء والنواح على أطلالها، وكما يقول أحد المفكرين، “إذا لم يعد هنالك أدب، انقرض النقاد”، وأيضا، وبسبب أنهم ضربوا بمعظم خلاصات مشروعه الأكاديمي والسياسي عرض الحائض؛ وجد يسوع النوبي نفسه في موقف لا يحسد عليه، ذلك أن مشروعه التحليلي -منهج التحليل الثقافي- ومشروعه السياسي -السودان الجديد- كان يجد مبرراته الرئيسية من نقد الدولة الإسلاموعروبية أو السودان القديم؛ هذا في حين تحول هو إلى موقف الدفاع عن ذات السودان القديم، بعد الحرب. ويبدو أن هذا سبب تناقضاته الصارخة عقب الحرب، فقد أصبح لزاما على يسوع النوبي، أن يصوغ حججا ومبررات جديدة من أجل الدفاع عن الدولة، التي كانت كل حججه السياسية ضدها وتدعو إلى تقويضها. ومجبر يسوع النوبي لا بطل، وبفعل ضرورة صياغة حجاج سياسي عن موقفه الجديد؛ كان محكوما عليه أن يقع في “شرك أم زريدوه للتناقض”، وأن يظهر بهذا المنظر الذي لكاهن أو عراف وليس مفكرًا ومثقفًا. ذلك أن، ليس تدريجيا بالطبع، بل وفجأة؛ يسوع النوبي مسيح السودان الجديد، والذي بإمكاننا أن نميزه من بين كل أنبياء السودان الجديد ونحن مغمضي العينين؛ أطل علينا بمسوح جديد عقب الحرب، وهو يدافع عن ذات السودان القديم، ويبشر بقيامة السودانيين إن لم يقاتلوا إلى جانب الجيش؛ مدشنا بذلك العهد الثاني أو إنجيله الجديد. والجدير بالذكر هنا،  أن إنجيل مفكرنا الجهبذ للدفاع عن دولة (56) أو السودان القديم،  يختلف تماما عن ذلك الإنجيل -العهد القديم- الذي كان يبشر فيه بأنبياء غبش، خشنوا الشعر وداكني البشرة حصرا، وبعثوا فوق تاتشرات مقطوعة ليخلصوا السودانيين من فريسي الجيش وأنبياء الثقافة الإسلاموعروبية الكذبة؛ وإنما هو إنجيل جديد، يظهر فيه الجيش -الذي كان يرى ضرورة هدمه- بثوب المسيح المخلص، والكيزان وكتائبهم الجهادين كحواريين يحملون البشارة للشعب السوداني؛ وبالطبع لم يكن مفكرنا الجهبذ، ليغفل أن يصور حميدتي بصورة الشيطان.

إنه من نافل القول أن نقرر ألا وجود لنبي له كتابان، وأن المصير المأساوي لمفكرنا الجهبذ كان يكمن في رغبته العارمة -ظهر فجأة- في أن يكون النبي الوحيد الذي له كتابين؛ ولذلك كان محتوما، وتدريجيا بالتزامن مع اجتهاد مفكرنا في صياغة الحجج المعرفية والسياسية في دعم الدولة؛ تحول مفكرنا الجهبذ، من الحجاج العلمي الرصين، إلى هذيانات أقرب ما تكون إلى الكهانة والعرافة؛ فالرجل أصبح يتحدث بأمثولات وأقاصيص عجيبة، فعلى سبيل المثال وفي أمثولة إنجيلية له، قال يسوع النوبي في معرض رده على الأستاذة رشا عوض: “هذه المعركة في ظاهرها تدور بين طرفين هما الربان وبحارته من جهة والقراصنة من جهة أخرى. لكن هذه الحرب في جوهرها تدور بين بقاء السفينة من عدم بقائها؛ وأن المعركة في جوهرها بين التجار والتاجرات ملاك السفينة وملاك البضاعة فيها” ويستنتج  “وبالتالي يجب على جميع التجار والتاجرات أن يعملوا على بقاء السفينة دون غرقها، ولو كان ذلك بأن يضعوا أيديهم فوق أيدي الربان وبحارته طالما أن ذلك يعني عمليا بقاء السفينة دون غرقها. فهذا يعني أن حلم استعادتنا لسفينتنا لا يزال باقيا طالما ظلت السفينة باقية”.

ونتسائل هنا، أليست السفينة -التي ترمز إلى السودان- هي ذات السودان القديم الذي كنت تدعو إلى تقويضه لا إلى إصلاحه، وتنادي بالسودان الجديد في مقابله؟ أليس هذا الربان -يرمز إلى الجيش- هو ذات الجيش الذي كان يقهر ويسرق  التجار والتاجرات أصحاب السفينة – يرمز إلى الشعب- وأن هذا الربان -الجيش-  الذي تدعي أنه يريد حامية  السفينة -الدولة الإسلاموعروبية- هو ذات الجيش الذي كنت تنادي بتفكيكه وتأسيسه من جديد؟ أليس القراصنة -يرمزون للدعم السريع- هم صنيعة الربان الظالم -الجيش- الذي يجب أن يقف المواطنون معه؟ لعل مفكرنا الجهبذ  يسوع النوبي من الذكاء بمكان، ليدرك أن الطريقة الوحيدة التي تخفف التناقض الذي ورط نفسه فيه، هي؛ أن يعرف حرب 15 أبريل على أنه حرب بين الدولة وقوة أجنبية تخدم المشروع الإمبريالي؛ ذلك أنه ولكي يجعله دعمه للدولة والجيش -التي كان ينادي بتقويضها- مبررا، فإنه لابد أن يكون المهدد عدو خارجي. وهربا من التناقض الذي ورط نفسه فيه، يقع مفكرنا في تناقض جديد؛ ذلك أن تعريف الحرب على أنها صراع بين الدولة وجيشها، وقوة غازية، لا يمكن أن يكون صحيحا وقوات الدعم السريع حتى تاريخ 15أبريل، جزء من الدولة والجيش، وفي ظل حقيقة أن الدولة هي التي أنشأتها وجندتها ومولتها ودربتها وجهزتها وقننت وجودها، وأنها قوات سودانية وأن جنودها سودانيين. ولكن ولكي لا يظهر مفكرنا الجهبذ ومسيحنا في صورة المتناقض، لابد من أن يتحول -في مقالاته فقط- آلاف الشباب السودانيين من أبناء البوادي، الذين عسكرتهم الدولة لعقود طويلة، وزجت بهم في حروبها؛ إلى غزاة أجانب، وتتحول كذلك، قوات الدعم السريع التي كانت من رحم الجيش وتحرس السودان نيابة عن النائمين ووليدة رحم القوات المسلحة؛ إلى مليشيا الجنجويد وعرب الشتات الأجانب. 

إن مشاهدة يسوع النوبي، وهو غارق في مستنقع تناقضاته، وفجأة هكذا؛ يشير إلى إمكان وجود صدمة نفسية حادة لدى مفكرنا؛ ذلك أن مفكرنا -وبعض الظن إثم- يدرك أن حرب 15 أبريل، هي السيناريو الشرق أفريقي يحدث في السودان بضبانته، ولكن صدمته تكمن هنا بالذات، فمسيح السودان الجديد، مفكرنا الجهبذ محمد جلال هاشم؛ وعندما بدأ يدرك أن السودان القديم قد انهار؛ ويا للآسف بدأ يدرك أيضا، أن “الكدمول” هو ذلك الذي سينجز السيناريو الشرق أفريقي. وبعبارة أخرى فإن صدمة يسوع النوبي، تكمن في أنه أدرك أيضا، أن الذين يدكون ركائز السودان القديم أمام ناظره، هم ليسوا أولئك الأنبياء الغبش، خشنوا الشعر وزرق البشرة حصرا، الذين كان يبشر بهم عقودا طويلة؛ وإنما هم جنود غبش، ناعمي الشعر وفاتحي البشرة من أبالة وبقارة غرب السودان وبالطبع معهم مجتمعات السودان المهمشة. ولعل الصدمة التي تعرض لها مفكرنا وهو يشاهد مشروعه الفكري والسياسي يسقط أمامه؛ كانت كافية لتجعل ذلك الجلابي الذي بداخله -دفنته الأفريقانية- يستيقظ فجأة، فمفكرنا الجهبذ لا يمكن أن يدعم الدولة الإسلاموعروبية التي كان ينادي بتقويضها، إلا إذا ما أصبحت تعرف عنده على أنها دولة امتيازات مجتمعاته، ودولة امتيازاته بالطبع، ولذلك يعز على مفكرنا الجهبذ محمد جلال هاشم أن يرى دولة امتيازاته ومجتمعاته تنهار أمام ناظيره، ليس من قبل المجموعات الأفريقانية الكوشية كما كان يمني نفسه، وإنما من قبل مجموعات عربية من الهامش، وفي مقابلهم، لا أستغرب تحول مفكرنا يسوع النوبي إلى وضع الجلابي الآلي -مشابه للطيار الآلي- ويدافع بهذه الاستماتة عن دولة (56).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى