رأي

عثمان عجبين يكتب: بكري الجاك والتفسير السطحي لطبيعة الصراع 

ما قاله بكري الجاك ليلتها، هو خطاب مستعجل يسعى لتأجيل الحرب وإبقاء أسبابها تغلي تحت غطاء التفسيرات الآنية، لأن أي تفسيرات سطحية لطبيعة الصراع هي عبارة عن تخدير موضعي، وهنا بالضبط تكمن مشكلة دولة 56 وطبقتها الاجتماعية من الأفندوية.

قام بكري الجاك المدني الناطق الرسمي باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بوضع مقدمة لكتاب الأستاذ والصديق التجاني الحاج الموسوم بـ”الدولة ما بعد الكولونيالية في السودان، عوامل النشوء والانحدار”.

يقول الجاك في تقديمه للكتاب: “إن الواقع الذي ورثته دولة ما بعد الاستعمار السودانية لم يكن استثناء، بل أن جُل دول الجنوب، وبالذات فى القارة الافريقية، ورثت دولا قرّب فيها الاستعمار مجموعات إثنية بعينها، وخلق طبقة وسطى بقدر من التعليم، هي غالبا من أبناء هذه المجموعات التي استخدمها الاستعمار في تنفيذ أجندته، وهذه النخبة هي التي ورثت دولة ما بعد الاستعمار، كما أن التعدد الإثني والتفاوتات الاجتماعية وتركيز التنمية في مناطق بعينها ليس حكرا على دولة ما بعد الاستعمار في السودان وحده”.

في وقت لاحق، ومن على منبر تأسيس “تقدم” بأديس أبابا بتاريخ 27 مايو 2024م، قال بكري الجاك التالي: “نجحنا في عزل سرديات الحرب من قبل الطرفين سواء سردية الكرامة أو سردية نهاية دولة 56، كلها محاولات لتبرير الحرب في مخيلة الطرفين وقسم المجتمع، وطبعا المجتمع انقسم الآن والسودان يعاني من انقسام حاد لعدة عوامل لكن الحرب لعبت دورًا كبيرًا في أن الناس بدت تاخذ اصطفافات وفقًا لمكونات إثنية وعرقية ودا المهدد الحقيقي البخلينا الليلة نعقد مؤتمرنا دا عشان نسرع الحل السياسي”.

التناقض واضح كما ترون، الجاك يقول بأن دك دولة 56 هي سردية “لتبرير الحرب” من قبل الدعم السريع، وذلك يعني أن الدعم السريع يمارس “شهوة القتل” بلا أي أهداف منشودة ومن أجل إشباع رغبته في الفوضى، وفي نفس الوقت يساوي بكري الجاك بين محمول خطاب “حرب الكرامة” ومحمول خطاب “محاربة دولة 56″، أي أن الخطابين على باطل!

كل الحيثيات الواضحة التي تدلل على تعاون الدعم السريع في عدة أمور -ذكرها زميله ماهر أبو الجوخ في أحد لايفاته- ضرب بها بكري الجاك عرض الحائط، حتى الاتفاق الموقع بين الدعم السريع وتقدم لم يقف مدافعاً لترجيح كفة الدعم السريع على كفة الفلول، فهو في النهاية -من وجهة نظر الجاك- تحركه “شهوة القتل” بالرغم من أن الطرف الثاني “البرهان” لم يجلس مع تقدم ولن يجلس، لكن يحدو الجاك الأمل الأفندوي في الجلوس مع البرهان يوما ما لن يأتي. 

حديث بكري الجاك حديث لا يؤهل شخص أو جهة لتكون وسيط في إنهاء الحرب، وما قاله هو محاولة لإيجاد موطئ قدم لتقدم كطرف ثالث في الحرب الجارية لا أكثر، ويريد أن يوصل رسالة مفادها أن كليكما “دعم سريع/ جيش فلول” في الجانب الخاطئ ونحن فقط “على حق”. لأنه ليس من الممكن أن تساوي بين جهة متعاونة لإنهاء الحرب وتصفها بأنها تبرر استمرارها بسرديات ليست ذات قيمة إلا في إطار استمرار الحرب، وبين جهة كل يوم تصعد قيادتها المنابر وتقول “بل بس”، لا يستويان أبدا إلا في حال أردت تزكية نفسك وطرح خطابك كخطاب منقذ لا يأتيه الباطل. 

لماذا يتناقض بكري الجاك هذا التناقض البائن؟ الأفندية يسعون لجعل المشكل هو دولة 89، “دولة الكيزان”  وهذا بالضبط هو سبب تناقض بكري الجاك في تقديمه لكتاب التجاني وموقفه ليلة تأسيس تنسيقية تقدم. حيث أن إحالة جذور المشكلة إلى “حكومة الكيزان” هو تعمد لإخفاء العيوب الجذرية، لأن دولة 89 استخدمت نفس إرث دولة 56، لم يضع الكيزان أي لبنات جديدة أو قاموا بتمرد على البنى الرئيسة لدولة ما بعد الاستعمار (دولة 56). ولأن الأفندي يسعى لتغيير “طفيف” وليس عميق بحيث لا تتضرر “وضعيته التاريخية”، لذلك تراه يذر الرماد على العيون لتغبيش حقيقة أننا دولة فاشلة منذ خروج الإنجليز وليس منذ 1989م، وأن الظلم الذي أنتج الحروبات ليس وليد صبيحة 15 أبريل 2023م، هو تاريخ متراكم مجانبا مخاطبة الحقائق والتغبيش المتعمد وعلى نفس هذا المنوال ينسج بكري الجاك.

ما قال به بكري الجاك ليلتها، لا هو خطاب لإنهاء الحرب ولا هو خطاب معرفي، هو خطاب مستعجل يسعى لتأجيل الحرب وإبقاء أسبابها تغلي تحت غطاء التفسيرات الآنية، لأن أي تفسيرات سطحية لطبيعة الصراع هي عبارة عن تخدير موضعي، وهنا بالضبط تكمن مشكلة دولة 56 وطبقتها الاجتماعية من الأفندوية؛ وهي تعمل  باستمرار في سبيل تأجيل الصراعات، وتناولها للذي يأتي بعدها من نفس عقليتها وهكذا إلى يوم يبعثون.

أحد مشاكل مجتمعنا الجوهرية والتي تنعكس في السياسة والحكم هي أن الأفندية هم الذين يناقشون المشاكل التي تسببوا فيها، جُل الفاعلين في المجال السياسي أو مجال الفكر السياسي ينتمون إلى طبقة الافندية التي صنعها المستعمر، الأفندي لا يشعر بأنه بحد ذاته “مشكلة” وأن عقله وطريقة تفكيره هي المشكلة، هو يبحث عن أسباب أخرى بعيدة عنه لتردي أحوال البلاد، لذلك نحن ندور وندور في حلقة مفرغة منذ سبعين عامًا، لأن الأفندي لم ولن يخطر بباله أن يشارك بقية السودانيين في حل المعضلة الوطنية. 

منذ قيام ثورة ديسمبر وانحياز الدعم السريع لها، نبهنا أن هذه المرة لن يكون التغيير مثل أكتوبر وأبريل وهو ما حدث بالفعل، لن يكون تغييرًا متحكمًا فيه بواسطة الأفندية، حيث أن دخول “عقلية برية” غير مؤدلجة بمثل عقلية الدعم السريع  لن تترك مسألة التقدير والتدبير والتفكير في يد الأفندية، بل ستكون عقلية الأفندية السائدة في موضع اختبار قاسي، ولأول مرة في تاريخ السودان يواجه العقل الأفندوي بعيوبه، ويتم تعريتها ونشرها في الهواء الطلق، ونتيجة لهذا العراك ستنهار دولة 56 من هول رؤيتها لمساويها وانحطاط تفكير أفنديتها. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى