في الثورة السودانية، كان غياب قيادة ثورية خالصة سبباً رئيسياً في فشل تحقيق أهداف الثورة. على النقيض، كانت القيادة السورية أكثر استعداداً وحزماً في خطواتها.
الثورات العظيمة هي التي تُخلّد في الذاكرة البشرية ليس فقط بأحداثها، بل بما تقدمه من دروس وتحديات تواجهها. في هذا السياق، لا يمكن تجاهل الثورة السودانية وثورة الشعب السوري، وهما محطتان بارزتان في تاريخ نضال الشعوب ضد الدكتاتورية، لكل منهما خصوصياتها وتجاربها التي تستحق التأمل.
بدأت ثورة ديسمبر السودانية كواحدة من أعظم الثورات السلمية في التاريخ الحديث. شبابٌ ثوري، معظمهم ولدوا تحت حكم النظام الديكتاتوري البائد لعمر البشير، خرجوا ليطيحوا بنظام جثم على صدورهم ثلاثة عقود. ما يميز هذه الثورة هو انطلاقها من أطراف البلاد بتنسيق شبابي عالي، مما أخضع النظام القمعي خلال أربعة أشهر فقط، وصولاً إلى اعتصام القيادة العامة، الذي أصبح رمزاً للنضال السلمي. لكن رغم هذا الزخم الثوري والتنظيم الاستثنائي، عانت الثورة السودانية من إخفاقات قادتها السياسيين. فبدلاً من تشكيل حكومة ثورية خالصة من قلب الاعتصام، هرع قادة الأحزاب والمجتمع المدني إلى التفاوض مع اللجنة الأمنية التابعة للبشير، وهو ما فتح الباب أمام وأد الثورة مبكراً.
ومما أجهض الثورة السودانية عن تحقيق أهدافها ليس فقط شراكتها مع بقايا نظام المخلوع عمر البشير، بل أيضاً اختلاف قادتها الذي اشتغل عليه النظام المخلوع ليُسهّل عملية إفشالها والانقضاض عليها. هذا الانقسام، الذي تغذى على المصالح الضيقة وعدم الاتفاق على رؤية موحدة، سمح لنظام البشير وأجهزته بالتلاعب بالثورة حتى تمكن من الانقلاب عليها مجدداً في 25 أكتوبر 2021م. كانت النتيجة أن عاد الإسلاميون سريعاً إلى المشهد السياسي، فبدايةً انقضاض الإسلاميين على الثورة بدأ من فض اعتصام القيادة العامة وصولاً إلى إشعالهم لحرب 15 أبريل 2023م التي دمرت السودان، مرتكبين كل الموبقات لإجهاض ثورة ديسمبر العظيمة.
على الجانب الآخر، الثورة السورية بدأت في عام 2011 عند خروج مظاهرات في مدن سورية عدة مطالبة بإطلاق الحريات وإخراج المعتقلين السياسيين من السجون ورفع حالة الطوارئ، ثم مع الوقت ازداد سقف المطالب تدريجياً حتى وصل إلى إسقاط نظام الدكتاتور بشار الأسد بالكامل، لكنها قوبلت بقمع وحشي دفعها إلى التحول إلى العمل المسلح. رغم اللغط حول توجهات قادتها وانتماءاتهم لتنظيمات إرهابية، إلا أن الثورة السورية تفوقت في استيعاب دروس الربيع العربي، واتخذت قرارات حاسمة لحماية مكتسباتها. ففي اليوم الذي أُعلن فيه سقوط الأسد، سارعت القيادة الثورية إلى تشكيل حكومة انتقالية لمدة ستة أشهر، بقيادة ثورية خالصة، مع إعلان محاكمات علنية لرموز النظام، وحل نظامه والتجهيز لانتخابات بعد انتهاء الفترة الانتقالية. بهذا القرار، أغلقت الثورة السورية الباب أمام أي محاولة لاستعادة النظام المنهار.
واحدة من أبرز القرارات التي رسّخت روح الدولة في الثورة السورية كانت التصدي لمحاولات تصفية الحسابات الشخصية. أكدت القيادة أنه لا يحق لأحد المطالبة بدماء الشهداء لأغراض شخصية، وشددت على أن الشهداء قدموا أرواحهم لتحرير الوطن وليس لتحقيق مكاسب فردية، مكرسة بذلك مفهوم التضحية الوطنية.
رغم اختلاف الوسائل بين السلمية السودانية والمسلحة السورية، إلا أن التجربتين تقدمان دروساً جوهرية: أهمية القيادة الثورية. في الثورة السودانية، كان غياب قيادة ثورية خالصة سبباً رئيسياً في فشل تحقيق أهداف الثورة. على النقيض، كانت القيادة السورية أكثر استعداداً وحزماً في خطواتها. الحسم في بناء الدولة. الثورة السورية وضعت خريطة طريق واضحة لبناء الدولة منذ اللحظة الأولى، وهو ما افتقدته الثورة السودانية التي انشغلت بمفاوضات عقيمة أعادت النظام القديم بأشكال مختلفة. التضحية مقابل الانتقام. القرار السوري بعدم استخدام دماء الشهداء لتصفية الحسابات أو تحقيق مكاسب شخصية يبرز كنموذج ملهم لأي ثورة تهدف إلى بناء دولة جديدة.
الثورات لا تُقاس فقط بعظمتها في لحظات اندلاعها، بل بقدرتها على الصمود وتحقيق أهدافها. وبينما تظل ثورة ديسمبر السودانية مثالاً خالداً للسلمية، فإن الثورة السورية تبرز كنموذج للحسم في استثمار لحظات الانتصار. في المقابل، يبقى السؤال الأهم: هل ستتعلم الأجيال القادمة من هذه الدروس، أم أن التاريخ سيكرر نفسه بأوجه جديدة؟