يبرز “العنف الرمزي” للسلطة كأحد أخطر أشكال القمع والسيطرة وأكثرها خفاءً. هذا العنف لا يُمارَس بالسلاح أو السجون، بل عبر الأدوات الناعمة كالإعلام، التعليم، اللغة، والثقافة، بحيث يتم تطبيع الظلم في وعي الضحايا أنفسهم، إلى درجة تجعلهم يتقبلونه، بل ويدافعون عنه أحياناً.
ويُعد هذا النمط من العنف – كما صاغه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو – من الوسائل الأكثر فاعلية التي تستخدمها الأنظمة المركزية لفرض هيمنتها، خاصة في الدول التي تعاني من التفاوتات العميقة مثل السودان، حيث ظل المركز لعقود يمارس سياسات تهميش منظّمة ضد أقاليم الهامش: دارفور، كردفان، جبال النوبة، النيل الأزرق، وشرق السودان.
⸻ الإعلام كأداة لتكريس التهميش
لعب الإعلام الرسمي السوداني دوراً محورياً في تثبيت الصور النمطية عن سكان الهامش، حيث اختزل قضاياهم في ثنائية “العنف والجهل”، مغيباً عمداً الجذور السياسية والاجتماعية للصراع. تم تصوير أبناء دارفور أو النيل الأزرق كمصدر تهديد “للوحدة الوطنية”، وليس كمواطنين أصحاب حقوق مشروعة. ونتيجة لهذا الخطاب، نشأت حالة رُهاب جمعي من مجرد الحديث عن العدالة، باعتباره خيانة أو خروجاً عن الصف.
⸻ اللغة والثقافة: قمع الهويات المتنوعة
اعتمدت السلطة المركزية سياسة فرض الهوية “العربو-إسلامية” على حساب المكونات الثقافية والعرقية الأخرى. تم تهميش لغات وتقاليد شعوب النوبة والفور والبجا وغيرهم، في محاولة لصهرهم قسراً في ثقافة المركز خصوصاً بعد إنفصال جنوب السودان ولعل الرئيس المعزول عمر البشير كان لديه خطاب جماهيري في إحدى مدن الشمال بهذا المفهوم وغيره كثيرون يروجون لهذه السياسة منهم من قضى نحبه (الطيب مصطفى ) و(عبدالرحيم حمدي) ومنهم من ينتظر أتباع ومناصري (دولة البحر والنهر) . وتسببت هذه السياسات في خلق شعور عميق بالدونية الثقافية لدى أجيال الهامش، تم تعزيزه عبر مناهج التعليم والإعلام.
⸻ التعليم: إعادة إنتاج الخضوع
التعليم في السودان لم يكن يوماً محايداً، بل خُطط له ليعيد إنتاج السلطة المركزية. غابت الروايات البديلة، وتم ترسيخ تصور واحد عن التاريخ والهوية والوطن، يخدم نخبة بعينها. وهكذا، تم تخريج أجيال من أبناء الهامش غير مدركة لحقوقها، وغير واثقة من شرعية مطالبها، بل وربما ترى نفسها أقل شأناً أو أهلية من غيرها.
⸻ القبول الطوعي بالاضطهاد
تكمن خطورة العنف الرمزي في قدرته على جعل الضحية تقبل وضعها القائم وكأنه قدر لا مفر منه. فحين يُقنع الإعلام والثقافة والتعليم سكان الهامش بأنهم أقل حظاً لأنهم “كسالى” أو “غير متعلمين” أو “متخلفون”، فإن هؤلاء لن يروا جدوى من مقاومة الوضع أو المطالبة بحقوقهم. بل قد ينخرطون في لوم الذات أو لوم مجتمعاتهم، متجاهلين النظام السياسي والاقتصادي الذي صنع هذا الواقع.
⸻ النتائج: تفتيت المجتمع الوطني
هذه السياسات لم تؤدِ فقط إلى تهميش مناطق بأكملها، بل ساهمت في تمزيق النسيج الوطني، وتعميق الانقسامات العرقية والجهوية. كما كرّست اللامساواة وأضعفت فكرة “المواطنة المتساوية”، وأنتجت بيئة قابلة للانفجار في كل لحظة، وهو ما شهدناه في النزاعات المتكررة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق.
⸻ كيف نواجه العنف الرمزي؟
- بناء إعلام بديل:
إطلاق منصات ناطقة باسم الهامش تعيد سرد القصة من وجهة نظر الضحايا لا السلطة.
- تحرير الوعي الجمعي:
نشر التوعية بين المجتمعات المهمشة بأنها ليست أقل قيمة أو أهلية، وأن حقوقها طبيعية ومشروعة.
- إصلاح التعليم:
دمج روايات المهمشين في مناهج التاريخ والهوية، وتعليم التفكير النقدي وحقوق الإنسان.
- إحياء الثقافات المحلية:
دعم اللغات والموسيقى والفنون الشعبية في جبال النوبة ودارفور والبجا وغيرها كجزء من الهوية الوطنية الجامعة.
العنف الرمزي هو السلاح الصامت الذي يجعل الظلم مقبولًا في الوعي الجمعي، ويديم تهميش الشعوب دون إطلاق رصاصة واحدة. وفي السودان، لا يمكن تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي دون تفكيك هذا العنف الرمزي، ومواجهة ما زرعته عقود طويلة من التهميش النفسي والثقافي في نفوس الملايين من أبناء الهامش.