اخرى

مئتا ليلة أرق

نفيسة مأمون القرشي

الرابعه فجراً…

قبل مائة وتسعة وتسعون يوما وإسبوع واحد فقط ..كنت أجاهد كي أبدو حيا….

مائة وتسعة وتسعون يوما….وهاهي حياتي تتخذ شكلا آخر تماما…شكلا آخر يدعوني إلى الإستيقاظ حتى الرابعة فجرا..لأسقط في غيبوبة وأصحو بعد ساعة واحدة فقط…

مئة وتسعة وتسعون يوما تساءلت فيها عن كل شئ…وطرقت كل الأبواب..ورغم هذا لم يبد أنني قادم من أي معركة…

حربي مع نفسي لا بد لها أن تنتهي اليوم…في الليلة المئتين من أرق لم يعد محتملا..فربما تستمر ليال آخرى..حينها قد لا أتخلص من حزني أبدا….

(لماذا يستجيب الله دعوة المومس واللص والسكران؟؟)

في دوامة هذا السؤال سجنت ذاتي…في علاقة الله بالأشياء..بالعاصين…بالنزاع الدائم بين الفجور والتقوى بداخل البشر…

بي…

أنا الذي أعيش هذا الصراع دون أمل بالخروج منه..

أجاهد للبقاء في هذا العالم الممتلئ عن آخره بأشكال مختلفة من البشر…قوادون وملحدون ورجال دين وشرفاء..وآخرون بين بين….

كان العالم شفرة لم أقترب يوما من حلها…رغم هذه الرغبة المستعرة والأشواق التي لم تختبر أي هدوء..

هناء حبيبتي حدثتي يومها عن رغبتها في التوبة مني…

كانت جادة جدا في إلقائي في كل تلك الإحتمالات وحيدا وبلا مجداف…ضحكت..فقط ربما لأخفي خوفي..أو لأن الخمر كان يفعل بي الأفاعيل…تتوبين؟؟ ..بإستنكار تساءلت…

أجابت..( الحقيقة نوعان….حقيقة محضة..و أخرى ترغب في التغير…لا يؤوب سوى أيوب..وأنا كنت جزوعة و منوعة…أحتاج إلى الله…قد أغري  آدم آخر بأكل التفاح فاسقطه من جنتة..وأتوب….قد يقتتل طفلاي ويموت أحدهما ويعاقب الآخر أعلم أن لي علاقة بهذا….لكن لا بد لي أن أتوب…قد أراود فتاي عن نفسه ..وألقي به إلى غياهب جب جديد…..ثم أتوب…أنا أنثى يا عزيزي….أمارس الكيد العظيم….وأتوب …).

ورحلت هناء….تاركة منفضة سجائري ممتلئة عن آخرها…وزجاجة نصف فارغة…وبقايا إحتفال البارحة مبعثرا في الحجرات…

لم أكن أحتاج يومها لدعوة إلى الفجور نعيا لغيابها…هي التي كانت تشاركني كل شئ…سعيد صديقي أتاني محملا تلك الليله كل ما لذ وطاب لأفقد وعيي وأبكي كطفل رحيل هناء..ربما لو كانت معي الآن لإحتست خمري..وأفرغت علبة سجائري غير مبالية سوى بالحياة…

سعيد ظل صامتا…لم يربت على كتفي..بدا كأنه يجتر أحزانه الخاصة.. تلك التي لم نتشارك بها يوما…لم يكن كهناء…كانت تضع رأسها على صدري ثملة وتلعن الحياة…الآن سعيد ثمل و يلعن الحياة هو الآخر…دون أن يضع رأسه على صدر…ودون أن يثير أي قلق أو ضحك…

كانت أولى ليالي بعد هناء جحيما من الصعب التقبل به…..وموتا أحيا بعده كل صباح…

اليوم التالي…أتحرك من فراشي متثاقلا…تمس اقدامي البلاط البارد…أشعل سجارة ..وأدندن أغنية قديمة…لا زال رأسي ثقيلا ويطرقه صداع من نوع جديد..وكأني أسرفت ليلة البارحة في الشرب….أتعثر بهناء …دست في جيبي ورقة وقالت عندما تسترد وعيك إقرأها…جلست الي مقعدي..وبدأت اقرأ….

(منذ أن فقدت ذاتي وأنا اغرق في دوامة من أسى..وأحن لكل الأشياء…ترافقني أنت في عالم يهفو ولا يستمر….انا الآن في الطريق الدائم لحزني…لم أعد أحفل بألمي منذ ان عرفت الطريق الى الله…أحزن…أحس بإرتياح وشجن غريبين….الوقت شتاء..النافذة لم تكن تسرب سوى القليل من الضوء …دخان السجائر كان له رأي آخر…..وأنا أنسحب منك شعرت بحزن أكثر…ثم وكأني كنت أنتظر هذا الفراق….إحساس الفقد كان كأنه سيتحين وقتا أفضل ليطفو على السطح..ليال آخرى من الأرق…أبتعد…انا الآن أناقض نفسي…أبتسم وأنا أسحب ذاك الخنجر ..وأحس الرعشة الآخيرة بشهوة ما كان لي تخيلها…الله…كم أحتاج الى الله….وكم أقاوم طوفانك الجارف…ثم أنفلت….أعود إلي وتخرج إبتسامتي…مرهقة وفرحة…….الآن أفترق عنك بيقين أكبر……..)

الله…

الآن أعاود البكاء…

سعيد….هلم إلي يا صديقي…

حين فتحت الباب ….إمتدت إلي أيد كثيرة..ثم إنتشلتني من داري…كنت لا أزال بثياب النوم…بجيبي رسالة هناء..بقلبي فراغ خلفته..برأسي صداع ووعي نصف حاضر..

أمام الطبيب جلست…بدا متسامحا جدا وهو يحدثني عن ضياعي..

سعيد لم يحتمل جرعة البارحة…توفي في ساعة متاخرة من الليل…لم يجدوا  في منزلي شيئا..لكن دمي كان ملوثا بكل شئ..فنحن لم نكن نكتفي بالخمر..نصنع ضياعا متكاملا حد الإتقان…حبوب وخمر وحشيش…لم أبكي…ولم يبد على الإنهيار ..حدد الطبيب أنني تحت تأثير صدمة ما..لكن الأمر كان أكبر من هناء التي تابت.. وسعيد الذي مات دون أن أذكره ماعليه قوله هناك..

ثم أحسست ان الرابط بين كل الأشياء هو الله….وانا أفكر في الله..بدت كل الأشياء منطقية…

(إنه يربت على أكتافهم كما ترتبت على كتف إبنك العاق…حتى إذا لم يقومه التربيت…قومته اللكمه..)

لا أدري لماذا أحضروني إلى هذا المصح النفسي…يبدو أننا في بلاد تحمل كل رجل مسؤلية موته كاملة…وتحاول مساعدة الآخر على التجاوز…

مائة وتسعة وتسعون يوما…جربت فيها كل شئ…

مشكلتي كانت في الجذب الشديد الذي كان يحدث بيني وبين الآخر…بين أن أموت أنا صلاح الذي أعرفه ويجد في الملذات سعادته.. وبين صلاح آخر يحاول أن يكون ملكا لله فيكتشف لذة آخرى …

أكنت أخشى اللكمة؟؟؟

كنت أتنازع شوقا لكل شئ…لسجائري…لزجاجة خمري..لمسبحتي وسجادة الصلاة..لهناء..لأمي…ثم تحين الرابعة فجرا..وأسقط في غيبوبتي..

مئتا ليلة أرق…لم تجدي العقاقير ولا الخيالات ولا الصلاة ولا التراتيل في أي حرب…كنت أعلم أن الله يسمعني…لكني كنت عاجزا عن الدعاء…كنت أعلم أن قطرة خمر واحدة كان بإمكانها أن تطفئ أي ظمأ…إلا أن صورة سعيد المسجي على طاولة الموتي تزور خيالاتي ..كنت أرغب في هناء..إلا أن مشروع توبتها كان جادا ..ولم أكن قادرا على إقتحام خلوة قديسة…منتحتني نفسها يوما ما…

حين أقرأ سورة الإخلاص تمتلء عيني دمعا..ما إن أنهض حتى يجف الدمع..يبدو نفسي منتظما وأبدو هادئا حين أبدأ..ما إن أشارف على الركعة الأخيرة حتى تتسارع ضربات قلبي..وأنهض متثاقلا…

ربما لا يأبه الله لي…

وأنا أرى الدنيا تغرق في الضباب حولي سمعت صراخا من آخر الحجرات…تمزقت اعصابي…ثم رأيت فيما يرى النائم أضواءا وضجيج…كأن أمي تلوح لي..أبتسم….فجأة ترفع يد غريبة رأسي…وتتراخي قبضتي على علبة دواء ابتعلتها كاملة العدد…تصرخ الممرضه..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى