
المقال الثاني
- تحرير الخلاف بخصوص القضية الثانية، حق تقرير المصير، فقد أعاد الأمين العام للحركة، في نفس المؤتمر الصحفي، التشديد على موقف الحركة الداعي إلى إعادة تشكيل الدولة السودانية برمتها، وإعادة تنظيم العلاقة بين المركز والأقاليم. ومع ذلك، فعلى حد تعبيره، “نحن لا نطالب بحق تقرير المصير أو انفصال المنطقتين، ولكن نطالب بأن يحكم أهل المنطقتين أنفسهم. نحن لا ندعو إلى مشروع إثني، ولا نرغب في بناء مستقبل للنوبة بعيداً عن المسيرية، أو الحوازمة أو الفلاتة. ينبغي أن نضمن المستقبل لكافة القبائل في جنوب كردفان، وهذه هي رؤيتنا”. ولم يتردد الفريق عبد العزيز في الرد على تصريحات الأمين العام ووصفها بأنها “لا تعبِّر عن رأي أو رؤية الحركة الشعبية، وذلك لأن الحركة الشعبية تحارب من أجل العدالة ولا تستثنى أياً من الوسائل التي تحقق العدالة. وأن أي مناضل من أجل الحرية والعدالة ووقف الإبادة والفصل العنصري، لا يمكن أن يرفض حق تقرير المصير كآلية ديموقراطية لفض النزاعات”.
• والجدير بالملاحظة، أن مضمون مسودة المانيفستو، الصادرة في مايو 2012، يؤكد أن هذا الحق ظل موضوع خلاف جوهري بين الطرفين، ولو أنه، فيما عدا إثارته في خطاب الاستقالة، لم يطّف على السطح بصورة قوية. فقد شكَّل الفريق عبد العزيز، بصفته نائباً لرئيس الحركة، لجنة كلَّفها بمهمة مراجعة مُسودة المانيفستو، التي قامت بصياغتها لجنة الرؤية والبرنامج، أبريل 2011. أفردت المسودة الجديدة، مايو 2012، فصلاً كاملاً عن تقرير المصير “كحق لجميع الشعوب السودانية أن تمارسه، إما للاستقلال الكامل أو التوافق على نظام حكم ديموقراطي علماني” (الحركة الشعبية والجيش الشعبي، معهد التدريب السياسي والقيادي، مشروع المانيفستو، مايو 2012، صفحات 32-35).
• أما القضية الثالثة للخلاف، فترجع إلى قراءة الفريق عبد العزيز وتصوُّره لطبيعة الصراع السياسي – الاجتماعي في البلاد، والتي بدورها تستدعي مراجعة تحالفات الحركة مع القوى السياسية الأخرى. فهو يرى أن الحرب طال أمدها، منذ عام 1956، لسببين، أولهما، انقسام الضمير السياسي السوداني بين المستفيدين من “المركز العروبي الإسلامي”، من جهة، والمهمشين المتضررين من هذا المركز، من جهة أخرى. وثانيهما، انقسام الوجدان الجمعي القائم على أساس التباين الثقافي وصراع الهوية وهل هي عربية أم أفريقية؟ فبالنسبة له، لا مجال لـ “محايد” في هذه الحرب، فقد انقسمت الشعوب السودانية إلى فريقين، “فريق مع رؤية السودان الجديد الذي يسع الجميع، وفريق آخر مع المشروع العروبي الإسلامي الإقصائي”. وبذلك، فالفريق عبد العزيز يعد القوى السياسية المدنية، كما أسماهم “دعاة الجهاد المدني”، ولا يخفى أياً من القوى يقصد، جزءاً لا يتجزأ من قوى المركز والسودان القديم، ولو بدرجات متفاوتة. استعار الفريق عبد العزيز، عبارة إبراهيم الصلحي، واسم برنامجه التلفزيوني “بيت الجاك”، توضيحاً لرأيه في الائتلاف مع هذه القوى، بقوله إن “الجاك سوف لن يرضى بتفكيك البيت الذي بناه أو يتعاون في ذلك حتى ولو من أجل إعادة تأهيله وتطويره. وبالتالي، خلص إلى أنه “إذا كان لا بد من تحالفات مع تلك القوى فليكن، ولكن لا بد أن ترتكز على أسس مشروع السودان الجديد”. وهذا ما تم تفصيله في مسودة المانيفستو، مايو 2012، ضمن إستراتيجية الحركة الشعبية والجيش الشعبي، الفصل الخامس، في الفقرة 5.9: “الاتصال بمجموعات المعارضة بهدف تكوين جبهة موحدة مع هذه المجموعات، بشرط أن تظل قيادة هذه الجبهة مسلحة وتتفق مع مشروع السودان الجديد”، والفقرة 5.11: “إقامة تحالفات سياسية وعسكرية مع الحركات الثورية والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي تتفق مع رؤية السودان الجديد” (مشروع المانيفستو، نفس المصدر، مايو 2012، صفحة 32).
• وفي ردهما على قضايا الخلاف الثلاث، اعتبر الرئيس والأمين العام المقالين، بحد تعبيرهما، أن “الخط الذي طرحه عبد العزيز آدم الحلو، يحمل تراجعاً واضحاً عن مشروع السودان الجديد، تحت مبررات تبدو متشدِّدة، ولكن سرعان ما ستنكشف هشاشتها لاحقاً، وإن التوقيت الذي اختاره كان كارثياً”.
• أولاً، في نظرهما، فإن حق تقرير المصير لم يكن جزءاً من مشروع السودان الجديد “إلا في عام 1991م كمشروع للحفاظ على وجود القوميين الجنوبيين داخل الحركة”، بحسب قول رئيس الحركة (بيان، مالك عقار، 5 يونيو 2017). كما أن لحق تقرير المصير تداعيات وخيمة على سكان المنطقتين، إضافة إلى ما تصادفه من صعوبات سياسية وعملية وإجرائية على أرض الواقع، خاصة من ناحية التركيبة السكانية والحدود، مما قد يفضي إلى استقطاب إثني حاد في الإقليم. وفوق ذلك كله، فقضية الجنوب لا تتطابق وقائعها مع حيثيات المنطقتين، ومعطيات الواقع فيهما، إذ أنه من الصعب، إن لم يكن المستحيل، الحصول على السند المحلي أو الدعم الإقليمي والدولي اللازم. ولذلك، يؤيد الرئيس والأمين العام ” الحكم الذاتي، الذي يعطي أهل المنطقتين حق حكم أنفسهم بأنفسهم بمافي ذلك السلطات التشريعية في إطار سودان لا مركزي موحَّد، مع أخذ خصوصيات المنطقتين في الاعتبار ومعالجتها، وهذا لا يسقط حق المنطقتين في قضايا التغيير في كل السودان” (رسالة رئيس الحركة، الفريق مالك عقار، 5 يونيو 2017). إضافة إلى أن حق تقرير المصير قضية تحتاج إلى مناخ ديموقراطي ومناقشة واسعة داخل المنطقتين، وبذلك “موقفي والأمين العام، وكثير من قادة وأعضاء الحركة، أن نتمسك برؤية السودان الجديد ووحدة السودان على أسس جديدة، دون المراوحة والتأرجح بين حق تقرير المصير ووحدة السودان كما حدث في الماضي” (بيان الفريق مالك عقار، 9 يونيو 2017).
• ثانياً، فيما يخص قضية “الجيشين”، يرد رئيس الحركة (المقال) بأن نائب الرئيس، الفريق عبد العزيز، وقادة الحركة الآخرين، شارك في رسم خطط ومراجعة نتائج كل جولات التفاوض، ويدرك أن المفاوضات لم تبلغ بعد مرحلة مناقشة القضايا الموضوعية المتعلقة بجذور الحرب بما في ذلك الترتيبات الأمنية والسياسية في المنطقتين. بل، كل ما في الأمر، أنه خلال الجولة الأخيرة للمفاوضات، أغسطس 2016، حاول وفد الحكومة المناورة بالخلط بين وقف العدائيات والترتيبات الأمنية النهائية، فتقدم وفد الحركة بخمسة مبادئ رئيسة كإطار لأي تفاوض حول هذه الترتيبات. تضمن هذه المبادئ الاحتفاظ بالجيش الشعبي كجيش منفصل في فترة تنفيذ الاتفاقية، كمرحلة أولى، وسيكون جزءاً من الجيش السوداني الجديد الذي ستعاد هيكلته ومهنيته بعد أن يتم الفراغ من هذه العملية. ولو أنها “ستأخذ وقتاً طويلاً، وستتم عبر مراحل، فهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، التخلي عن الجيش الشعبي دون الوثوق من تحقيق أهدافه السياسية وبناء جيش وطني جديد يعكس مصالح جميع السودانيين بما فيهم أهل المنطقتين” (بيان رئيس الحركة، الفريق مالك عقار، 5 يونيو 2017).
• ثالثاً، خلافاً لتصوُّر الفريق عبد العزيز لطبيعة التحالفات السياسية للحركة، يتمسك رئيس الحركة وأمينها العام، المقالين، بالاستمرار في العمل المشترك مع قوى المعارضة للنظام الحاكم. فمن ضمن مقررات آخر اجتماع لـ “المجلس القيادي” (المنحل)، 1) تمتين التحالفات القائمة مع نداء السودان والجبهة الثورية وقوى المعارضة الأخرى الراغبة في التغيير، و2) دعوة القوى الوطنية والديمقراطية لإعلاء رايات التضامن مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (البيان الختامي، اجتماع المجلس القيادي، 3 أبريل 2017).
• اعترف القائدان، رئيس الحركة وأمينها العام، بمشروعية ما طرحه القائد عبد العزيز من مشكلات، في خطابه، تستحق المخاطبة وتستدعي المعالجة، وإبداء الاستعداد لمناقشتها معه، مع رفضهما للاستقالة (بيان رئيس الحركة، 18 مارس 2017). بل، وقاما بزيارة إلى المناطق المحررة، 25 مارس-3 أبريل، والتقيا القيادات السياسية والعسكرية والمدنية، في محاولة، لم يكتب لها النجاح، لإنقاذ الموقف ومعالجة الأزمة. ولذلك، في رد فعل فوري، قرر المجلس القيادي إلغاء كافة القرارات الصادرة عن مجلس تحرير إقليم جبال النوبة المتعلقة بالقضايا والمؤسسات القومية، وتكوين مجلس التحرير القومي لتولي مناقشة القضايا التي تهم الحركة على الصعيد القومي. وبذلك، أعلنا رفضهما لقرارات المجلس الإقليمي هذه، واللاحقة لها، وعن تمسكهما بالشرعية والمؤسسية الدستورية، وعلى رأسها المجلس القيادي. بينما وصفا الخطوة بـ”الانقلاب”، الذي يتبنى خطاً قبلياً وإثنياً، تقوم على هندسته “مجموعة ذات توجهات قبلية أدت إلى الاقتتال القبلي في النيل الأزرق، مما يهدم مبادئ وقيم الحركة الشعبية” (بيان المجلس القيادي، 3 أبريل 2717). وأصدرت مجموعة من قيادات للحركة بالولايات الشمالية بياناً تمسكت فيه بالقيادة الشرعية، معلنة رفضها للانقلاب، واعتبرت أن كل قرارات مجلس تحرير إقليم جبال النوبة باطلة. زاد تمسك رئيس الحركة وأمينها العام المقاتلين بموقفهما الرافض لهذه القرارات، خاصة في ظل ما طرأ لاحقاً من تطورات. فقد أصدر مجلس تحرير إقليم جبال النوبة قرارات مفصلية أخرى، في 6 يونيو 2017، على رأسها عزل رئيس الحركة، وتكليف الفريق عبد العزيز بالرئاسة إلى حين قيام المؤتمر العام، ومنعه هو والأمين العام المقال من دخول الأراضي المحررة إلى ذلك الحين، وأيضاً حل المجلس القيادي. بل، في بيان ووجه إلى كافة جماهير الحركة الشعبية، قبل الفريق عبد العزيز بالتكليف، ودعا رفيقي السلاح للحضور والمشاركة في أعمال المؤتمر العام المزمع والترشح إلى أي من المواقع الدستورية في الهيكل التنظيمي للحركة (بيان الفريق عبد العزيز الحلو، 9 يونيو 2717). لم يثن بيان رئيس الحركة السابق، في عشية انعقاد اجتماع مجلس التحرير، الذي أعلن فيه عن اقتراح لتجاوز الأزمة يقضي بتنحي القادة الثلاثة والاتفاق على قيادة مؤقتة توكل إليها مهمة الإعداد للمؤتمر العام، المجلس من المضي قدماً في إصدار هذه القرارات (بيان الفريق مالك عقار، 5 يونيو 2017).
• أما قرارات اجتماع القادة العسكريين والسياسيين والإدارات المدنية ومنظمات المجتمع المدني بإقليم جبال النوبة، في 7 يوليو 2017، فقد كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر وحدة قيادة الحركة وانقسمت على إثرها قواعدها الجماهيرية داخل وخارج البلاد. فقد شارك في الاجتماع عدد كبير من ضباط الجيش الشعبي، كما أنه أول تجمع حاشد يحضره ويخاطبه رئيس الحركة المكلف. وفرت قرارات القادة المشروعية للخطوات التي اتخذها مجلس تحرير إقليم جبال النوبة، بدعم من رصيفه في النيل الأزرق. فهكذا، أكد البيان الختامي للاجتماع أن المجلسين “”قد مارسا سلطاتهما في غياب المؤسسات القومية المعنية، وأن كافة القرارات التي صدرت من المجلسين دستورية ونافذة”. ومضى البيان شوطاً طويلاً ليوجه اتهاماً غليظاً للرئيس والأمين العام السابقين، مفاده أنهما قد عقدا، “صفقات سرية مع جهات معلومة بغرض التخلي عن حمل السلاح والجيش الشعبي لتحرير السودان، مما يعتبر خيانة للمشروع والرؤية والأهداف ودماء الشهداء”. انتهى الاجتماع بحفل بهي واحتفال بهيج عزفت خلاله الموسيقى و”دقت” المارشات العسكرية، مسدلاً الستار على آخر فصول للصراع المحتدم في أوساط قيادة الحركة، وبمثابة تدشين عمل السلطة الجديدة. وذلك، بتفويض “رئيس الحركة الشعبية والقائد العام للجيش الشعبي الفريق عبد العزيز آدم الحلو بتكوين مؤسسات انتقالية لتسيير العمل لحين قيام المؤتمر القومي الاستثنائي” (البيان الختامي للقيادات العسكرية والسياسية والمدنية، 7 يوليو 2017). وفي 8 أغسطس الماضي، في أول خطوة عملية نحو تنفيذ مهام هذا التفويض، وذلك بترقية عدد من ضباط الجيش الشعبي، وإجراء تغييرات في القيادة العسكرية، وإعادة المحالين للتقاعد والمفصولين من الحركة، وتكوين لجان وآليات الإعداد للمؤتمر الاستثنائي (لجنتي المانيفستو والدستور).
Type a message…