
رفعت الإدارة الأمريكية العقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة على السودان منذ عام 1997 مطلع أكتوبر المنصرم، وهي عقوبات فرضت بموجب الأمر التنفيذي رقم (13067) الذي أصدره الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، منع بموجبه أعضاء حكومة الخرطوم أمتلاك أي اصول في أمريكا، و حظر على الأفراد و الحكومة السودانية المعاملات التجارية (الاستيراد والتصدير) مع الولايات المتحدة علاوة على منع المواطنيين الأمريكيين من المشاركة في أي عمل يشمل ذلك النوع من المعاملات.
وبتاريخ الثلاثاء 31 اكتوبر2017م جدد الرئيس الامريكي دونالد ترامب، حالة الطوارئ الوطنية تجاه السودان وقضى القرار الأخير تمديد تجميد ممتلكات الأشخاص الذين يؤججون الصراع في دارفور، الذي تضمنه الامر التنفيذي 13400بتوقيع الرئيس بوش، ما يعني أن الحكومة السودانية امامها طريق طويل واستحقاقات متعدد حتى تخلي صحيفتها من العقوبات.
وبقراءة متانية للمسارات الخمس التي حددتها الأدارة الامريكية كمطلوبات لرفع العقوبات وهي, مكافحة الإرهاب، و وقف دعم جيش الرب اليوغندي، وتعليق العدائيات في( جبال النوبة، النيل الازرق ودارفور) بجانب وصول المساعدات الانسانية للمناطق المذكورة، ثم اخيراً وقف التدخل في شئون جنوب السودان أو بالاحرى وقف دعم المعارضة الجنوبية، يلاحظ الاتي :
اولا : العقوبات رفعت بالأساس للتعاون غير المشروط الذي بذلته الحكومة في شأن محاربة الإرهاب وربما يكون تصفية داعش، وإنحسارها الاخير جزء من ثمرات هذا التعاون، وبشهادة كثير من الأسلاميين الغاضبين على نظامهم فان النظام سلم الكثير من الملفات في هذا الشأن.
ثانياً: ساهمت في رفع العقوبات دول كثيرة من بينها دول الاتحاد الأوروبي على راسها (بريطانيا، المانيا وايطاليا) ودول الخليج وفي مقدمتها السعودية والامارات وحتى اسرائيل ويوغندا.
ثالثاً: لم تلعب القضايا الداخلية مثل حقوق الأنسان والسلام دورا محورياً في رفع العقوبات إذ أن الوضع الأمني لازال يراوح مكانه.
رابعاً بحسب تقرير مجموعة الأزمات الدولية فان العقوبات لم تفلح في عزل النظام حيث استطاع استعادة علاقاته مع الكثير من الدول من لدن يوغندا الى دول الخليج وانتهاءً بالاتحاد الأوروبي ودول أخرى محورية مثل بريطانيا.
الملاحظة الأخيرة، هي ضعف حضور المعارضة السودانية بشقيها المدني والمسلح في قضايا السودان على المستوى الإقليمي والدولي وبالطبع داخلياً.
الوضع الجديد جعل قضايا السودان رهينة للخارج بصورة كلية إذ اصبح النظام مثل السجين الذي وعد باطلاق سراحه إن ابدى حسن السير والسلوك ومن ثم فإن الحكومة ستجتهد لإثبات أنها تغيرت على عشم أن يرفع اسم البلاد من لائحة الدول الراعية للإرهاب وإعفاءها من عقوبات أخرى مثل التي يفرضها قانون سلام السودان وغيرها من الإمتيازات مثل إعفاء الديون، وبالمقابل تحتفظ الأدارةالامريكية بحق إعادة فرض العقوبات أو إختيار عقوبات أخرى ذكية، وهنا يجدر الأشارة إلى أن الأدارة الأمريكية إتبعت هذا الأسلوب مع النظام العسكري في بورما حيث أدى رفع العقوبات جزئياً الى تسريع العملية الديمقراطية بالبلاد والتي أدت في نهاية المطاف الى صعود الرئيسة (سان سو شي) الحائزة على جائزة نوبل للسلام إلى سدة الحكم.
الملاحظ في الوضع السوداني رغم سرية المعلومات حول مطلوبات ما بعد الرفع الجزئي للعقوبات بوضوح هو إن السلام في مناطق الحروب والانتخابات من المطلوبات الأساسية و قد رأينا كيف إن النظام لم يحاول عرقلة المؤتمر الاستثنائي للحركة الشعبية الذي عقد في أكتوبر الماضي باي عمل عسكرى أو نحوه، و يلاحظ أيضاً إسراع وزارة الداخلية السودانية في اصدار بطاقة شخصية جديدة وربطها بالانتخابات القادمة في نفس التوقيت.
الظروف الجديدة تخلق فرصة ذهبية للمعارضة عليها إستغلالها و إعادة إنتاج نفسها كبديل قوى للنظام لأن المناخ أشبه بالاوضاع التي خلقتها إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) لاسيما الدستور الانتقالي الذي كان محكم الصياغة ضمن الكثير من الحقوق التي كانت كفيلة بتغير الوضع كلياَ لو إختبرت المعارضة تلك الحقوق بالممارسة والضغط بدلاً عن اضاعة الوقت في نقدها للإتفاقية و الحركة الشعبية.
الاستفادة من هذا الواقع الجديد لتغير الوضع يجب ان تكون من أولويات اي معارضة رشيدة، خاصة و النظام يعاني ظروف بالغة الدقة والحساسية تتمثل في صراعاته الداخلية و محاولة تصفية مشروعه الايدلوجي بواسطة نصفه العسكري، تاسيساً على هذا الانتقال فان تواصل المعارضة مع جماهيرها يجب أن لايكون مكبلاً باي قيود بالأضافة الى الحق في التظاهر وغيره، مع الوضع في الاعتبار إن الفترة التي تسبق الانتخابات القادمة ليست كافية، والانتخابات ستكون مدعومة دولياً اذ ليس خافياً الادوار الكبيرة التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي لاستقرار الوضع في السودان و وقف تدفق اللاجئين الى البلدان الأوربية التي ضاق مواطنيها بالهجرة واللاجئين مما دفع الاتحاد الأوروبي للرهان على استقرار السودان كدولة مصدر ومعبرللاجئين في ذات الوقت.
إن الوصول إلى سلام مع المجموعات المسلحة قبل الانتخابات أمر متوقع، على خلفية إن القضايا السودانية تم رهنها للخارج، الامر الذي سيثبط جهود المعارضة في إسقاط النظام لجهة الضمانة الدولية ستتوافر للوضع الجديد بالإضافة إلى إن ذلك الوضوع المتوقع سيدفع بالنظام إلى مزيد من التماسك وتسوية خلافاته الداخلية أو على الأقل تاجيلها لتفكيك المجموعات التي تصل معه إلى سلام.
خلاصة القول إن رفع العقوبات جزئياً يوفر مناخ سياسي جديد يمكن استثماره بواسطة القوى السياسية لاحداث تغيير في السودان، وبتعبير أخر يفتح الباب لحل سياسي باعتباره الاساس للاستقرار وبدونه يصعب الاستفادة من رفع العقوبات أو أي انفراج في العلاقات الخارجية.