
إنصبت معظم القراءات و التحليلات للتصريحات التي ادلي بها الرئيس السوداني عمر حسن احمد البشير ، خلال احدي الفعاليات التي نظمها اتحاد الطلاب السودانيين في الاسبوع المنصرم ، وبخاصة الجزئية التي تناول فيها مجريات الاوضاع في جنوب السودان بعد استقلاله عن جمهورية السودان ، بعد اندلاع الحرب الكارثية في العام 2013 ، انصبت جلها حول ان الرئيس البشير يريد لقادة جنوب السودان المثول امام المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي لانهم الاولي بتلك الاتهامات وليس هو ، مشيرا الي ان الحرب التي شهدتها البلاد لم تحدث حتي في دولة رواندا نفسها ، وهي قراءات منطقية وحقيقية ، فكيف لشخص وجهت له اتهامات من قبل المحكمة الجنائية ويرفض الاعتراف بها ان يطالب بتقديم اشخاص اخرين للمحاكمة في ذات المحكمة التي ظل يتحداها خلال السنوات الماضية علي خلفية الانتهاكات التي حدثت في اقليم دارفور خلال الاعوام السابقة والتي ترتقي الي مرتبة جرائم الحرب ، لكنها ايضا ليست الحقيقة كلها فيما يتعلق بتوقيت التصريحات و الاوضاع السياسية التي خرجت فيها ومضمون الرسالة السياسية التي يريد البشير ارسالها لقادة جنوب السودان في الحكومة بجوبا ومجموعات المعارضة العديدة .
اولا بالنسبة لقضية المحكمة و الانتهاكات التي وقعت في جنوب السودان ، فهي قضية مرتبطة بلجان تحقيق دولية تابعة للامم المتحدة ، وقد شرعت فعلا في اجراء تحقيقاتها الاولية بخصوص الانتهاكات التي وقعت ولاتزال تقع الان في مناطق النزاع المسلح ضد المدنيين العزل من قتل واغتصاب و تعذيب ، هذا الي جانب العديد من التحقيقات التي تقوم بها منظمات دولية معنية باوضاع حقوق الانسان في جنوب السودان ، كما نشر الاتحاد الافريقي تقرير مفصل حول الاحداث التي شهدتها البلاد ، مثلما اوصت جميع تلك التقارير بضرورة تكوين محكمة هجين لمحاكمة جميع الاشخاص المتورطين في انتهاكات حقوق الانسان وجرائم الحرب التي وقعت بالبلاد ، لذلك فان تلك الجهود مجتمعة هي التي ستحدد الالية المطلوبة لمحاسبة المتورطين من اطراف النزاع في تلك الانتهاكات ، ولا يوجد شخص يستطيع الوقوف امام حركة العدالة و الاقتصاص للضحايا في اي مكان ، عليه فان وجد شخص مذنب بتهم تستحق المحاكمة دوليا في جنوب السودان فانه سيواجه ذلك دون مطالبة من اي شخص بما فيه الرئيس السوداني عمر البشير الذي يجب عليه ان يواجه تلك المحكمة اليوم قبل الغد ومعه كل شخص اقترف جرائم مماثلة اينما كان .
لكن من المهم ايضا ان ننظر لمحتوي تلك الرسالة السياسية للرئيس البشير ، والتي جاءت بعد زيارته للعاصمة اليوغندية كمبالا بهدف تعزيز موقفه السياسي في جنوب السودان ، من خلال البحث عن صيغة تجعله الاقرب من حيث النفوذ في اي تسوية جديدة محتملة في اطار المبادرة الاقليمية التي تهدف لاعادة احياء اتفاقية السلام .
لايستبعد ايضا ان تكون رسالة الرئيس البشير موجهة لاجتماع القاهرة الذي جاء بدعوة من السلطات المصرية لدعم المحاولات المبزولة لاعادة توحيد الحركة الشعبية وتحديدا مجموعتي (المعتقلين السابقين و الحكومة) ، وهو حدث جدير باثارة مخاوف الخرطوم في اطار التوتر السائد في العلاقات بينها والجانب المصري .
اخيرا : هناك مسالة مهمة وجديرة بالتساؤل وهي لماذا لم تقدم السلطات الحكومة في جنوب السودان في اعلي مستوياتها بمحاولة للرد علي تصريحات البشير الاخيرة ، ام ان الحكومة لاتزال تري ان زيارة الرئيس الاخيرة للخرطوم لم تفشل بعد عند عتبة المؤتمر الصحفي المشترك وتبادل الاتهامات قبل تلويحة الوداع من علي سلم الطائرة.