بعد أن أُعلن بالأمس التوصل لاتفاق تطبيع علاقات بين السودان وإسرائيل، ظهرت بعض الأصوات الرافضة وبشدّة لهذه الخطوة، وبالطبع أقواها كان تحالف قوى الإجماع الوطني، والذي يمثل أحد كُتل (الحريّة والتغيير)، وهو رفضٌ يرتكز على مبادئ وقيم وعقائد سائدة في أحزاب هذا التحالف وليست مواقف سياسية أو دبلوماسية، مايجعلنا نتساءل: “هل المشروعات السياسية المطروحة من قبل أحزابنا هدفها مصلحة ومستقبل الوطن والمواطن؟”.
قد تبدو الإجابة واضحة، طبعا من خلال موقف بعض الأحزاب من قضية التطبيع مع إسرائيل، أو من خلال الخلاف الواضح في التحالف الحاكم ولجنته الإقتصادية، حول السياسات الإقتصادية أو ما يسمى بروشتة البنك الدولي.
فالرفض للتطبيع أو لسياسات البنك الدولي لا يجيء من منطلق مصلحة السودان ومواطنه من عدمها، وإنما هو تمترس أعمى خلف عقيدة فكرية، يجعل من المستحيل رؤية أية خيارات أخرى ممكنة، وطبعاً لا يهُم إن تضرر المواطن من ذلك أو لم يتضرر، ذلك ديدن معظم الأحزاب السودانية منذ الإستقلال، تتعامل مع الشعب كحقل تجارب للأفكار والمشروعات السياسية التي تنوي تطبيقها، والتي تكون بعيدة كل البعد عن مصلحة المواطن المباشرة. فماذا استفاد المواطن السوداني من حرب الإسلاميين على أمريكا وروسيا، ومن رسالتهم السامية في نشر الإسلام في العالم وفي دعم الجماعات الإرهابية، وماهي نتائج ثلاثين عام في كنف مشروع الحركة الإسلامية الفكري وأشواق الترابي وأحلامه؟. وماذا استفاد الشعب السوداني من الوعي الذي ادعى عبدالخالق محجوب أنه قدمه لهم؟.
النتيجة هي أننا نجلس في وطن تمزّقه الحروب من كلّ جانب، ويقتله الفقر والمرض، ويحلم فيه المواطن بالأمن على حياته، وبالخبز الذي يسدّ جوعه، كلّ ذلك بسبب إغتراب النُخب السياسية عن واقعها وركضها خلف مشروعات إيدلوجية يمكن أن تُضحي في سبيلها بمصلحة الوطن نفسه، إذا ما تعارضت مع أفكارها وهو ما يفسر مسيرة الفشل الطويلة للدولة السودانية، والتي غابت عنها الممارسة الديمقراطية والعمل السياسي الراشد، لأنها افتقرت للمشروعات الفكرية والسياسية التي تهدُف لبناء مشروع دولة وطنية حديثة، وتاريخنا السياسي يقف شاهداً على ذلك. فالأحزاب السياسية عندما يضيق بها الحال عن ممارسة الديمقراطية ودربها الطويل والشاق، تلجأ للإنقلابات العسكرية بهدف الوصول للسلطة حتى تحشر الشعب في مشروعها الإيدلوجي؛ ليرزح تحته بالإكراه عقوداً حتى يخلصه حزب آخر بإنقلاب جديد، وصبغة إيدلوجية جديدة، وهكذا استمرت حياة السودانيين في هذه الدائرة المغلقة منذ بداية الحكم الوطني حتى ظنوا أنهم لن يخرجوا منها.
يجب أن تعلم أحزابنا السياسية أن ثورة الشعب السوداني لم تكن على نظام البشير فقط، وإنما هي ثورة على نمط الممارسة السياسية العقيمة، التي أوصلتنا لهذا الوضع المذري، ثورة على كلّ المشاريع الإيدلوجية التي لا تراعي مصلحة الوطن والمواطن. ويجب أن تعلم كذلك أن العمل السياسي الذي يرتكز على إيدلوجيات وعقائد أصبح من الماضي في عصرنا هذا، وأن الدولة الناجحة هي التي تستطيع أن توفر حياة كريمة لمواطنيها وتضمن مستقبل أفضل لأجيالها القادمة، فدور الأحزاب ليس إدخال الناس الجنة أو إخراجهم منها، أو ايّاً من الأهداف السامية العليا، وإنّما تقديم مشاريع سياسية واقعية حتى يختار المواطن الأنسب له والأفضل لمصلحته.