الخرطوم: عماد الدين حسن
شيع السودانيون الجمعة رئيس حزب الأمة القومي وزعيم الأنصار الإمام الصادق المهدي، الذى رحل الخميس متأثرًا بإصابته بفيروس كورونا في الإمارات العربية المتحدة، وبهذا يكون السودان فقد مفكرًا وسياسيًّا مُحنكًا، صاحب مواقف ثابتة في كثير من القضايا السياسية. رحل المهدي مخلَّفًا كثيرًا من التحديات التي تواجها البلاد وحزب الأمة معًا.
ولد الصادق الصديق المهدي في ديسمبرالعام (1935) في أم درمان وبدأت رحلته العلمية وكلية فيكتوريا بالإسكندرية في مصر، وجامعة أكسفورد ببريطانيا، فدرس الاقتصاد والسياسة والفلسفة، وتوزَّعت سنوات عمره التي فاقت الثمانين، بين سُدَّة الحكم وزنازين المعتقلات ومنافي الغربة.
وبعد وفاة والده الصديق المهدي العام (1961) تولَّى إمامة الأنصار وقيادة الجبهة القومية المتحدة، واُنتخب رئيسًا لوزراء السودان بين عامي (66) و(1967) وعامي (86) و(1989).
والراحل المقيم هو آخر رئيس وزراء منتخب، ورئيس منتدى الوسيطة، وترأس المهدي “قوى نداء السودان”، وهو تحالف للمعارضة يضم أحزابًا مدنية، وحركات مسلحة، ومنظمات مجتمع مدني.
ما وراء المعتقل
أُعتقل زعيم حزب الأمة مرات عديدة، خلال حقب ديكتاتورية مايو، وعقب انقلاب الإنقاذ، وهاجر سرًا العام (1996) إلى إريتريا، والتحق بالمعارضة السودانية هناك، ونفي إلى مصر والسعودية وعاد أواخر العام (2000) بعد توقيع اتفاق مصالحة مع النظام، سُمي “نداء الوطن” برعاية الجيبوتي إسماعيل عمر قيلي، الذي جمع بين المهدي وعمر البشير. وبعد عودته للنشاط السياسي الداخلي، وقَّع مع الحكومة اتفاق “برنامج التراضي الوطني”، الذي انهار لاحقًا .
واعتقل المهدي للمرة الأخيرة في (2014) بعد أن وجه انتقادات لحكومة البشير .
مؤلفاته
ألَّف المهدي، عددًا من الكتب منها “مستقبل الإسلام في السودان” و”الإسلام والنظام العالمي الجديد” و”السودان إلى أين؟” و”جهاد من أجل الاستقلال”، وغيرها.
يرى المحلل السياسي محي الدين محمد، أنَّ كتب الإمام ذات طابع فكري تأصيلي، تجنح لتحرير الخلاف من محمولات التباغض، إلى رحاب الجدل الخلاق الذي يفضي للتسامح كقيمة دينية وإنسانية ويوفر أرضية للالتقاء في رحاب الوطن، شُركاء في البناء لا معاول الهدم”.
يضيف لـ(الجماهير) “زعيم الأمة قارئ للشعر والأدب، كتب جُل مؤلفاته بين السجن والغربة، ما ينطبق عليه القول إنَّ السياسةُ حجبت مفكرًا وأديبًا.
رئاسة الحزب
صنع السودانيون ثورة أكتوبر، وانتُخب الصادق المهدي رئيسًا لحزب الأمة، واستمر في المنصب حتى وفاته.
مواقف متباينة
تثير مواقف المهدي جدلاً واسعً وأراء متباينة، فقد انتظر الشعب مؤازته بداية احتجاجات ثورة ديسمبر في خطابه الشهير أمام أنصاره في ودنوباوي، عقب عودته من القاهرة، وتفاجأ الجميع بحديثه عن خطورة “الاحتباس الحراري”. ووصف الاحتجاجات في مؤتمر صحفي بـ(دخان المرقة). وبعد استمرار وقرب سقوط النظام، قال أنها (وجع ولادة).
ويعتبر تجميد نشاط حزب الأمة القومي داخل قوى الحرية والتغيير، الإئتلاف الحاكم في السودان وطرح الحزب العقد الإجتماعي، من المواقف التي أحدثت شرخًا في جسد التحالف الحاكم ،مما أثر سلبًا على أداء التحالف كحاضنة سياسية للحكومة الانتقالية .
لكن الحزب عاد وأعلن مشاركته في الحكومة الانتقالية إلا أنه انتقد تعين الولاة، قبل إجازة قانون الحكم المحلي، وقرر سحب الولاة المشاركين بأسمه في الحكومة.
خاطبه وقتها المفكر د. حيدر إبراهيم علي، “التاريخ لا يعيد نفسه أيها الإمام”.
كانت وما زالت دعوة المهدي الى تحالف سياسي وطني يقوده حزبه ويضم العسكر تراوح مكانها وبرحيله يحتاج حزب الأمة قياديًّا محنكًا للاستمرار في طرح مثل هذه المبادرات .
حالة عبقرية
يقول رئيس حزب الأمة الفيدرالي، أحمد بابكر نهار، لـ(الجماهير) إن المهدي يمثل حالة عبقرية سودانية فذَّة ومدرسة متفردة في قضايا الفكر والسياسية وقدَّم إسهاماتٍ فكرية وسياسية ثرَّة، وأجتهد في تنقية مالحق بالفكر الإسلامي من شوائب، ويُعدُّ من كتاب الصحوة الإسلامية الذين دعوا لإعمال العقل. ووصفه بالسياسي الذي يتسم بالمرونة والحنكة .
المعارضة الناعمة
واعتبر الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي عبد الوهاب أحمد سعد، الراحل الصادق المهدي، أحد الزعامات السودانية، وسياسيَّا مخضرمًا، عُرف بالمعارضة الناعمة والمعارضة المسلحة في يوليو (76)، فيما عرف بغزو المرتزقة.
يضيف، “ويمثل ثقله الشخصي صمام أمان وحدة الحزب ومحور التسامح الحزبى فى السودان، وهو داعية توافق وسلام”.

رفض التطبيع
تمثل مسألة علمانية الدولة والتطبيع مع إسرائيل بالنسبة للمهدي خطوطًا حمراء، وأعلن أنَّه ضد دعوة السودان الجديد التى تتبناها الحركة الشعبية قطاع الشمال، “لأنها تقوم على علمانية تطرد الدين، وأفريقانية تطرد العرب، وهو الأمر الذى سيؤدى إلى حرب أهلية وانقسام بين السودانيين”. وأكَّد أنَّه يعرف دعاة السودان الجديد جيدًا: “يريدون سودانًا ينفي العروبة والإسلام، وهو ما اسميناه السودان النقيض وليس الجديد، أما التطبيع مع إسرائيل فإنه، “يناقض المصلحة الوطنية العليا، والموقف الشعبي”. وانسحب من المشاركة في مؤتمر لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف بالعاصمة الخرطوم، احتجاجا على التطبيع مع إسرائيل.
مزيج متفرد
يعود المحلل السياسي محي الدين محمد، لتعديد مآثر المهدي، “انه مزيج متفرد للصوفي الذي صقلته المدنية والحضارة؛ من جهة، هو سليل الطائفة، ومن جهة أخرى يحمل فكرة الديمقراطية، لذا تجده في مقدمة المدافعين عن النهج الديمقراطي، ويتشابه مع غريمه المرحوم محمد احمد المحجوب، صاحب الديمقراطية في الميزان، بالقول، إنَّ معالجة مشكلة الديمقراطية في السودان لا يكون إلَّا بمزيد من الديمقراطية.
ويصف محي الدين، حياة الإمام بالمصادِمة والقتال باللسان تارة وبالسنان أخرى، “لكنه كان دائمًا ميالًا للسلم متى بانت بشائره، فقد بادر للصلح وابتدار المصالحة الوطنية العام 1977 بلقائه مع المرحوم جعفر نميري في بورتسودان”. “ثم هو من قاتل الإنقاذ حين اقتلعت حكمه في الديمقراطية الثالثة وصالحها بعد ذلك ليخفف عن الوطن والمواطن وعثاء السفر في درب الحروب”.
وتابع، الإمام كان عفيفًا لم تمس سمعته إلّا أقاويل المغرضين ولم تُتهم ذمته المالية إلَّا وشايات الواشين، وكان يقبل كل ذلك الكيد بتسامح عجيب مع قدرة على مقارعة الحجة بالحجة وتلك لعمرك صفات العظماء؛ ولا شك أن سيرة الرجل هي مثال العظمة في أبلغ تجلياتها وانصع تمثلاتها.
فجوة كبيرة
ويقول القيادي الإسلامي غازي صلاح الدين العتباني، رئيس حركة الإصلاح الآن، إن وفاة الإمام الصادق المهدي، أحدثت فجوة كبيرة في السياسة السودانية ليس من السهل تقدير أبعادها ولا آثارها القريبة والبعيدة. الراحل كان يمثل خبرة عملية امتدت من ستينات القرن الماضي إلى ساعة وفاته، وكانت معظم مواقفه تمثل الوسطية والاعتدال. امتدت مساهماته إلى خارج السودان فكانت له صلات واسعة في المنطقة العربية والإسلامية، كما أنه كان من المؤمنين بقضية حوار الحضارات وله مساهمات كبيرة فيها. لم يكن سياسيًا بالمعنى التقليدي، كانت له بالإضافة إلى السياسة اسهامات فكرية عن طريق المدونات والكتابات والمحاضرات داخل السودان وخارجه.
