إن إقرار مبدأ الحل السياسي الشامل للأزمة السودانية التاريخية والمعاصرة، هو المدخل الصحيح والوحيد الذي يمكِّننا من إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا البلد، يليه إعادة بناء وتأسيس مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وتأتي القوات المسلحة -رأس الأفعى- في مقدمة المؤسسات التي يجب إعادة بنائها وتأسيسها من جديد.
يصادف اليوم مرور عام على حرب الخامس عشر من أبريل، حرب تحالفات الدولة القديمة من جهة، وحرب الدفاع الواجب والمقدس عن النفس التي قادتها قوات الدعم السريع من جهة أخرى، عقب التربص والهجوم الغادر الذي تعرضت له من قبل ما يسمى مجازًا بالجيش السوداني، وحلفائه من كتائب الإسلاميين الراديكاليين. وذلك في محاولة بائسة ويائسة منهم للعودة إلى العهد القديم. ذلك العهد الذي أنهته ثورة ديسمبر المجيدة، وأنهته قوات الدعم السريع بصمودها الملحمي والأسطوري الحاسم في ميدان القتال. إضافة إلى موقفها المعلن والمنحاز للثورة ودولة العدالة والتحول المدني الديمقراطي.
رغم ما صاحب هذه الحرب من انتهاكات وتعديات واسعة على المدنيين بكل أسف، شأنها شأن كل الحروب، سيما تلك التي خاضها ولا يزال يخوضها ما يعرف بالجيش السوداني، المتخصص في قتل وإبادة السودانيين، منذ ثورة توريت 1955م، إلا أن هذا لا ينفي عدالة ومشروعية موقف الدعم السريع من الحرب نفسها. ولو كنت مكان القائد الفريق أول “محمد حمدان” لاتخذت ذات القرار، قرار القتال حتى آخر قطرة دم، دفاعًا عن النفس، وردًا للعدوان الغاشم وغير المبرر من قبل الجيش. فحرب أبريل بقدر ما هي خسارة فادحة لعنصرنا البشري من الطرفين، وبالتحديد قوة شبابية منظمة ومقاتلة من طراز رفيع -الدعم السريع- التي كان بالإمكان الاستفادة منها، وتوظيفها التوظيف الصحيح، لمصلحة البلاد وأمنها القومي، إلا أنها تشكل في وجه آخر من أوجهها، ملحمة بطولية أسطورية، سطرها هؤلاء الفتية الأشاوس، الذين وجدوا أنفسهم، دون سابق إنذار وسط عاصفة من الحمم والنيران والبراميل المتفجرة صباح يوم الفجيعة، قابلوه بثبات ملحمي استثنائي، في تجسيد عملي لمقولة نيتشة “ما لا يقتلك يجعلك أقوى”.
مساء السابع عشر من شهر رمضان الذي غادرنا قبل أيام، التقيت بالعاصمة الرياض، صديق عزيز وضابط رفيع يتبع للقوات المسلحة السودانية الملتحقة بعاصفة الحزم، تحدث بأسى نبيل عن هذه الحرب وعن تقديرات قيادته الخاطئة، بالتخلص من قوة بهذا الحجم والنوع، دون التفكير في عواقب هذا الفعل، أو إمكانية الاستفادة منها لمصلحة الوطن، تحدث الرجل بقناعة راسخة عن عدم مشروعية حرب القوات المسلحة الدائرة الآن، بالاضافة إلى عدم أهلية القيادة الحالية التي وصفها بالفشل والتآمر. وبالطبع هذا هو رأي غالبية ضباط الجيش الوطنيين من الذين لم تصيبهم لوثة العِرق أو الجهة أو الأيديولوجيا.
لقد رأى وتابع السودانيين في كل مكان، وبأم أعينهم، مثلما رأى العالم أجمع، التعبئة للحرب والإعداد لها منذ وقتٍ بعيد، ويعرفون جيدًا من فعل ذلك، ومن له مصلحة مباشرة في إشعالها، بحيث لم تنجح الآلة الإعلامية الضخمة التي وظفتها العصابة لطمس الحقيقة البائنة. وقد فشلت كل التدابير والمساعي الحميدة لاحتواء التصعيد، الذي بدأه قادة الجيش، لأنهم -أي القادة- وحلفائهم قد حسموا أمرهم في الذهاب إلى هذه الحرب، وبشكل صفري، وكل ما كانوا يفلعونه مع الوسطاء؛ هو شراء للوقت، من أجل ساعة صفر حددوها مسبقًا، بفرضيات غبية وحالمة، أثبتت الأيام فشلها، وهو بالأساس فشل هؤلاء القادة.
ما كان لحرب الخامس عشر من أبريل -حرب الرِّدة- أن تندلع لولا أن هناك من صوّرت له نفسه عبر التاريخ، بأنه الوصي الأوحد على السودانيين، وأن كل من وما يتعارض مع تصوراته الرديئة الخاصة، لشكل الدولة ونظام الحكم فيها وشاغلي السلطة، يجب أن يفنى ويزول. إن هذه العقلية النرجسية والأنانية، التي لا تعترف بالآخر، ولا بحقوقه، إلا من خلال ما تراه وتقرره هي من حقوق؛ هي من قادت السودان إلى ما هو عليه الآن. ولوضع حد نهائي للحروب في هذا البلد، يحب أن تفنى وتزول هذه العقلية للأبد، وهي المهمة السامية التي اضطلع بها فتية الدعم السريع، نيابة عن كل الحالمين والعاملين من أجل وطن يحتمل الجميع ويسعهم.
وقعت الحرب التي خُطِط لها أن تستمر لأيام معدودة، حتى تعود السلطة خالصة لوجه البرهان وجيشه وحلفائه، لكنها أكملت اليوم عامها الأول، في سيناريو لم يكن أسوأ المتشائمين في معسكر الجيش يتوقعه، مصحوب بهزائم متتالية ومستمرة، مُنيت بها القوات المسلحة بشكل درامي مأساوي. وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه وقطعًا سيستمر، فإن فناءه مسألة وقت ليس أكثر، حتى أصبح السؤال الذي يبتدر به السودانيون جلساتهم: هل هذا هو الجيش الذي أذاق شعبه كل صنوف العذاب؟ وقال لهم لا أريكم إلا ما أرى، الجيش الذي يأخذ ثلاثة أرباع ميزانية الدولة، على حساب صحة وتعليم ورفاهية شعبه؟ بالتأكيد هذا هو وهذه حقيقته، وما كنا نراه من قبل ما هو إلا جبروت وتسلط ضد المدنيين العزل.
لقد أحدثت هذه الحرب المشحونة بالعواطف واللامنطق، شرخًا وانقسامًا غير مسبوقين وسط المجتمع. وفي ذات الوقت فتحت معها الأبواب واسعة أمام الأسئلة الصعبة والمُلِّحة، التي لطالما قفزنا فوقها، بصورة حالمة أحياناً، ومخادعة وماكرة أحياناً أخرى. وهو ما يجب عدم السماح بتكراره هذه المرة. إن إقرار مبدأ الحل السياسي الشامل للأزمة السودانية التاريخية والمعاصرة، هو المدخل الصحيح والوحيد الذي يمكِّننا من إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا البلد، يليه إعادة بناء وتأسيس مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وتأتي القوات المسلحة -رأس الأفعى- في مقدمة المؤسسات التي يجب إعادة بنائها وتأسيسها من جديد، لتستوعب كل المتغيرات التي فرضتها حرب أبريل، ولتصبح فعلًا قوات الشعب المسلحة، بدلاً عن إمبراطورية المال والنفوذ السابقة، المسخ الذي اعتاد على قتل السودانيين ونهب ثرواتهم.
لقد اختصرت هذه الحرب -سيما انتصارات الدعم السريع وسحقه المستمر لجيش الدولة والعهد القديمين؛ الباب واسعاً أمام السودانيين، لحسم أمهات القضايا التي أعاقت بناء الدولة، والتي تعمدت النخبة والصفوة المدنية والعسكرية المتحكمة في القرار السياسي تاريخيًا، غض الطرف عنها. فعلى غير كل فترات الحكم الوطني الممتد، وأكثر من أي وقتٍ مضى، أصبح اليوم نقاش هذه القضايا، وفي فضاء حر وغير مقيد أمرًا ممكنًا ومتاحًا، إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية، التي ينبغي أن يكون السودانيون قد اكتسبوها خلال عام كامل من المعاناة والحرب الضروس، لنتفرغ بعدها لبناء دولة جديدة، عادلة، آمنة وديمقراطية.