
تقرأ هذه المقالة دلالات النهوض الجماهيري الراهن من زاويتن: الأولى هي عمق هذا الحراك ،وقوته ،والمدى الذي سيصله في تغيير موازين القوى السياسية بين النظام والقوى المعارضة له والممثلة للشعب، في الأفق القريب، و ذلك استنادا على محركات هذا النهوض ومحفزاته المتمثلة في النتائج الكارثية غير المسبوقة للقرارات الاقتصادية الاخيرة، ولماذا هي قشة قاصمة لظهر بعير الانقاذ.
الزاوية الثانية هي حول الدور المطلوب أن تلعبه المعارضة المنظمة في أحزاب وتنظيمات سياسية وهي تشهد ثمار التراكم النضالي الجماهيري المتصاعد من مراحله الأولى البطيئة، وكيف يجب أن تتعاطي معه بمتابعته ودعمه وتشجيعه بالانخراط الايجابي في فعالياته ومن ثم قيادته وتوجيهه نحو أهدافه النهائية المتمثلة في اسقاط النظام وتأمين بديله الديمقراطي.
أولا:
لقد ظلت الأوضاع السياسية محتقنة طيلة الشهور الماضية، وظل هناك سخط جماهيري متصاعد عبر عن نفسه بطرق مختلفة. أبرز تلك التعبيرات كانت إضراب الأطباء القوي المنظم واعتصام سكان الجريف الصلب، وحراك المعلمين النشط ، و احتجاجات طلابية وفئوية وشعبية أخري في عدة ولايات. كل ذلك كان على خلفية الظروف المعيشية بالغة القسوة وغير المحتملة للمواطنين قبل الاجراءات الاقتصادية الأخيرة.
الان دفعت الاجراءات الاقتصادية الجديدة الأوضاع المعيشية الى نقطة أسوأ مما كانت عليه من قبل ولدرجة لا يمكن أن يتحملها الشعب. نقطة هي الفناء نفسه، فالشعب امام حالة لا مفر منها الا بالانفجار. ومن الواضح جدا ان نهوضا جماهيريا واسعا، مغيرا لتوازن القوى السياسية على الأبواب.
ستكون أبرز سمات هذا النهوض هي تزامن المعارك الجماهيرية اليومية وتلاحمها على نطاق واسع جغرافيا و مهنيا و فئويا، والاتساع التدريجي المستمر وغير المتراجع، وهو بعد كان مفتقدا في الماضي ولسنوات طويلة. لقد انتظمت الشعب ارادة قوية في المقاومة ورغبة صميمة في التغيير شملت حتى الأقسام التي كانت حتى الأمس القريب غير مبالية أو لديها هامش وقدرة على تحمل الضغوط الاقتصادية، بل وحتى المجموعات الانصرافية في الانترنيت أبدت درجات من الوعي والانخراض في مسيرة الغضب والسخط العام.
لقد وصلت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ذروتها التي لا تجدي معها أي مسكنات مؤقتة، فالنظام ليس لديه أي هامش للمناورة والاحتيال، لقد كانت الخيارات امامه هي: إما فرض هذه السياسات ومواجهة إحتمال سقوطه بإنتفاضة كما هو الحال الآن، أو عدم فرضها ومواجهة حتمية سقوطه بالافلاس والتفسخ. ولأن هذه السياسات ذات طابع عام، ووقعت آثارها على كل فئات المواطنين و في وقت واحد، فقد لعبت دورا موحدا لمشاعر الغضب عندهم وفتحت الباب أمام تحركات متزامنة ومتلاحمة.
ستكون التحركات الجماهيرية الراهنة وفي مقبل الاسابيع قوية وعميقة ومستمرة، وستنتظم تدريجيا لتصب في طوفان جارف. لماذا، لان القرارات الاقتصادية الأخيرة خلقت وضعا نموذجيا نادر الحدوث في الواقع، وانما هو وضع مثالي في تنظير وعلم الثورة ،وهو أن تتساوى لدى الناس نتائج الخيارات: خيار المواجهة وخيار عدم المواجهة، وهو الموت في الحالتين.
لقد أفلس النظام تماما من كل الحجج السياسية و الايدلوجية التي كانت تشوش علي أقسام من المواطنين وتدفعهم الى تأييده أو الى اتخاذ موقف الحياد ، ويقف الآن مجردا الا من قوة البطش والتنكيل، الا من العنف المجرد من كل غطاء. وفي المقابل يقف الشعب أمام خيارين: المواجهة الحاسمة ودفع ثمنها من أجل التغيير، أو مواجهة الفناء، وما من شعب –عبر التاريخ- حسب ما نعلم اختار الفناء دون المواجهة، دع عنك الشعب السوداني.
ثانيا:
يأتي هذا الظرف الثوري المواتي للمقاومة الشعبية في وقت تعاني فيه المعارضة السودانية المنظمة في احزاب وتنظيمات من خلل كبير، هو انقسامها وتشتتها. فرغم المواقف السياسية الصلبة الداعية الى المقاومة واسقاط النظام عبر الانتفاضة والتي أعلنت عنها قيادات الاحزاب وعلى رأسها الحزب الشيوعي، حزب المؤتمر السوداني، حركة حق، والجبهة العريضة، وعدد مقدر من الاحزاب، الا أن المعارضة ظلت تفتقد المركز الموحد سياسيا وتنظيميا. بل وكانت حتي عشية إعلان هذه السياسات من قبل النظام تتوزع على منبرين: قوى الاجماع وقوى نداء السودان يفصل بينهما تكتيك المقاومة ووضعه في جدول الاولويات. فبينما تبنت قوى الاجماع الوطني خيار الانتفاضة لاسقاط النظام، تبنت قوى نداء السودان خارطة الطريق الى تفكيك النظام عبر التفاوض. واتسعت الهوة بين المجموعتين دون سعي مؤسسي لتقريب الشقة بين المجموعتين. يظهر هذا الخلل في الموقف والحراك الذي قام به حزب المؤتمر السوداني منفردا. ففي حين كان الحزب من مجموعة التفكيك عبر الحوار، ويتبني الانتفاضة كخيار ثاني في الاولويات، الا أنه عدل أولوياته ونزل الى الشارع بقوة متبنيا خيار الانتفاضة كأولوية. أيضا أعلنت الحركة الشعبية وهي من قوى نداء السودان ،دعمها لخيار الانتفاضة واستعدادها للتنسيق مع القوى الأخرى. لسنا هنا في معرض مناقشة صحة أو عدم صحة اندفاع حزب المؤتمر منفردا في المواجهة وتحمل الاعتقالات، وانما في معرض الاشارة الى أن الخلاف بين مجموعتي المعارضة كان يمكن أن يدار باتفاق سياسي يراعي ويحترم اختلاف التكتيكات في أوقات الهدوء الجماهيري طالما كان التحول الى التكتيك الآخر واردا عند الحزب المعين بحسب التغيير في المناخ السياسي. هذا مجرد مثال على الحالة المهلهلة للمعارضة السودانية.
صحيح تماما القول أن طرح تكتيك التفاوض والحوار مع النظام في أوقات النهوض الجماهيري، وفي خضم المعارك الثورية يعتبر عملا مضادا ومعرقلا، ويتوجب الانتباه للقوى التي تفعل ذلك والحذر منها، لكن ما حدث هو أن قوى نداء السودان طرحت هذا التكتيك في وقت ومناخ سياسي مختلف. الآن معظم هذه القوى مع مشروع وأجندة الانتفاضة، فهل هناك استعداد للعمل المشترك بين المجموعتين وفق هذه الأجندة؟
ما العمل للمرة العاشرة:
إن الواجب المقدم على كل واجب الآن أمام المعارضة المنظمة هو الارتفاع الى مسؤلية اللحظة التاريخية الراهنة. هذه المسؤلية تقتضي أول ما تقتضي البحث في كيف يمكن بناء أوسع الجبهات لمقاومة النظام بهدف اسقاطه. هذا الأمر أعلنت عنه قوى كثيرة ولكن لم يتحرك في سبيل انجازه أحد. يتوجب على القيادات السياسية أن تكثف اتصالاتها ببعضها وأن تتشاور وتتجاوز كل خلاف ثانوي. الجماهير ليست في حاجة كبيرة للبيانات التي توضح المواقف السياسية للأحزاب، ولكن في حاجة الى المبادرات التي تنظم أعمال المقاومة اليومية عبر جسم سياسي منظم و ذي قدرات ،وليس من سبيل الى ذلك سوى بالعمل المشترك بين أحزاب المعارضة. أن مد الحركة الجماهيرية المتصاعد الآن لن يتوقف كما ذكرنا ولكن تخلف القوى السياسية المنظمة عنه سيضر به. أحد أوجه التخلف عن الحركة الجماهيرية هو إعتماد كل حزب على تعبئة فروعه وكوادره على حدة وبعيدا عن القوى الأخرى ودون تنسيق معها. لقد أعلنت قيادات الاحزاب منفردة عبر بيانات وتصريحات مواقف جد مسؤلة وايجابية لا ينقصها سوى الاستعداد والانخراط في عمل مشترك يقود الى بناء المركز الموحد للمعارضة.
ختاما:
صحيح أن النظام لابد وقد اعد خططا امنية لمواجهة النهوض الجماهيري المتوقع، وقد عبر رئيس النظام بكل صلف عن هذا الأمر حين قال هذه الاجراءات لها ثمن سياسي و أنهم مستعدون لدفعه، وهو يقصد بكل بساطة أن الشعب سيهب مقاوما وأن النظام سيستخدم العنف والقمع. لكن ماذا تفعل قوة البطش امام طوفان الشعوب المنظمة؟
النظام يعلن أنه قد أعد العدة لمواجهة الشعب بالخيار الوحيد المتبقي لديه: العنف و الرصاص، جهاز الأمن والدعم السريع. فهل لدى قيادات المعارضة ما تقدمه من مبادرات تنظم بها نفسها في مركز واحد ثم تحشد القوى و تنظمها وتطلقها بكثافة في مواجهة قوات النظام بما يبطل مفعول العنف ويصادر تفوقه، فلا تتكلف الحركة الجماهيرية خسائر كبيرة كما حدث في الماضي؟
وقل إعملوا فسيرى الشعب عملكم، وسيحكم التاريخ لكم أو عليكم (مقولة للقائد هاشم علي محسن)