رأي

النور حمد يكتب: الكيزان ووهم الانتصار بالأكاذيب

لم يعرف تاريخ الحكم في السودان حكامًا أسسوا حكمهم على بث الأكاذيب وإغراق الناس في تلافيفها كما فعل الإخوان المسلمون. وما أكثر ما ردد السودانيون ما قاله الدكتور حسن الترابي، عرَّاب كل هذا الخراب العظيم، لقائد انقلابه الذي اختاره ليطيح به النظام الديمقراطي: “إذهب إلى القصر رئيسًا وسأذهب إلى السجن حبيسًا”. كانت تلك أولى الأكاذيب التمويهية لهذه الحقبة الكئيبة المظلمة التي أوصلت البلاد إلى هذه الكارثة منعدمة الشبيه التي نعيشها الآن. منذ تلك اللحظة، توالت الأكاذيب والتمويهات إلى يومنا هذا. والمدهش أن كل هذا المسلك الإجرامي الممتد تجري نسبته زورًا وبهتانًا عظيمًا لإرادة السماء. وقد كان من المستغرب جدًا زعم الدكتور الترابي، لاحقًا، أنه لم يكن يعرف العميد عمر حسن أحمد البشير، قائد، انقلابه، إلا قبل يومٍ واحدٍ من تنفيذه الانقلاب. تلك كانت ضربة البداية لفترة حكمٍ كارثيٍّ لنظامٍ بالغ البشاعة، بالغ السوء، مفارقٌ لأبسط قواعد الأخلاق، جرى تأسيسه، منذ اللحظة الأولى، على التمويه والخداع ونشر الأكاذيب، وتبرير كل صور الاستبداد والظلم والقهر. واستمر هذا النظام الشيطاني يمارس، وبلا ونى، بث الأكاذيب وارتداء مسوح التمويه والإسراف في تضليل الرأي العام، إلى أن انتهى به الحال جثَّةً ضخمةً نتنةً، خرافية الأبعاد، لأكبر أكذوبةٍ في تاريخ السودان السياسي.

من المأساة إلى المهزلة

تقول عبارةٌ منسوبةٌ إلى كارل ماركس: “يعيدُ التاريخُ نفسه؛ فى المرة الأولى كمأساةٍ، ثم يعيدها فى المرة الثانية كمهزلة”. ويبدو أننا أكملنا مرحلة المأساة وولجنا مرحلة المآسي الممزوجة بالمهازل. أضاعت علينا، مرحلة المأساة، نحن السودانيين، ثلاثين عامًا حسومًا، جعلنا فيها الإخوان المسلمون ورئيس جمهوريتهم المزعوم، فارغ العقل، ميت القلب، منطفئ الروح، المسمى عمر البشير، أضحوكةً بين شعوب الأرض. وكلنا نذكر كيف أنه أُجلس وهو ضيفٌ رسميٌّ لدى دولةٍ شقيقةٍ مع صبي. كما نذكر كيف هرب من عاصمةٍ إفريقيةٍ خوف التسليم إلى المحكمة الجنائية الدولية. وكيف جاءته طائرةٌ خاصةٌ محمَّلةً بـ 25 مليون دولاراً، فأخذ ذلك المال إلى بيته. كما نذكر كيف جلس مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتن طالبًا الحماية من بأس الأمريكان.

لقد بدأت مرحلة المأساة المختلطة بالمهزلة حين خلق ذلك الرجل الذي قلَّد نفسه رتبة المشير، عبر منظومة الفساد المؤسسي التي رعاها لخدمة الأغراض الشخصية للذين التفوا حوله. لقد أحب الرجل أولئك الذين تحلقوا حوله وطبَّلوا له لقرابة الثلاثة عقود. فخلق لهم من أموال الشعب أوضاعًا اقتصادية مريحة، على التفاوت بينهم. فقاموا هم من جانبهم بنصب المنصات ومكبرات الصوت في الميادين العامة للقاءاته الجماهيرية الزائفة التي كانوا يعدونها له تباعا. فتفننوا في حشد الرجرجة والدهماء للقاءاته الفارغة تلك، بإغراءات لا تتعدى بضعةً من جنيهاتٍ مع ساندويتش بائسٍ وزجاجة من مشروب الكولا أو من رصيفاتها. لكي يأتي هو ليرغي ويزبد بحديثٍ لا معنى له، مندفعًا في الهياج والصياح حتى تنشرخ حباله الصوتية. ثم يختم تلك المهزلة المعتادة على مسرح التفاهة الذي أعدوه له، برقصةٍ بعصا المارشالية، على أنغام قيقم الحماسية.

نحن وأمم الجوار

في هذه السنوات الثلاثين الكالحة التي أغرقنا فيها الإخوان المسلمون في بحر أكاذيبهم اللجي، كانت الأمم الإفريقية المحيطة بنا منخرطةً في بناء الدولة الوطنية لمرحلة ما بعد الاستعمار وقطعوا في ذلك شوطًا عظيما. هذا حين كان إخوان الشياطين وقائد انقلابهم الذي قوضوا به النظام الديمقراطي غارقين في سرقة المال العام والتغطية عليه بالأكاذيب وصرف الشعب عن المراقبة بالتفاهات من برامج غنائية وخلق نجوم معبودة من مغنين بلا مواهب ولا إدراك لوظيفة الفن وبمنافسات رياضية في أبأس استادات كرة القدم على وجه الأرض. وهكذا سدر هؤلاء الضالون المضلون في غيهم حتى قامت قيامتهم على أيدي فئةٌ من شباب البلاد الأنقياء الأتقياء الشرفاء، من أولي العزم والهمة العالية، وقلبوا الطاولة على غثاثاتهم وتفاهاتهم. لكن، لأنهم يفتقرون إلى النبل والانصاف، فقد ألقت بهم الهزيمة في مستنقع الإنكار والاستكبار. ورمتهم في نيران الحقد والكراهية ونزعات الثأر السقيمة. فشرعوا منذ انتصار الثورة في مرحلتها الأولى في إعداد صنوف الكيد من مراوغاتٍ وخلط للأوراق وبلبلة للرأي العام. مستخدمين في كل ذلك آلتهم الإعلامية التي صنعوها على قرار الآلات الإعلامية الفاشية. فطفقت تبث الأكاذيب وتثير الفتن وتشق الصفوف وتبلبل الرأي العام وتغطي كل حقيقةٍ واضحةٍ ناصعةٍ بأغطيةٍ كثيفةٍ من الأكاذيب.

حبل الأكاذيب القصير

مارس الإخوان المسلمون عبر تاريخهم السياسي الكذب والتمويه والخداع، وهذه واحدةٌ من أهم صفات معتنقي الأيديولوجيات الدينية المنحرفة. فهم لا يتورعون من فعل شيءٍ مطلقًا يرون أنه يخدم أغراضهم. وبدلاً من أن يروا عظمة شعبهم كما رأى ذلك العالم بأجمعه، فيخلون الطريق له لكي يحقق مطالبه العادلة في الحرية والديمقراطية والتنمية اتجهوا إلى الإيغال في رذائل الكذب والتمويه والخداع إيغالاً مهلكًا. مكبين بوجوههم في حفرة الغي المفضي بأهله إلى النار. قالوا: لن نفض اعتصام الشباب أمام القيادة العامة، ثم ما لبثوا أن قاموا بفضه بأكثر الأساليب وحشيةً ووضاعةً ونذالةً وخسةً وقلة مروءة. ثم وقَّعوا على الوثيقة الدستورية، لكن، ما لبثوا أن احتالوا عليها مختلف الحيل، قبل أن ينقلبوا عليها، هي الأخرى. ثم لمَّا لم يُجد كل ذلك، ولم يقدم الأمور خطوةً واحدةً إلى الأمام، وعندما خرجت قوات الدعم السريع عن طوعهم ووقفت إلى جانب الاتفاق الإطاري، لجأوا إلى استخدام أقصى وأقسى صنوف الكيد، فأشعلوا هذه الحرب اللعينة التي أحرقت الأخضر واليابس، وتسببت في أكبر كارثةٍ إنسانيةٍ عرفها العالم في هذا القرن. نسفوا الاستقرار والأمن ظنا منهم أن هذه هي الطلقة الأخيرة الناجعة لإخضاع الشعب. لكن، هيهات، فقد فشل المخطط وخرج الأمر من أيديهم وسيخرج كل يومٍ جديدٍ أكثر، حتى لا يبقى لهم منه في أيدهم شيء، كان على ربك حتما مقضيا. ويبدو أن الإخوان المسلمين وصنائعم من العسكر لا يعرفون أن ثورات الشعوب من إرادة الله. ومن يغالب إرادة الله يُغلب ولو بعد حين: “فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا”.

سوف ينكشف الغطاء

لن يمر وقتٌ طويلٌ حتى ينكشف الغطاء عن الأكاذيب والخداع والتمويه الذي جرى تضليل كثيرٍ من البسطاء به من أبناء شعبنا، عبر السنوات الخمس ونَيْفٍ الماضية. ففي مقابل الإلصاق الكاذب لتهم العمالة والارتزاق بالقوى الوطنية المساندة لأهداف الثورة، سوف ينكشف، في المقابل، الانبطاح المذل والكامل للإخوان المسلمين ولمليشياتهم المسماة جيشًا للنظام المصري وللنظام الإريتري، واستجلابهم المقاتلين المرتزقة من إريتريا ومن التقراي المعارضين للحكومة الإثيوبية وغيرهم من دواعش الدول الإسلامية. كما ستنكشف أكثر وأكثر خدعة كيكل واحتلال مدني وقرى الجزيرة وانسحابات الجيش من مدني وسنجة، ومن غيرها من مدن وقرى السودان. كما ستنكشف حقيقة ترويع أهل الجزيرة الذي قام به كيكل بمساندة عناصر الاستخبارات العسكرية التي جرى إدخالها في قوات الدعم السريع وأُلبست زي قوات الدعم السريع. أيضًا ستنكشف حقائق النهب الواسع لمدينة الخرطوم الذي طال البنوك والمتاجر والبيوت والمرافق الحكومية والمناطق الصناعية. وكذلك ما جرى من حفرٍ واسع النطاق لكابلات النحاس الضخمة وضغطها في مكعبات وتحميلها على الشاحنات وتهريبها إلى دول الجوار. كما ستنكشف الأكاذيب والخدع الكثيرة المتتالية التي روجت لها الآلة الإعلامية الكيزانية الضخمة. وسوف يعرف كثيرون إلى أي مدى قد جرى تضليلهم وأنهم كانوا مخدوعين. المدهش أن كل واحد من الإخوان المسلمين يعرف حقيقة كل هذه الحيل والأكاذيب ولكنهم لا ينزعجون قط من هذه الأساليب ولا يشعرون بأي قدرٍ من الاستخذاء من استخدامها. فهم أصلا لا يبالون؛ لا بقيم الدين وبلا بمقدَّرات الوطن. فالقطر السوداني بالنسبة لهم ليس سوى مزرعةٍ نائيةٍ في بلد مستباح. كل ما يهمهم فيه أن يجنوا ريع موارده لينعموا به عيشًا في الخارج. خلاصة القول: إن مناهضة هؤلاء الظلمة المستبدين الأفاكين واجبٌ أخلاقيٌّ يمليه الدين، كما تمليه القيم الإنسانية والأعراف التي تواضع عليها البشر عبر الأزمنة في مختلف الأمم والملل والنحل. ومن يقصر في مقاومتهم فهو ملومٌ عند الله، وعند الصالحين من الناس الذين سيشهدون عليه يوم الدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى