في إحدى أزقة وسط البلد شرق السوق العربي – وبالقرب من شارع الجرائد -، قادنا الفضول إلى تتبع خطوات مجموعة من الأشخاص، كانوا يتزاحمون في باب دار، قطع خيط فضولنا شاب يقف على مقربة من باب الولوج، إذ دعانا إلى مشاركتهم في منتدى ثقافي، استفسرت عن العنوان، فكان رد الشاب “الحكامة ودورها في بث خطاب الكراهية وسط المجتمعات ذات الاختلاف”، قلت لمرافقي هذه سانحة نتفسح من خلالها على الدكاترة والمثقفين على السواء.
الدار مليئة بأقمصة ذات ألوان صارخة، والذي لا يرتدي قميص مزركش على رأسه شعر كثيف، وعلى أيدي الغالبية منهم “سيجارة” لزوم تأكيد مدى ثقافة العضو.
طلبت ممن ظننت أنه مسؤول عن تقديم البرنامج، أن يسجلني معلقًا على حديث المتحدث الدكتور، اندهش أصدقائي وافتكروا أن تلك واحدة من مزحاتي، لا يمكن أن يُدخل عاقل نفسه في حوار غير مهيأ له مسبقًا! وبإصرار مني، تمت الاستجابة للطلب بعد إخطار متحدث الندوة.
تحدث الدكتور بكلام كله تجني على الحكامة، حيث وصفها بأوصاف غريبة، قائلًا إنها تقوم بإشعال الحرب بين القبائل وتساهم في تأجيج نيرانها، “لو المقاتلين فتروا من القتال، أشعلت نيران الحرب فيهم”، وعدّ الحكامة أخطر كائن في دارفور.
أقرب تعريف للمثقف؛ هو الذي يلم بطرف من كل علمٍ مع إدراك كامل لبيئته الاجتماعية، ولكن “مثقفينا” لا يكلف الواحد فيهم عناء البحث لمعرفة شعاب مجتمعه الثقافية والتراثية.
قلت في تعليقي إن ما قيل غير صحيح وإن الحكامة تعرضت إلى ظلم كبير بحديث هذا الدكتور، وفي الواقع الحكامة هي فرد من مجتمع تتأثر بما يتأثر به، إذا كانت الأجواء العامة أريحية نظمت الحكامة جميع أشعارها في مدح كرم رجالها وتغزلت في عشيقها أو زوجها في النادر. سألت الدكتور، هل تحفظ أغنية واحدة لحكامة، أجاب بـ”لا” عن طريق إيماءة برأسه، قلت له معظم أغاني الحكامات غزلية، وهي بطبعها الأنثوي تميل إلى اللطف لا العنف. فلنأخذ مثالًا للحكامات، وهي بنت قريتي “كبرى بخيت” التي تتغزل في الشباب بقولها في أحدهم: “شوفت الخضار بتحمي من النار، عليو عم أم دلال بَلبسه سيكو في الشمال”، ما معناه أن مجرد النظرة إلى “عليو” ستكون بمثابة حماية من نار القيامة. وتقول أيضًا “بسكن حوالي الفيض، رقيق سلامي ليك، ماني قاصدة الشيك، بلبسك حفيضة تحت النهيد”، أي تريد أن تسكن في حلة “الفيض” الواقعة شرق “الرهد المقارين” التابع لمحلية الفردوس بولاية شرق دارفور، وهي لا تريد من شعرها نقودًا بقدر رغبتها في أن تضع محمد بخيت تحت نهدها. وتقول في شقيقي الأكبر: “الفايت ما مريود محمد خي يعقوب، قسٌم خشوم البيوت أنا ولوني ولاد سعود”، وفي أغنية أخرى تقول: “بكتب جواب وخياتي ودن لي، محمد الجدي السلب ديني ما خلى شيء”.
ضج المنتدى بالتصفيق، ولما هدأوا قلت: الحكامة إذا كان رجالها في حالة حرب؛ فهمي تحمسهم على الحرب، لكن أغانيها لا تتسبب في إشعال حربا من الأساس.
عاد لي شريط الذكريات هذا عندما كتب أحد أبواق الحرب، وهو العنصري محمد عمسيب، والحمد لله أنا لا أتابع الصفحات ذات المحتوى المنحط، لا أتابع صفحة عمسيب ولا الماجدي ولا المنقب الانصرافي، ولكن هنالك قطيع كامل من البشر من الذين وضع الله على عقولهم أقفال، يهتم بهؤلاء، وبما يبثون.
كتب عمسيب معلومة كذوبة تقول إن “حكامة” من مدينة الضعين، خلعت ملابسها الداخلية أمام الرجال، وقالت إنها لن ترتديها إلا بعد تحرير الفاشر، ثم طار بهذا البوست البلابسة حتى وصل لبلابستنا في دارفور، الغريب أنه لم يبذل واحدا من هؤلاء جهدا للتحقق من المعلومة، بما في ذلك زميلنا القديم المحامي “جمال ضحاوي”، حيث كتب مقالًا طويلًا عن الحكاية قائلاً: “فاستطاعت أم قرون استنفار الرجال شيباً وشباباً وأساتذة ومعلمين ومشايخ وأطفال، فزجت بهم في أتون محارق ولهيب هذه الحرب، فكانت إحصائية قتلى الولاية “Z” لوحدها بلغت أكثر من 35 ألف قتيل و4500 معاقًا أبديا حسب ما تواتر من معلومات لجنتهم الأهلية هناك”. وقال “عندما انتهت ملكات شعرها ورثائها انحطت انحطاطا أسقطها في مستنقع العورة والعار والفضيحة وعدم التربية وقلة الأخلاق، فتعرت في وسط المدينة “Z” ورمت بـ”..” على رؤوس وأعناق الرجال كشعار وراية وعلم لمناطحة علم السودان بالوانه وجماله الذي يرمز إلى الكرامة والعزة والعفة. وقد أقسمت أم قرون بأنها لن ترتديه إلا بسقوط مدينة الفاشر السلطان، بعد 137 معركة انهزم فيها المليشيا اضطرت بأن تدفع بآخر ما عندها وهو شعارها القبيح، بعد أن عزف الرجال عن الإقدام والمواجهة رغم شعرها الحماسي وستطول سقوط الفاشر بإذن ربها”.
يا للخسارة أن يصدر هذا الكلام غير الدقيق من شخص صرف عليه الخواجات ملايين دولارات من أجل التدريب والتأهيل، إذ كان يعمل صحافي وشارك معنا في عدة دورات تدريبية نظمها خواجات عبر منظمات ومراكز إعلام تهتم بتطوير الصحافة في بلد نامي من بلدان العالم الثالث، ويعلم الله، كل هذه الدورات والورش لا تتناول سوى تعليم الصحافي كيف يصير قادرًا على تدقيق المعلومات والتحري منها قبل نشرها، خشية من أن يقوم بتضليل القارئ في ظل الكم الهائل من الضليل المبثوث في الفضاء الإسفيري.
المحامي “ضحاوي” صاحب غرض، لذلك لا يكلف نفسه عناء إرسال رسالة فورية على التطبيق الفوري لمعارفه الكثر في مدينة الضعين ليتأكد من صحة الواقعة. ويبدو أنه لا يعرف شيئًا عن البنات في ديار البقارة، فالمرأة لا تأكل ولا تشرب أمام الرجال من الخجل دعك من أن تتعرى أمامهم، ولا تستطيع أن تنادي زوجها باسمه إلا بعد إنجاب خمسة أطفال، وفي “حلتنا” تختفي المرأة طوال شهور الحمل عن أخيها الكبير وأبيها، وإذا رأت أحدهما دخلت إلى منزلها وتكتفي بالسلام بالصوت.
امرأة بهذا الحياء، لا يصدق أنها تخلع لباسها أمام رجال، صحيح تساهم الحكامة في سن الرجال للحرب، والرجال مثل الحديد يحتاجون إلى سن باستمرار، لكن ما بهذه الطريقة الفاحشة.
أذكر قبل عقود، قَتل الدينكا عددًا من أبناء العمدة كبور شقرة ونهبوا أكثر من مراح من أبقاره، أثناء استعداد الرزيقات للحرب بشراء الذخيرة والسلاح وتجهيز الخيل، اتفقت النسوة بائعات الشاي في أسواق دار الرزيقات “الفردوس، عسلاية، أبو مطارق، أبوجابرة وداخل مدينة الضعين” على رفض إعطاء الزبائن كوب شاي لبن، وعندما يطلب الرجل -الرزيقي طبعًا- كوب شاي لبن، يسمع رد متفق عليه مثل نغمة النوكيا، حيث يرددن “البقر الدينكا شالوهن، أنا ألقى ليك لبن وين، ممكن ندر ليك شاي سادة”.
نعم، المرأة تحث الرجال على الحرب بطرق عدة، ولكن ليس من بينها خلع اللباس وإن فعلت امرأة ذلك أمام رجال لضربها أحدهم ضرب غرائب الإبل. البلابسة -قاتلهم الله- يصدقون أي حديث مشين عن الضعين وأهلها كتغطية على هزائهم جيشهم وتعويض نفسي عن منظر جنوده وضباطه في حالة الإجابة على سؤال الأشاوس: “المعاملة كيف؟”.