رأي

عبدالرحمن الحوار يكتب: الدولة الوطنية الثانية

عبدالرحمن الحوار

أعتقد أن أكبر سؤالا واجه السودانيين منذ ١٩٥٦ وما زال يواجههم حتى اليوم هو سؤال (الشرعية) … فهل حظي أي نظام حكم منذ ١٩٥٦ وحتى الآن بأية مشروعية أو شرعية؟ الفرضية الأساسية هنا هي : إن أي مما يسمي بالحكومات الوطنية السودانية لم تكن تتوفر فيها شروط (حكومة شرعية) كاملة المشروعية.

إن دولة ٥٦ كانت مجرد (وكالة) ولم تكن دولة ذات سيادة في أي يوم من الأيام. لا أحد في السودان امتلك أو يمتلك أية مشروعية، لأن المشروعية تنبع أصلًا من الشعب. فالسودان ما زال عبارة عن شعب/ شعوب تبحث عن دولة، ولن يتم تأسيس الدولة إلا عن طريق عقد اجتماعي جديد، وفقا له يمكن منح الشرعية لنظام الدولة. وهذا ما لم يحدث مطلقًا إلا (بشكل كاريكاتوري مبتذل تمثل في جمعية تأسيسية كونت على عجل) في الرقعة المحدودة التي استثمر فيها الاستعمار، المعروفة ب “مثلث حمدي”. والآلية التي تم اتباعها هي الانتخابات على نهج “ويست مينستر”، وهي مجرد آلية اختارها المتنافسون ولم يخترها الشعب. كانت مجرد لعبة، مجرد (كرتلة) فُرضت على الشعوب السودانية التي لم تعرف غالبيتها وقتها حتى مفهوم الدولة.

إن (الجمعية التأسيسية) لم تطرح أسئلة التأسيس (أسئلة العقد الاجتماعي)، وبالتالي لم تجب على أي شيء غير استلام (السودان كغنيمة). فهل كان البقارة والأبالة والغنامة في الخلاء، والجنوبيين في أعماق السافنا، والبجا في شعاب جبال البحر الأحمر، والغرابة في (الحلال النائية)، كانوا يدركون حقيقة معنى صناديق الاقتراع واستحقاقاتها في منتصف الخمسينيات؟!

دولة ٥٦ لم تكونها كتلة تاريخية شعبية سودانية ولم يطالب حزب من الأحزاب (صنيعة الاستعمار) بخروج المستعمر ولم تكن (قوة دفاع السودان) جيش تحرير! لقد خرج المستعمر (لأسباب دولية) بأريحية واحتفالية صاحبتها الكثير من دموع الفراق (ياحليلهم !!)، وترك خلفه طبقة (مدنية- عسكرية) لا ترتقي لمستوى (طبقة وطنية) وإنما كانت تناسبها درجة (وكيل استعمار). كل الحكومات المتعاقبة لم يكن ينطبق عليها المعنى العميق لكلمة (شرعية). والآن لا أحد يملك أية شرعية كاملة.

ولكن من الممكن إذا انتصر الدعم السريع وحلفاؤه انتصارًا ساحقًا على دويلة ٥٦، فقد تتهيأ الأرضية – لأول مرة في التاريخ – لخلق وضع أو بيئة تسمح – لأول مرة أيضا- للشعب السوداني بالجلوس لينتج (عقدًا اجتماعيًا). وذلك بغرض تأسيس دولة وطنية تجيب على أسئلة التأسيس بحيث من الممكن أن تشكل تلك الأجوبة (ثوابت وطنية).

لقد ذكرنا مرارًا أن مهمة الدعم السريع المعلنة ليس حكم دولة جديدة تمامًا وإنما مهمته الأساسية هي (تحطيم دولة ٥٦)، وتصفير العداد بحيث يستطيع الشعب/ الشعوب السودانية أن تبني (الدولة الوطنية الثانية) بعد الدولة الوطنية الأولى – دولة المهدية التي كونتها كتلة تاريخية سودانية معلومة بجيش وطني معلوم. ولكن للأسف تلك التجربة تم وأدها بواسطة الغزو الثنائي الإنجليزي – المصري، وأغلب الظن أن الكتلة التاريخية التي تتبلور الآن ستنجح في تثبيت أركان دولة وطنية جديدة. ولايبدو في الأفق – هذه المرة- من لديه الرغبة أو القدرة في الوقوف ضد تأسيس الدولة الجديدة. إن مصر على سبيل المثال لا تستطيع أن تقف أمام أحلام الشعب/ الشعوب السودانية مهما حاولت، والغرب المتطور ليست لديه الرغبة في واد تلك الأحلام وقتلها، بل قد يرغب في تحقيقها. فالدول الصناعية الكبرى بعكس المافيا، ترغب فعلًا في التعامل مع حكومات ديمقراطية حقيقية يحميها جيش مهني وطني حقيقي وذو مصداقية.

وبعد المهدية لم يحظ السودان بأي جيش وطني حتى هذه اللحظة. وإذا استوعب “حميدتي” ورهطه عظمة اللحظة التاريخية فقد يصبحون هم القوام الرئيسي للجيش الوطني القادم، الحامي للعقد الاجتماعي المأمول، وسيمنحهم الشعب (شرعية أن يكونوا هم القوام الرئيسي للجيش الوطني الجديد تقديرًا لتضحياتهم كونهم ارتقوا لمقام جيش تحرير وهو مقام لا يناله إلا الو العزم من الجيوش). لأنه لا بد من الشرعية، والدعم السريع يدرك جيدًا أن الشعب هو مصدر الشرعية. فهل ذلك محتمل التحقيق أم أنه مجرد حلم ستذروه الرياح؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى