رأي

علي جاد الله يكتب: ثالوث الهيمنة الاستعمارية: الأفندية، العسكر، الطوائف (١)

ثالوث الهيمنة الاستعمارية: الأفندية، العسكر، الطوائف (١)

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. 

علي جاد الله

إن حرب الإسلاميين يوم ١٥ أبريل، كانت هدية كبرى لمن كانوا يحلمون بإعادة تأسيس السودان على أسس جديدة، نقيضة لما دشنه المستعمر في ١٨٩٨م. حيث ورّث الاستعمار مؤسسات الدولة لمن تعاونوا معه لهزيمة المهدية وبسط سيطرته على ما تبقى من أراضيها وتوسعته لجنوب السودان. وبحكم حداثة تجربة الدولة وعدم الاعتراف بالسلطة الاستعمارية، لم يكن لأغلب المجتمعات الريفية والبدوية أي رغبة في المشاركة في السلطة سوى التعاون بواسطة سلطات الإدارة الأهلية، وكان التعليم بالنسبة لهم مرفوض باعتباره مشروع للتنصير أي تحويل التلاميذ لمسيحيين. إن أغلب من حصلوا على تعليم من أبناء الريف والبادية قبل الاستقلال كانت أعدادهم قليلة مقارنة بأقرانهم في المناطق الوسطى والشمالية، بسبب سياسات الاستعمار القائمة على التمييز بين المواطنين، على أساس الولاء. كان لهذه السياسات تأثير كبير على الحكومات [الوطنية] التي لم تقم بإصلاح السياسات الاستعمارية التميزيّة، بل أوغلت فيها وركّزت أكثر الخدمات؛ المتعلقة بالصحة والتعليم والكهرباء وتوزيع الأراضي والمصارف والمواصلات والسكك الحديدية  وخدمات البريد والجامعات والأمن والحقوق السياسية، على مناطق ورثة الاستعمار. مما خلق خللًا كبيرًا في المساواة في الوظائف المدنية والعسكرية والسيادية.  

وبسبب هذا التفاوت بين أقلية أفندية حاكمة، وأكثرية تنظر إليهم دولة [سلطة] المستعمر الوطني نفس نظرة المستعمر الإنجليزي، باعتبارهم رعاع يجب إخضاعهم، وأن الدولة لها الحق في ما يملكون، وليس لهم أي حق بل هم ملكية لها. لذلك، لم تصمد أول حكومة ديمقراطية -رغم قصورها وتشوهها- من إكمال العامين. أعقبتها دكتاتورية إبراهيم عبود بستة أعوام، ثم ديمقراطية أقل تشوها عمرها ثلاثة أعوام، عقبها انقلاب عسكري بقيادة جعفر نميري زاد عن سابقة بعشرة سنوات.  وثم جاءت آخر ديمقراطية لم تكمل عامها الثالث حتى عقبها انقلاب الإسلاميين الذي ضاعف عمره عمر الانقلاب السابق. يلاحظ أن فترات الانقلاب بعد كل فترة انتقالية يتضاعف عن سابقه؛ عبود ٦ أعوام، نميري ١٦ عام، البشير ٣٠ عام. بينما ظلت الفترات الديمقراطية الثلاث بين العامين والثلاثة أعوام. 

هناك سؤال يحضر بإلحاح، لماذا طالت فترات الحكم العسكري في سودان ما بعد الاستعمار؟ إن غياب التنمية والتعليم عن مجتمعات الأكثرية واعتمادهم على اقتصاديات بدائية، مكن طبقة الأفندية التي تلقت التعليم والوظائف الاستعمارية من احتكار جهاز الدولة لصالحها وقطع طريق الأكثرية من الوصول لهذا الجهاز. وإن أفضل الوسائل بالنسبة لها ليست الديمقراطية بل الانقلابات العسكرية.  

هناك تحالفات أقامها الأفندية تقوم على ثالوث؛ الأفندية التي تعلمت في كلية غردون والمعاهد، وطلاب الكلية الحربية، وأسر الطوائف الدينية. هذا الثالوث المدمر كان يتبادل مصالحه السلطوية سواء في التوظيف وتوزيع الأملاك أو الأراضي أو احتكار السوق، بل نمت علاقات مصاهرة بينهم شكلوا من خلالها طبقة متينة جذرت مشاريع الهيمنة والدكتاتوريات، وهو أحد أسباب إطالة عمر الديكتاتوريات العسكرية. 

السبب الثاني يمكن تلخيصه، في الصراع الأيديولوجي داخل طبقة الأفندية والعسكريين والطائفيين، وهو تصعيد الصراع بين التيار اليميني  واليساري والأفريقاني الذي ارتفع صوته خارج الثالوث منذ بداية الاستقلال وسودنة الوظائف، بل ظهرت إرهاصاته منذ مؤتمر جوبا سنة ١٩٤٨م. 

مما يحسب لدكتاتورية نميري اليسارية أنها حاولت إنصاف الجنوبيين بمنحهم حكمًا فدراليًّا في اتفاقية أديس أبابا عام ١٩٧٢م، بل عملت على إقامة مؤسسات في جنوب السودان، لكن تم إجهاض الاتفاق بعد أن تغلغل التيار الإسلامي في سلطة اليسار وأعلن نميري الشريعة الإسلامية في سبتمبر ١٩٨٣م. وللمفارقة فإن انقلاب نميري كان دافعه  قطع الطريق أمام الدستور الإسلامي الذي عملت على إنجازه الطائفتين في الديمقراطية الثانية. 

لم ترى الديمقراطية الثالثة أي مهدد للقوانين الإسلامية التي فرضها نميري على وحدة السودان بعد إعلان الجنوبيين الحرب عليها، بل شرعن الثالوث الحرب واعتبرها تمردًا!

شكلت قوانين سبتمبر بيئة خصبة لتطور الإسلاميين بعد هزائم اليسار في المنطقة، وانتشار الإحباط وارتفعت موجات العودة للأسلمة في أغلب بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. مكنت هذه الموجة إقامة تحالف بين الإسلاميين الذين تطوروا عن تيار الأفندية وإسلاميين الكلية الحربية، مما مكنهم من الانقلاب بسهولة على الديمقراطية الثالثة التي تكونت من تحالفات هشة وورثت وضع اقتصادي عانى من سوء الإدارة والسياسات الصبيانية التي كان يصدرها نميري. 

إن أول الخطوات التي قام بها انقلاب الإسلاميين، هو تسمية انقلابه بثورة “إنقاذ وطني”، هذا الإنقاذ يقوم على تصفية التيار اليساري من كل مؤسسات الدولة، عبر سياسة التمكين، بل طابقت بين أجهزة الدولة وأجهزة التنظيم في اِتخاذ القرار المؤسسي. وهو ما سبب لاحقا اختطافًا كليًا لجهاز الدولة لصالح التنظيم الإسلامي. وكان الخطاب الأساسي لها هو أسلمة وتعريب المجتمع ومحاربة الشيوعية والاستعمار والفكر الأفريقاني الوثني. 

عمل تنظيم الحركة الإسلامية على تجنيد الشباب في المدارس وأدلجتهم للحرب في جنوب السودان، بتحوير خطاب الحرب من “تمرد على الدولة” إلى “تمرد على الله” ومجاهدة كفار ونشر للدعوة الإسلامية! واعتمد في ذلك على مجتمعات الريف والمناطق الأقل نموا في التعليم والتنمية، مما وفر لها جنود يتم إكراههم بواسطة جهاز الدولة، ومرة باسم الدفاع الشعبي والخدمة الإلزامية والخدمة الوطنية. بل سخر التنظيم الإسلامي سياسات الدولة لخدمة أعضاء التنظيم وفرضت ضرائب باهظة لتمويل الحرب مما ساهم في انخفاض قيمة الجنيه لأكثر من مئتين مرة ضعف قيمته قبل الانقلاب. 

كان استخراج البترول سببا في دخول التيار الإسلامي في صراع فيما بينه حول غنيمة الدولة الكبرى، فظهر صراع بين تيار غرب السودان وتيار شمال السودان، فتم إقصاء زعيم التيار ومعه أبناء غرب السودان. بعد ذلك شرع التيار السلطوي في الترتيب لتسوية مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق، بعد ضغوط دولية تشترط  تسويق البترول. 

وبحلول العام ٢٠٠٣م برز تياران من حركات المقاومة المسلحة في غرب السودان، الأولى يسارية بقيادة عبد الواحد محمد النور، والأخرى إسلامية بقيادة خليل إبراهيم تلميذ حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية المقصي. وبما أن قادة الحركتين في دارفور ينتميان للمجموعات الأفريقية، استثمرت السلطة الإسلامية بقيادة البشير في الترويج لخطاب أن هذه الحركات ذات نوازع انفصالية تسعى لإستعادة دولة الفور وطرد المجموعات العربية في دارفور أو إبادتها. سرعان ما وجد هذا الخطاب قبولًا واسعًا خاصة وأن الحركة اتخذت من جبل مرة منطقة لإشعال حربها على جيش البشير. جندت قيادة الجيش الغربية في الفاشر عشرات الآلاف من قطاع الطرق والمجرمين السابقين في بادئ الأمر، ثم جندت آلاف عبر الإدارات الأهلية. وعلى إثر ذلك اتخذت الحرب في إقليم دارفور طابعا أهليا في كثير من جوانبها. 

بسبب الخطاب الإسلاموي والعروبي الذي ظلت تستغله النخبة النيلية الشمالية، للسيطرة على جهاز الدولة واحتكار الموارد الاقتصادية، خلق لها أعداء من كل الجهات بسبب فترات الطويلة المظالم وفداحتها. بل رأى الجنوبيون استحالة وحدتهم مع نظام إسلامي وعروبي يرفضهم ويرفض دينهم، مما أوصل اتفاق السلام لسنة ٢٠٠٥م إلى اختيار الجنوبيين للانفصال عن البلد الأم وتأسيس دولتهم المستقلة.  

بعد انفصال جنوب السودان في العام ٢٠١١م عاود نظام الإسلاميين محاربة الحركة الشعبية شمال في المنطقتين ” جبال النوبة والنيل الأزرق” في الوقت الذي نمّت ووسعت  فيه تحالفات الحركات المسلحة في دارفور والمنطقتين وقوى من شرق السودان لإقامة تحالف لمواجهة نظام نخبة أفندية إسلامية عنصرية هدفها احتكار السلطة والثروة عبر جهاز الدولة. في الجهة المقابلة طورت حكومة البشير من الملايش التي كونتها في دارفور وزادت مستوى تسليحها بسبب كفاءتها القتالية وقدرتها على إيقاف تمدد الحركات المسلحة. 

وبعد انتخابات ٢٠١٥م وجد البشير نفسه في حوجة لحكومة وحدة وطنية تتحمل معه المسؤولية الاقتصادية بعد فقدان ٧٠% من الخزينة التي كان مصدرها البترول الذي ذهب ٨٠% منه مع دولة جنوب السودان. تراجعت أغلب الأحزاب الكبيرة من حكومة الوحدة الوطنية التي دعا لها في خطاب شهير ألقاه البشير فيما سمي بخطاب “الوثبة”؛ لأن مؤشرات سقوط حكومة البشير بسبب الفساد الاقتصادي والتضخم والعقوبات الدولية كبيرة ولن تنجو منها، والسنوات الثلاث التالية كانت تمثل فترة احتضار. 

قبل أن نغادر العام ٢٠١٥م، لا بد من العودة للعواقب الاقتصادية التي أحدثها انفصال جنوب السودان. في سبتمبر ٢٠١٣م خرجت احتجاجات عفوية نتيجة لزيادة مفاجئة في أسعار الخبز، واجهت حكومة البشير هذه الاحتجاجات بعنف بشع، أسفر عن مقتل أكثر من ٢٢٠ شاب تتراوح أعمارهم بين ١٢ -٢٥ عام. ووجهت الاتهامات في ذلك إلى عناصر “الجنجويد”!! لأول مرة يتم تداول وجود “الجنجويد” في الخرطوم وفي مواجهة متظاهرين سلميين. بل إن إلقاء اللوم على “الجنجويد” كان تبرير صدر من جهاز مخابرات البشير لدفع التهمة عن نفسه. 

في العام ٢٠١٥م بدأت حرب اليمن، بقيادة التحالف العربي على جماعة الحوثي. مما دعى السودان للمشاركة في القتال بسبب الأوضاع الاقتصادية التي يمر النظام البشير، وبعد المشاركة في الأشهر الأولى بالقوات المسلحة التي أثبتت عدم كفاءتها في القتال وتكبدها لخسائر، تم اقتراح إرسال قوات من الدعم السريع الذي تأسس في ٢٠١٣م من الملايش العربية التي كونها البشير لمحاربة الحركات المسلحة في دارفور، ومن خلال مشاركتهم الفعالة أصبحوا مورد بشري لتمويل الحكومة، أجاز البرلمان قانون خاص سمي  بقانون الدعم السريع منفصل عن قانون القوات المسلحة. 

أثبت الدعم السريع قدرة معتبرة في مواجهة عناصر الحوثي في اليمن، تمت المطالبة بتجنيد المزيد منهم، مما ضاعف أعداد هذا الجيش إلى عشرات الآلاف، ومع دخول نهاية العام ٢٠١٨م وصل عددهم إلى ١٥٠ ألف مقاتل. 

نواصل..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى