رأي

مازن الأمير يكتب حصار قطر السودان .. الإرهاب من أين يأتيك ؟

مازن الأمير

كحدثٍ هوليوودي ، أزاح المخرج المُنشغِل برفقِ خصلة شعره الأشقر عن جبينه المتعرق و قال ” لم لا ، لنبدأ السيناريو عكسياً ” و قد كان ، من كان يتوقع فلنقُل قبل دقيقةٍ من صدور البيانات المتلاحقة أن السعودية و من معها سيبدأون السيناريو من العكس أي من سقف الفعل المتوقع في قمة التصعيد العدائي بين دول بينها مشتركات تاريخية و ثقافية لم تفتأ تذكرنا بها و بلحمة الوصل العضود بينهم، و هو حدثٌ على الرغم من أنه فوق عادي في سياق المنطقة لكن الأخبار و التقارير قتلته بحثاً و تنقيباً حتى بانت سذاجته ، أزمة عنوانها العريض و درسها الأفصح أن تعرف حدود قدرتك و تزن عليها فعالك و مقالك ، فلا يستقيم أن تعيد مهاتفة طولها أربعون ثانية لا تزيد  الكل إلى جحره ! ، ماذا نريد ؟ نريد أن نعالج مآلات الحدث أو نصنعها ، المآلات المتعلقة في الأكثر بسبب صحيفة الإتهام ذاتها ، الإرهاب و الربيع العربي و فرض العين عليَّ السودان .

 

الإرهاب : من أين يأتيك ؟ ، مصطلح الإرهاب من المصطلحات المستشكلة و كثيرة التعاريف و صعبة التحديد ، و ما خلق هذه الجلبة أنه خرج من رحابة التفاكير و التصور و التنقيب في الدين و المجتمع و النفس لضيق السياسة و اتخاذها كهراوة أو كفزاعة ، فخلقت تضليلاً كثيرا عن مقاصدها الرحيبة في إفزاع الآمنين – مهما يكون –  و جعلت له تصور محدد بالدين و العرق ، و هو أمر بطبيعة الحال أسهمت فيه الضراوة الشديدة عند نموذج التديين القسري أو الإنتقام من الحضارة عند داعش و القاعدة و تطاير شرر شرها لمجتمعات محايدة عن الحروبات في آخر نصف قرن مثل بلجيكا مثلاً ! و المصطلح طبعاً بغزارة الإستخدام في مظهر واحد من مظاهر شيطان العنف خارج سياق الدولة الحديثة التي احتكرت منذ نشأتها شرعيته و استخدامه ، أهمل نماذج كبيرة من العنف و التطرف و الإرهاب كانت تقوم به دول ضمن سياق فعلها الجوهري المرتبط في الأساس بأيدولوجيا تسييرها أو خلقها ، فالإرهاب له دول في المنطقة اختصت به و تطويره و شرعنته و إقحامه ضمن مهام الدولة و هي صفات تنطبق بجلاء على السودان تحت حكم الجبهة الإسلامية و السعودية و إيران و دول البعث في الهلال الخصيب .

 

  في السودان ابتدرت حكومة الإنقلاب الإسلامي أنشطتها الساعية كما أسموها (التزكية) أو في الحقيقة حشر الناس في نموذج الجبهة الإسلامية بأن عسكرت المجتمع ،  بدءاً بلباس الطلاب و أناشيدهم و مقرراتهم و أيضا بأن كونت أضخم مليشيا حزبية في تاريخ السودان تعمل بالتوازي مع الجيش النظامي للدولة ، أسموها حينها بالدفاع الشعبي ، هذه المليشيا الدعوية الجوالة دخلت في خط النزاع في الجنوب فتحول بسرعة شديدة من نزاع سياسي و تمرد مألوف في أصقاع أفريقيا إلى حرب دينية طاحنة ، حشدت لها هذه المليشيا الشباب و الطلاب و اقتادتهم إلى محارقها جبراً و هي المحارق التي أُوقِدتْ بالجنوبيين في الأصل ، بعد أن استسهل سفك دماءهم و رُفِعت عنها الحرمة منذ أن حول شيوخ الحركة الإسلامية في السودان المعركة بين معسكري الإسلام و الشرك ، فظائع يندي لها الجبين وقعت تحت تكبيرات المهووسين من منتسبي الجبهة الإسلامية ، حرق للقرى بمن فيها و أما الفارون بجلودهم من المحرقة فلا منجى لهم رصاص البنادق ، و هذا الأمر ليس افتراءً مني و لا تضخيم ، بل وقائع سسهل التبثت منها و السؤال . حروب عبثية راح ضحيتها الملايين و صُرِفت فيها الملايين لتنتهي بإنفصال الجنوب ، أي ثمن باهظ تبقى للوطن أن يدفعه ليٙعي هؤلاء أنهم نظام إرهابي مجرم بإمتياز .

 

  و عنف هذه الأنظمة ليس بطارئ بل هو مرتبط إرتباط جنيني بها بخصائصها و شروط نموها على هذه الهيئة ، نماذج مركزيتها الدين أو العرق و  بنية عقل ذكورية لذا هي إقصائية و عنصرية و أدت برعايتها لقيم التخلف أن طبَّعتها ، و خلفت بفضل العنف هذا ردات فعل أيضا عنيفة ، فالدولة ما بعد الإستقلال في السودان بسبب سياسات المناطق المغلقة و خلل التنمية و أيضا المظالم الجسيمة انفجرت في وجهها قضية التمرد المسلح في الجنوب حتى قبل أن تغادر رائحة المستعمر المكان ، كَفَرَتْ هذه الحركات الثورية بكل الديمقراطيات النيابية التي أوجدتها إنتفاضات أكتوبر و أبريل ، و المفجع أن الأيام أثبتت أنها لا  تختلف عن الأنظمة التي قامت ضدها كثيراً ، فالكل عنده السلطة غنيمة ، و لذا حتى حينما كونت هذه الحركة دولتها الخاصة فشلت تماماً في خلق نموذج مغاير لما عليه دولة الشمال ، بل أنها ظهرت في صورة متخلفة و ارتداد حضاري بالأخص في إدارة أزمة الحكم لدرجة تبيح لنا استخدام مصطلح النور حمد بأنها ذات “عقلية رعوية” و إن كانت في عمق أفريقيا !

  عوداً على بدء حديث الإرهاب ، فمن المهم التصريح باتهام دعم الإرهاب للدول في المنطقة ، و هي تهمة لا تستطيع أي دولة دفعها عن نفسها كلياً فالكل تورط بشكل أو بآخر في إيقاظ هذا الوحش ، سواءً من عمق التراث بالتشكيلات الإسلامية العنيفة أو بإستيراد النسخ الجذرية من الحداثة كالقومية مثلاً ، و سواءً بالدعم المباشر أو الرعاية الفقهية أو الصمت تجاه الدعم المجتمعي و الجمعيات الخيرية مشبوهة الأهداف ، و أنا أرى أنه اتهام صحي في سياق محاربة الإرهاب و التصريح به واجب ،و به نكون قد خطونا خطوات نحو تجفيف تلك المنابع ، لكن ما لا أفهمه أن يتخذ هذا الإتهام كمكايدة سياسية من دول مثل السعودية و التي هي في جبل التطرف الديني و تمويله قاعدة نهضت عليها و برعايتها للوهابية التي تصفها دوائر كثيرة بأنها “دين عنيف” مهدت الطريق لأجيال من المهووسين دينياً لِيٙعْثٙوا في الأرضِ مُفسدين ، فالسعودية في هذا الملف كمثل الذي في فمه ماء يحرمه التصريح  .

    النموذج الإيراني السعودي المتشابه في كثير من الأشياء ، تورط في ما يمكن تسميته بـ (نموذج الدولة الدعوية) و هي الدولة التي تضطلع بمهام نشر مذهب معين و حمايته و ملاحقة من تكفرهم ، و التي أيضاً تسعى بجهد شديد لتحويل المجتمعات المجاورة لها لنموذجها الديني هذا ، قبل فترة ليست بالطويلة أوردت صحف الخرطوم خبراً مفاده وصول الدفعة الخامسة من المعينات الدعوية للجيش السوداني من سفارة المملكة العربية السعودية في الخرطوم ، و هي عبارة عن كتب و مطبقات فقهية و دعم للجيش السوداني الذي أجرت معه قوات سعودية قبل فترة بسيطة تدريبات مشتركة ، و من المعلوم أن جيش السودان هذا و الذي تورط في حرب إبادة جماعية في دارفور و النيل الأزرق و جنوب كردفان ، يشن حروبه العنصرية هذه على أغلبية مسلمة في الأساس ، و هي حروب بجانب أنها ذات جذر إقتصادي لكنها أيضا تعززت بالنعرة العنصرية تجاه المجموعات التي تسكن تلك المناطق ، و لكن حينما يزداد الأمر ضغثاً دينياً على إبالة الإستعلاء فذاك معناه مزيداً من الدماء المُباحة بهذه المعادلة ، إيران أيضاً بأنشطتها الدعوية المسلحة في اليمن و سوريا و لبنان و العراق أزّمت الوضع في هذه الدول بأن خلقت مليشيات تعمل خارج الدولة و تتمرد عليها و هي مليشيات متورطة في دماء الأبرياء في هذه الدول جراء الحروب التي تخوضها أصالة عن نفسها أو وكالةً عن إيران و أهدافها .

 

  على كلٍ ، يجب أن نجتهد في أن تشمل كلمة إرهاب الحكومات القائمة و على رأسها بالطبع السودان ، و هذه أنظمة لا يكف شرها عن التواجد إلا بسقوطها . أيضاً كيف سيجف نبع دعم الدول للإرهاب هذا ؟ ، هذا السؤال يحتوي على كم هائل من الإجابات و لها علاقة بالأنظمة التعليمية و التعليم الديني في المنطقة و أيضاً أنظمة الحكم و الديمقراطية و مسألة الدين و الدولة و تعقيداتها و خفض مستويات البطالة و التنمية ، و لكن ببساطة هنالك أشياء يمكن عملها على المدى القريب و لا تحتاج لأكثر من قرار حكومي و هي أن تكف الدولة عن تبني أي مذهب ديني تحاول من خلال ظله مد حدها السياسي و أن تكون محايدة تجاه كل الأديان ، و أن تعلمن مقرراتها و تحدثها ، و أن تجعلها مهتدية بحقوق الإنسان ، و تحاول أيضاً أن تدعم إنفتاح المجتمع على نفسه و على الآخر المختلف ، و أن تكون مسائل الحريات الفردية محور إهتمامها ، و أن تحاول على المدى الطويل رفع مستوى المعيشة ، و خفض نسب الأمية العالية في المنطقة ، و العمل على تمكين المرأة ، كل هذه عوامل من شأنها تفتيت الكتل القبلية و المجموعات الدينية الدعوية العنيفة و بالتالي تخفيض طابع العنف المميز لمجتمعات هذه المنطقة .

 

 الربيع العربي :

 

بدأ الربيع كإنفجار هائل هز أنظمة القمع و العسكريتاريا التي أحكمت قبضتها على المنطقة منذ عقود ، و هدد نسيم الربيع هذا كل الأنظمة في المنطقة اللهم إلا قلة قليلة لسبب أصيل ، ألا و هو غياب المجتمع المدني و الفضاء العمومي المسيس ، في السودان قُوبِلت هذه الموجة بعنف مفرط من قبل الدولة و أجهزتها الأمنية في يناير و يونيو و سبتمبر و التي في الخرطوم لوحدها قُتل برصاص الأمن ما لا يقل عن 200 شخص حسب تصريح وزارة الداخلية ، بعد أن هدأت ضرباته المتتالية وجهت بعض الدول و على رأسها الإمارات إعلامييها لشن حملة تجريم ضخمة للحدث الأبرز في المنطقة و قادوا ضده حملة تشويه بإطلاق اسم الربيع العبري عليه ، نعم فالمتظاهرون الجياع المحرومون من فرص التعليم و العمل في البلدان التي تدعم الإمارات أنظمتها كمصر متظاهرون خلقتهم تل أبيب من العدم و دفعت بهم بين ليلة و ضحاها إلى الشارع ليواجهوا بصدورهم العارية رصاص الأمن و الشرطة ! .

يسهل الإجابة عن السؤال لماذا تعادي دول بعينها الربيع العربي و ذلك ببساطة أنها تخشى على اهتزاز كرسي الملك من تحتها ، لكن هل تُعتبر تبريراتها بأنه كله شر لأنه أتى بالإسلاميين حُجّة مقنعة ؟ ، المتتبع للحركة السياسية في المنطقة منذ مطلع القرن المنصرم و حتى اللحظة يلحظ الأثر الواضح للإسلاميين في مسار السياسة منذ تشكل الجماعة الأم في مصر و حتى تفرخ توابعها في المنطقة ككل و أيضاً يلحظ الظهور الضخم و الصاخب لحركات اليسار الماركسي و الحركات القومية و التي ازدهرت لفترات طويلة وصلت فيها للحكم في عدد من الدول عبر قفزها السريع على السلطة بسبب أذرعها داخل الجيوش الوطنية ما بعد الإستعمار و تفشي موجة حمى الإنقلابات ، استطاع السودان أن ينفذ بجلده في الديكتاتورية الاولى بثورة أكتوبر 1964  و التي انقض عليها اليسار بإنقلاب النميري الذي أسقطناه في أبريل من العام 1985 لكن سرعان ما استولى الإسلاميون على السلطة بعد تدبيرهم لإنقلاب 1989 ، الحركة الإسلامية في السودان بدأت كسيحةً و معزولة و ذلك لأن القاعدة الدينية للسياسة يسيطير عليها تنظيمي الأمة و الإتحادي و لم تكتسب زخماً يذُكر إلا بعد مشاركته للنميري ، و في حقيقة الأمر فإن غول الإسلاميين في السودان استقوى على خصومه بفضل الدعم و الرعاية التي كانت توفرها له المملكة العربية السعودية لدرجة أن واحدة من أكثر الأحداث تأثيراً في تاريخ السودان الحديث هي حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه ، والذي تم بمباركة و حض سعوديين عن طريق تكفيره أولاً في جامعة أم القرى و من ثم إصدار بيان من رابطة العالم الإسلامي ، و تبعه آخر من مجمع البحوث بالأزهر ، و هو الأمر الذي استقبله الترابي و اتباعه بنشوة انتصار عجيبة جعلتهم يفرحون لإعدام شيخ على أعتاب الثمانين من عمره ، فقط لأنه اختلف معهم و مع خطابهم الديني الذي وصفه بالهوس ، لذا حينما ترى أُفٙضِّل الصياح الإعلامي في السعودية عن خطر الأخوان المسلمين و عدهم جماعة إرهابية بعد أن كانوا من المحظيين عند بلاط الملك تتساءل بدهشة من غذّى هذا الوحش سنيناً  حتى انقلابه المشؤوم في السودان ؟ يداك أوكتا و مال نفطك نفخ . الإسلاميون جزء من الهوية السياسية لهذه المنطقة و الديمقراطيات التي أعقبت ثورات الربيع العربي حينما أتت بهم عكست الخيار الشعبي في تونس و مصر و ليبيا و المغرب ، و هي شيء لا يمكن إنكاره فالإسلاميين عملوا طوال فترة وجودهم كمعارضة في هذه الدول لخلق قاعدة شعبية نفعتهم يوم الإقتراع و حينما كان اليسار منشغل بنفسه و صراعاته اختطفت هذه الجماعات المساجد و جعلتها منابراً مخصصة لتوفير الدعم الشعبي لخططهم السياسية ، و أيضاً لأن نسب الجهل المرتفعة سهَّل كثيراً من مهمة الإسلاميين بخطابهم الشعبوي التهييجي ، الإخوان نتيجة طبيعية لأعوام من الجهل و الأمية لشعوب كانت تحتاج للديمقراطية نفسها التي أتت بالإسلاميين ، لا أن يتم ركل حق الإقتراع فقط هكذا لأنها أتت بغير ما تشتهي دول الخليج .

 

قطر متهمة من قبل معسكر الحصار أنها تدعم الربيع العربي و أجمِل به من إتهام ، إتهام يضع قطر في خانة الدفاع عن الشعوب و الديمقراطية والحريات ، و أنا حقيقةً إن كنت لا أعلم قرائن الإتهام بالضبط لكنه بالنسبة لي شيءٌ مُشَرِّف للدوحة و بل وجب عليها أن تعض عليه بنواجذها ،  لكن هل للدوحة نصيب من ربيع التحولات العميقة هذا ؟ ، كشفت الأزمة الحالية أن واحدة من السمات السيئة التي تصبغ السياسة في المنطقة عموماً هي الرعونة البائنة و التهور و هي صفة اختصت بها دول الحصار ، و هي سمة تنتج عادةً من الإنفراد بالرأي و التسلط و الحكومات الأوليغارشية ، و من حسن حظ قطر أنها خلال هذه الأزمة أبانت عن عقلانية كبيرة في التعامل مع الأزمة و أيضاً خبرة دبلوماسية ممتازة سهلت لها كثيراً الإنقلاب الذي قامت به على دول الحصار بأن حولتها من خانة الهجوم للدفاع و التخبط الواضح إبان صياغة مطالب الدول الأربعة و لا منطقيتها على حد تعبير الخارجية الألمانية ، هذه كلها إنتصارات تُحسب للخارجية القطرية ، لكن أحسن الحظ يكفي ؟ ، كما أوردتُ عاليه فإن الضامن الحقيقي لإستمرار السياسات المعقولة و المقبولة دولياً و أن المفتاح الحقيقي للإلتفاف الشعبي نحو أي تحرك حكومي هو إشراك أكبر قطاع من الشعب في صياغة القرار السياسي للدولة عبر آلية الإنتخاب و النيابة ليشعر المواطن أنه حينما تتخذ السلطات في بلده أي خطوة مصيرية يكون هو كفرد جزء من صناعتها في إحدى أطوارها ، و طالما أن قطر بحرصها الشديد على مسائل الحريات ولا سِيٙما حريات الرأي و التعبير كحجة رفضت بها إغلاق قناة الجزيرة فإن طريقها ليس طويلاً في زيادة الحساسية الديمقراطية في هيكل تسلسل القرار السياسي ، و أيضاً لن يشُقَ عليها أن تضمن و ترعى الحريات السياسية و الإيزولوجيا ، حرية أن يكون حديثك و صمتك أصيلاً معبراً عنك لا مجبرٌ عليه ، فبين تصريح ابن عبد الرحمن آل ثاني وزير الخارجية القطري بأن بلاده تحمي حق التعبير عن الرأي و تضمن حريته و بين تصريح سفير الإمارات في موسكو للغارديان بأن بلاده لا تدعم حرية التعبير بون شاسع ، ثريا في الدوحة و ثرى في أبوظبي .

 

السودان :

 

منذ اللحظة الأولى رَكِبَ السودان خيار المضطر لكنه كان سهلاً ، اختارت الخرطوم الحياد و هو حياد من يخشى الطرفين ، فهي من جانب تحارب عن المملكة في اليمن و يتملك رموزها في الإمارات ، كما أنّ أرصدتهم مطمئنة في مصارفها ، و في نفس الوقت ترعى قطر مشاريعها التنموية و مشروع سلام دارفور و دعمته و فتحت خزائنها له ، أما على الطرف الآخر من الضفة فاتخذت المعارضة وضع المشاهد و كأن الأمر لا يهمها و كأن الأزمة لن تؤثر عليها و بل كأنها لن تستفيد منها .

منذ إنقلاب الجبهة الإسلامية تكونت ضدها أكبر جبهة معارضة من حيث عدد الأحزاب التي انضوت تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي حينها بعدة و عتاد غير مسبوقين و بحرب ضروس في الجنوب ، تقودها الحركة الشعبية لكنها فشلت في إسقاط سلطة الإنقلابيين ، و يرجع هذا لعلل مقيمة تحملها هذه الأحزاب مجتمعة ، علل أضعفتها و أثرت في صعود الطور النضالي الشعبي و أضاعت فرص سانحة و سهلة لإسقاط النظام آخرها هبة سبتمبر في العام 2013 . المعارضة منذ أن كانت تحارب النظام في شرق السودان و كانت عواصم الدول المحيطة تتقاسم قادتها ، كانت في ذلك الوقت تتحرك في هذه المحاور ، لأن النظام و بآماله العراض في تصدير الثورة الإسلامية كما حذت أخته الكبيرة إيران قبل عقد من الزمان حذوه المتأخر هذا ، فدعمت الحركات المتمردة في تشاد ، و عادت السلطات في إرتريا و القاهرة إثر حادثة محاولة إغتيال حسني مبارك ، على العموم هذه الجو العدائي الذي خلقته الخرطوم مع جيرانها مكن المعارضة من أن تتحرك بحرية حول السودان و تكثف من عملها النضالي ضد النظام ، و هذه المكتسبات الدبلوماسية تبرع بها النظام و لم تكن يوماً نتاج جهد أصيل منها .

الآن المعارضة لم تبرح هزالها في كيفية التعامل مع العالم من حولها ، فهي معزولة و ضعيفة و كان يمكنها بتحركات بسيطة أن تكسب أراضي جديدة و تمد رئتيها بأكسجين الدعم الإعلامي أو المادي ، لكنها استمرأت الشكوى و استخدام لغة الضحية ، الآن في ظل هذه الأزمة فإن المعارضة لم تعلن دعمها لأي من المعسكرين لا لأنها تربطها مصالح مع كليهما بل لأنها لا ترى أن هذه قضيتها ، و إن كنت أرى أن هناك فرصة سانحة في ظل تقاعس النظام أن نقوم نحن بخطوة للأمام ، نتقارب فيها مع أحد طرفي الأزمة و أن نوثق علائقنا به ، و هي مسألة يسهل فيها الإختيار ، ففي الوقت الذي تعتقل فيه السعودية ثلاثة من ناشطي المعارضة و تستعد لتسليمهم للخرطوم ، و هي الخطوة التي بدون أدنى شك تتهدد حياتهم ، تجد الإمارات تُعلن في ذات الوقت حرباً بلا هوداة على الربيع العربي و موجات التحول الديمقراطي في المنطقة و في ظل تآمرها مع نظام القاهرة الديكتاتوري الذي يحتل جزء من أرض السودان ، في ظل هذه المعطيات نجد أن على الطرف الآخر تقف الدوحة و وراءها آلة إعلامية جبارة لا يمكن بأي شكل خسارتها أو “الزعل” منها بل يجب مسايستها و إقناعها بأننا نستحق أن تفرد لنا ساعات من بثها كما فعلت مع معارضات مجاورة ، تقف قطر و هي في نفس الوقت تدّعي أنها تدعم الحريات و الديمقراطية ، ألا يُمسك المرء من يد ما قاله ! ، تقف و هي التي في بحث دائم عن شركاء إستراتيجيين في عمق القارة الأفريقية ، فنحن و هي نعلم أن رهانها على النظام في الخرطوم أملاه عليها واقع أنه يحكم منذ ثلاثة عقود ، فلا يمكنها أن تنعزل عنه  و لا هي مكلفة أُفٙضِل بإسقاطه نيابة عنّا ، فهي مهمة المعارضة التي يجب أن تتحرك لتنهي عزلتها و تصنع لنفسها واقعاً جديداً .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى