أشياء بسيطة: مدن وقضايا منسية وحقوق مسلوبة، رحلة إحياء الإنسان والأرض (1)
أولًا:
“لا يتحقق السلام بغياب الحرب، وإنما يتحقق بوجود العدل”.
الواقع بمحليتي عديلة وأبو كارنكا في شرق دارفور، يمثل نموذجًا واضحًا للتهميش التنموي الممنهج الذي مورس من قبل النخب التي تعاقبت على حكم السودان. وتحكى هذه الحكاية بأسى بالغ ومرارة كبيرة حين نعرف أن ولاية شرق دارفور بها نحو (23) بئرًا للنفط هي حقول “شارف وسفيان والطرافية”، بالإضافة لحقل “زرقة أم حديد” الذي تشترك فيه الولاية مع ولاية غرب كردفان الواقعة تحت مربع ستة النفطي، وأن هذه الآبار كانت تضخ ما لا يقل عن ثلاثة آلاف برميل في اليوم الواحد، قبل اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل. وبينما يستخرج من المنطقة هذا الرقم الكبير، يعيش سكانها في ظروف بالغة القسوة، محرومين من أبسط مقومات الحياة الكريمة كالمياه النظيفة والرعاية الصحية والتعليم الجيد.
عقب تعيين حكومة ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بنظام البشير (1989 – 2019م)، ومواصلة للنهج الذي أرسته الثورة في تحقيق المطالب بالطرق السلمية؛ أقيم اعتصامًا سليمًا في المنطقة الشرقية لولاية شرق دارفور، وتحديدًا في منطقة “جاد السيد”، نظمه أهالي مناطق البترول في مارس 2021م، ورفع المعتصمون حينها مطالبهم. وكانت المطالب تعكس نمطًا تاريخيًا من سياسات التنمية غير المتوازنة، حيث تتركز المشاريع التنموية والخدمات في مناطق محددة من السودان، بينما تُترك المناطق الطرفية في حالة من الإهمال المزمن، فالمفارقة الصارخة تتجلى في أن المنطقة، رغم احتضانها لحقول النفط، إلا أنها تفتقر حتى لأساسيات البنية التحتية والخدمات العامة.
هذا النمط من التهميش يكرر نفس السيناريو الذي شهدته مناطق أخرى غنية بالموارد في السودان، حيث يتم استغلال الثروات المحلية دون أن ينعكس ذلك على تحسين مستوى معيشة السكان المحليين.
وتأتي مطالبة المعتصمين وقتها بمراجعة التعويضات وإعادة تقييم الأصول المتضررة من عمليات النفط كمؤشر على استمرار سياسات الإقصاء الاقتصادي التي مارستها الحكومات المركزية المتعاقبة. ويمثل غياب الخدمات الأساسية في منطقة غنية بالموارد شاهدًا على فشل سياسات التنمية في تحقيق العدالة في توزيع عوائد الثروة، مما أجج مشاعر الإحباط والتهميش لدى سكان المناطق في الأطراف، وعمق من الفجوة التنموية بين مختلف مناطق السودان.
ذلك الاعتصام شكل بارقة أمل كبيرة لإعادة النظر في إعادة توزيع الموارد وتنفيذ بقية المطالب، إلى أن جاء انقلاب 25 أكتوبر 2021م، والذي عادت معه البلاد مرحلة للوراء، وبدت تخفت شموع الثورة المتقدة، وأصبح الهم الشاغل هو استعادة مسار التحول المدني الديمقراطي واستعادة الثورة حتى اندلعت شرارة حرب 15 أبريل 2024م.
إن آثار حرب الخامس عشر من أبريل، قد طالت مختلف مناحي الحياة في السودان، ولم تسلم من ذلك حقول النفط. ففي مايو 2024م، تبادل طرفي الحرب الاتهامات بشأن حرق حقول النفط في “سفيان” بشرق دارفور، و”زرقة أم حديد” الذي يقع أيضًا في غرب كردفان، وخلف هذا الحريق آثارًا بيئية بالغة جعلت تلك المناطق حتى الآن عرضة للتلوث والتدهور البيئي واحتمال مخالطة المواد المتسربة بالمياه الجوية وتنذر بكارثة بيئية قد تمتد آثارها لسنوات قادمة.
ويعاني السكان المحليين من نواح عدة؛ فمن جهة يواجهون شبح التلوث البيئي الذي يتسلل إلى هوائهم ومائهم وغذائهم، ومن جهة أخرى معاناة الحصول على الرعاية الصحية الأساسية والتي كانت متردية في الأساس، عوضًا عن أن المنطقة قد شهدت تدفق أعداد كبيرة من الفارين من جحيم الحرب، وتزاحم غير مسبوق حول الموارد الشحيحة، بجانب ضعف الاستجابة لهذه الحالة الطارئة من كل الجهات المعنية.
هذه مشاهد بسيطة لمعاناة هذه المنطقة منذ زمن قديم وحتى اليوم، وتنعقد الآمال على مرحلة ما بعد الحرب والتي يجب أن تُوضع قضايا مناطق إنتاج البترول كأحد أهم القضايا في طاولات التفاوض وضرورة واجبة بمراجعة إعادة تقييم الأصول المتضررة من عمليات النفط. ومن ثم إزالة التهميش وآثاره عبر حزم وتدابير مرضية وعادلة، والمشاركة المجتمعية في إدارة الموارد وصنع القرار، والتأسيس لمناطق صناعية ومستدامة بيئيًا، وخلق فرص عمل متكافئة للمجتمعات المحلية ومشاريع تنموية تخدم المجتمعات المتضررة وإعادة بناء المنظومة الصحية المنهارة وكذلك مؤسسات التعليم. كما يجب أن يشمل أيضًا إجراء تقييم بيئي شامل للمنطقة، ووضع خطة متكاملة لإعادة تأهيل البيئة المنهارة.
هذه الحرب، رغم ما إقترفته بحق السودانيات والسودانيين، إلا أنها -حين تضع أوزارها- تمثل فرصةً سانحةً لإعادة تأسيس الدولة السودانية على قدم من المساواة ومعالجة كافة الاختلالات التي صاحبتها منذ فجر الاستقلال، وهي فرصة ليكون الوطن مكان أفضل مما كان عليه.
أخيرًا:
“إنّ الإنسان لا يرث الكرامة ولا المهانة، بل يصنعها بنفسه “.